تبتدأ الرواية بتحذير
مفاده أن في هذه الرواية “قليل من الحقائق، كثير من الخيال، وثرثرة.. تماما مثل
الحياة”، ربما كانت غاية هذا التحذير المخاتل هو طرد أولئك المتطفلين الذين يبحثون
في النص عن حقيقة أو واقع، إذ لا حقيقة ولا كذب في النص، ليس فيه سوى أسئلة تنتج
عن أسئلة وتولد أسئلة في متاهة لا يهمها الوصول إلى حل للأحجية، بقدر ما يهمها
مواجهة المونيطور.
ليس النص إذن، سوى
تخييل نتوصل من خلاله للتعرف على تلك الحقيقة الكامنة في كل كذبة كما قال كالفينو،
أو ربما ليس النص سوى بصقة في وجه عالم لا يهتم سوى بتقسيمات ثنائية صارمة، من
قبيل: الحقيقة والكذب، أو الواقع والخيال، أو العقل والجنون..
لا حقيقة في العالم
إذن ولا عقل، لأنه عالم مجنون، حكامه من الجنون بحيث زاحموا المجانين حتى في
مارستانهم الصغير، وبدأوا يقضمون منه في كل مرة لينشؤوا مؤسساتهم “العاقلة”
و”النافعة”.
ربما كان من حسن حظ
المجانين أن التاريخ لم يرغب فيهم، وأنه سرعان ما طردهم خارج مؤسساته وكتبه. من
حسن حظهم أن جنونهم مَوقَعهم على الضفة الأخرى من العقل؛ هذا العقل الذي أفرطنا في
مدحه إلى درجة نسينا أنه مشتق من العقال، أي القيد والحبل الذي يكبح الذات عن
الخروج عن قيم الجماعة ومواعظها المكرورة. من حسن حظهم أن اسمهم اقترن بالاستتار
والظلمة، ذاك أن العرب تقول “جن الشيء يجن جنونا إذا استتر.. أجن الليل الشيء إذا
غطاه بظلامه” (الرواية، ص252). من حسن حظهم أنهم خلقوا في عالم يعبد النور، ويمدح
كل ما يتصل به من دلالات.
ولكن، هل المجنون حقا
يعيش في الظلمة، أم هو الوحيد الذي يبصر النور؟ لا أقصد هنا نور التاريخ أو
المؤسسة أو الجماعة، بل النور الذي ارتبط بلحظة الخلق، حتى قبل أن تبدأ الخليقة
وتنشر ظلامها.
إن رواية أسامة
العيسة مجانين بيت لحم نموذج لهذا الجنون المستنير، إذ أن كافة مجانينها جنوا من
كثرة عبقريتهم، فبين هؤلاء المجانين تجد الشاعر والنبي والكاتب.. كما تجد نماذج لم
تحتج ألقاب المؤسسة لتعبر عن رؤيتها الاستثنائية للوجود، ذاك أن المجانين وحدهم هم
من يستطيعون أن يعبروا بكلمات قليلة عن ماهية العالم و”حقيقته”، ولعل هذه المقاطع
من الرواية تؤكد هذا الطرح:
“أنتم أيها الرجال
دائما لديكم ولكن..، لكن عند الحب، ولكن عند الزواج، ولكن عندما ينام أحدكم مع
امرأة، ما قصة هذه اللاكن؟ (..) أنت رجل تفهم، وهذا أمر نادر، لماذا أتينا إلى
الدنيا بدون أن يسألنا أحد؟ ثم تقرر جنسنا، رجل وامرأة، بدون خيار ولم يحق لنا
اختيار العائلة، ولا الوطن، ولا الزواج، ولا أي شيء…!” ص162
“أصبح الجميع مجانين
والبلد مجنونا، وكل شيء جنون في جنون (..) بما أن العالمين أصبحا واحدا، فلماذا لا
تأتي معي؟” ص247
“الجنون هو في نهاية
الأمر امتياز، فالمجنون يعيش بدون تكليف أرضي أو سماوي، ليس مطلوبا منه تسديد
فواتير الأرض أو السماء، ليس على المجنون حرج، تعال معي يا رجل”. ص250
بالإضافة إلى هذه
الحكم النادرة، لم تخلو الرواية من نماذج استثنائية، لم تكتف بفهم العالم، بل شرعت
في تأويله وبناء نظريات لشرحه، ولعل أهم هذه النظريات، هي تلك التي خرج بها أحد
سكان دير الدهيشة (اسم مستشفى المجانين الذي تقص الرواية حكاية سكانه)،
ليسميها بـ”ثنائية الجُعار والأفندية”،
ومفادها أن “الطبقة السياسية التي تتكون من أفندية المدن وإقطاعيي الريف، استمرت
في قيادة الشعب الفلسطيني، واستغلال أبنائه “الجعار” وهم في تعريفه الذين يجعرون
أي يرفعون أصواتهم تأييدا لهذا الزعيم أو ذاك، وزجهم في أتون النار، دون أن تقدم
طبقة الأفندية أي تضحيات تذكر، وكلما أصبح أحد من طبقة “الجعار”، لظروف مختلفة، في
موقع قيادي، يتحول إلى واحد من الأفندية. (ص139)
هذا المجنون الذي قسم
التاريخ إلى جعار يصرخون وأفندية يتقلدون الحكم بفضل هذا الصراخ، لم يعدم أمثاله
من المجانين، الذين اجترحوا نظريات تاريخية أخرى، لعل أبرزها تلك التي اجترحها
مجنون آخر في نهاية الرواية ليلخص تاريخ فلسطين منذ سبعة آلاف سنة في “فردتي حذاء”،
أولهما حذاء داس أعناق الشعب بسلطته، والثاني حذاء الشعب المهان المذل الذي رفُع
أخيرا لرشق الرئيس الأمريكي، باعتباره رمزا لوجه “الوالي، والعشار، والآغا،
والباشا، والبيك، والرئيس، والبصاص، ورئيس البلدية، والناطق الإعلام، وعضو المكتب
السياسي، والأمين العام، والزعيم الملهم، والزعيم الرمز.. فردتان في وجه الزمن
المائل”. (ص237). ليتضح من ثمة، أن التاريخ الماكر الذي أبى إلا أن يطرد المجانين
من بين أسطره، نسي أن بين السطور بياضات وثغرات، لا يُنطقها ويبعث فيها الحياة،
سوى صوت المجنون الذي ضرب بعرض الحائط كل أوامر المجتمع ونواهيه.
ولعل أكثر ما يثير
الاهتمام في الرواية هو بناؤها، الذي قُسم إلى ثلاث أسفار، أولها سفر التكوين، ثم
سفر من لا سِفر لهم، وأخيرا سفر المشمشية. فإذا كان السفر الأول يتناص بعنوانه مع
النص المقدس الإنجيلي، ويبحث في لحظة خلق دير المجانين المسمى بالدهيشة -إما
بإقرانه بدهشة الباشا المصري من جمال الجبل، أو باسم الدكتور داهش الذي جاء
بالديانة الداهشية- فإن السفر الأخير -الذي انبثق عنوانه من أغنية “في المشمش”
التي عبرت بصوت الشعب عن زمن الاستحالة والعجز- قد رسم نهاية الدير بسبب طمع
المؤسسة التي لم تكتف بأرض العقلاء فبدأت تقضم من أرض المجانين، وتقسمها بين وزارة
الشباب والمعهد الروسي، الذي ما فتئ أهالي المنطقة أن سموه بدوار بوتين.
بين جنون لحظة الخلق
المرتبطة بالدين، ولحظة الموت المرتبطة بالسلطة، انبثق بين الاثنين سفر من لا سفر
لهم (الذي يتوسط الرواية ويحتل أكثر من نصفها، في رغبة مستميتة لإعطاء صوت لمن
يستحقون فعلا هذا الصوت)، ليطلعنا على حكايات “مجانين عقلاء” أو “عقلاء مجانين”،
كان كل أملهم أن يعرفوا صوت وقع الأقدام على الإسفلت بعد ما قضوا عشرات السنين لا
يعرفون سوى بلاط المستشفى البارد، أو أن يروا السماء كاملة خارج المكعبات التي
أحكمت المؤسسة والتاريخ والمجتمع صنعها في معاهدة صريحة، قوامها: “كن كما أريد،
وإلا مسخت سماءك إلى مكعبات”، لينتقل المجنون من ثمة من غير ذنب واضح (بغض النظر
طبعا عن الجريمة الكبرى التي اقترفوها في حق الجماعة أي الاختلاف)، إلى سجن لا تموجات
فيه ولا أشكال سوى المكعبات:
”عندما تطفأ الأضواء،
ويستكين السجين إلى برشه، يصوب عينيه إلى الشباك المشبك، فتصطدم عيناه بسماء
المكعبات، يحاول تذكر السماء التي يعرفها، ويقسم بأنه عندما يخرج فسيحملق طويلا في
السماء الرحبة التي عرفها ذات يوم ولم يتخيل في أسوأ كوابيسه، قدرة أحد، أي أحد،
على مسخها إلى مكعبات”. ص240
ختام القراءة أننا
جميعا مجانين، كلنا أحفاد عُجيل المقدسي الذي نطق بجملته الخالدة: “من عرف الله
سار، ومن سار طار، ومن طار حار”، جاهلا أن قولته ستبعث بعد قرون مع أحد مجانين
الدهيشة، لتصبح: “من عرفه ومن لم يعرفه سار، ومن سار طار، ومن طار حار.. كل منا
سَطَحار”. (الرواية، ص247)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق