أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 23 فبراير 2021

أيقونة مخيم الدهيشة .... قرن في مغالبة الاحتلالات




 


قبل نحو أسبوعين، سألت حسن، عن أبو شريف، قال: أبو شريف لم يعد كما كان.

حسن ابن صفي، وابن أبو شريف، أحد أكثر رموز مخيم الدهيشة، تقديرًا واحترامًا، وعندما التقي حسن، أسأله دائمًا، عن أبو شريف، وتكون اجابته دائمًا إنه في صحة جيدة.

رحل عبد القادر حسن منجد اللحام (أبو شريف)، أحد أشهر المعمرين الفلسطينيين، يوم أمس، عن أكثر من قرن، عاش في مخيم الدهيشة، منذ تشرده من قرية بيت عطاب، في عرقوب القدس، وعاش معاناة اللاجئين في النكبة الأولى، النكبة الثاني، والنكبات التي لم تَعد تُعد.

عاصر أبو شريف عدة سلطات مرت على فلسطين، كما كان يقول وهي: تركيا، والانتداب البريطاني، والحكم المصري (في جنوب فلسطين)، والحكم الأردني، ثم الاحتلال الإسرائيلي، والسلطة الوطنية الفلسطينية.

وكان يمازح أبناء المخيم قائلاً: "أنتم بصلتكم محروقة، تريدون انجاز التحرير بسرعة، انظروا إليَّ كم سلطة أو احتلال اختبرت، وما زلت صامدًا، وصابرًا".

تميز أبو شريف بدماثة الأخلاق، واستقبل في منزله، خلال العقود الأخيرة عددًا كبيرًا من طلبة العلم والباحثين، وصانعي الأفلام ليروي لهم تجربته، ومعاناة شعبنا. وتحوّل إلى مصدر مهم للتاريخ الشفوي، واعتبر ذاكرة شعبنا الحية. زرته رفقة الشيخ عبّاس النمر، والباحث الراحل مصطفى عثمان. طوّر في سنواته الأخيرة، ميثولوجيا جميلة عن القدس، وما حولها.

أنجز حفيده هشام، أفلامًا توثيقية عن جده، معتبرًا مثل آخرين، أبو شريف كنزًا. وتمكّن قبل سنوات قليلة، من التسلل إلى قرية بيت عطاب، واتصل مع جده، الذي تحوّل إلى دليل له، عبر الهاتف، وبقي معه حتى أوصله إلى شجرة التين العزيزة على قلب الجد، التي زرعها قبل النكبة الأولى (هل هي الأولى فعلاً؟)

احتفلت مؤسسة إبداع في مخيم الدهيشة في شهر آب الماضي، بإضاءة شمعة المئة عام لأبي شريف، في احتفال حميم.

رحل أبو شريف، وهو يهجس بالعودة، وطوبغرافية قريته، وكان يتذكر كل شجرة زرعها في القرية، وأنذر إذا تحررت فلسطين، وتحقق حلم العودة أن يعود مشيًا على الأقدام إلى قريته، واعتبر فلسطين قلب العالم العربي، أمّا القدس فهي بالنسبة له، قلب العالم. الغريب أن تجربته المريرة مع العرب ومع العالم، لم تغيّر رأيه هذا.

الجمعة، 19 فبراير 2021

أفروديت البيسانية..!


 


في أوّل عيد حب في زمن الكورونا، توارى الحمر، في بلادنا، وربّما في بلاد الآخرين، الحب يتضع أمام الوباء.

سلطة آثار الاحتلال نشرت صورة لأفروديت، آلهة حب فلسطينية قديمة، وبجانبها من أسفل، لمدققي النظر، آيروس، عثر عليها في حفريات في بيسان القديمة المتجددة لدى كثيرين في أسماء بناتهم، وأحلامهم، وأغاني فيروز.

وفق الآداب الأسبانية عرف عرب الاندلس آيروس، ومثلوه في تماثيل النساء عند أقدام الحبيبات، تمامًا مثل أفروديت البيسانية، التي مثّلها صاحبها بالطين، ربما حاول تقليد أولئك المثّالين العظماء، التي خرجت أفروديت من أزاميلهم تنطق. فن البسطاء الفطري مقابل فن العظماء الأرستقراطي.

ولكن بعد كل هذه العقود، تتساوى جميعها، على الأقل، في الأهمية الأثرية.

الاثنين، 8 فبراير 2021

عازف الفرح يغادر مخلفا حزنا وأسى



خرج ناصر صبح همّاش، هذه المرة، من منزله في مخيم الدهيشة، كما يفعل دائمًا، ولكنه لن يعود إليه، ذهب إلى مستقره الأخير في مقبرة قبة راحيل في بيت لحم، وسار خلفه عدد كبير من المشيعين.

لن يرى أهالي المخيم، وبيت لحم، كما تعودوا، همّاش، أحد أشهر المصابين بمتلازمة داون في المحافظة، مرة أخرى، بملابسه المهندمة، يطرق أفراحهم وأعراسهم، ويعزف، محركا يديه في الهواء، على إيقاع الأنغام والأغاني، ويكون دائما مرحبا به، وكأن الأعراس لا فرح فيها بدون حضوره الطاغي.

ودع محبو همّاش، صديقهم الذي يعتبرونه واحدا من أفراد عائلاتهم، بحب كبير، بعد وفاته المفاجأة، وأيقنوا مدى الفراغ الذي سيتركه العازف بدون أوتار في أفراحهم.

نظام همّاش، الذي أحب دائما أن يكنى بأبي عصام، الحياتي، روتيني إلى حد كبير، يستيقظ ظهرا، ويجهز نفسه، وبعد أن يرتدي ثيابه، يخرج، ويعود إلى المنزل في الثالثة فجرا.

يقول الفنان التشكيلي عايد عرفه ابن مخيم الدهيشة: "أبو عصام موسيقي لا يفوته عرس أو حفلة، إلا وقد اتخذ زاوية قريبة قدر الإمكان من السماعات، يعزف على آلة عود غير مرئية، بسلطنة وشغف من أول دقة في الحفل إلى أخر دقة. غالبا ما يضع نظارة سوداء على عينيه أو على رأسه وسيجارة مثبتة على إذنه، يمشي بتأني وينتبه إلى مظهره ونظافته ويرش العطر في كل فرصة ممكنة".

يضيف: "يعرف أهل المخيم بأسمائهم وأشغالهم وصفاتهم، والأهم يعرف مواعيد أعراسهم، لا يغيب ولا  يتأخر عنها، لا يركب التاكسي ولا يحاول أن يوقف السيارات بل يتلقفه المعارف والمحبون الكثر، ويقلونه إلى مبتغاه، يعيش كنجم حفلات يستفيق في الظهيرة ويعود أدراجه وجه الصبح، يلبس ويتأنق كفنان، يحمل في جيوبه أو كيسه النايلون الأسود، أشرطة كاسيت لمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم وفريد الأطرش وغيرهم".

أنجز المخرج أحمد همّاش، فيلما قصيرا عن عمه ناصر، بعنوان: عمي ناصر، يظهر يوما من حياته، من صحوه وطقوس النظافة المبالغ فيها، واعتنائه بهندامه، وكوي كل ما يرتديه حتى الجرابات والملابس الداخلية، وتقديره لرقم سبعة، فهوي يفعل معظم الأشياء سبع مرات.

يعرف حلاقو المخيم، ناصر، ويقدمون خدماتهم له، يقول عرفة: "صالون علي عودة، يعرف ويفهم طلب ناصر؛ ستة وجوه حلاقة، رغوة كثيرة وحلاقة تجلي تشبه المساج، شاهدت ناصر مرة ينام ويغفو أثناء الحلاقة ويستفيق طالبا حلقة سابعة إضافية. ربما كان حظ ناصر السعيد في عائلته التي قدمت نموذجا يحتذى به في رعاية ناصر وهي تحتفل بعيد ميلاده كل عام".

يضيف عرفة: "كان ناصر وكأنه قسط من البهجة في ثنايا انتكاساتنا السياسية وهمومنا الحياتية، وعلى مدى ثلاثة أجيال وأكثر صنع ذاكرة جماعية،أاغلب من في المخيم لديهم صورة مع ناصر. عاش الانتفاضتين الأولى والثانية وبقي ملتزما بهيئته وبرنامجه الفني، وبظرافة حضوره وضحكاته وعزفه الخفي".

وصف علاء الصرفندي الذي يدير محلا للأجهزة الخلوية على شارع المخيم الرئيس، صديقه ناصر بأنه: "هرم المحبه وبوصله السعادة والفرح".

لدى عرض فيلم عمي ناصر، في مؤسسة إبداع-مخيم الدهيشة، كرمت المؤسسة ناصر، بحضور عائلته وجمهوره. يقول خالد الصيفي مدير المؤسسة: "ناصر صبح،  إنسان بسيط، دائم الظهور في أزقة المخيم الذي لا يزال ناسه ينتظرون تحقيق حلم العودة، حجم  التعاطف واللوعة والحزن والألم، على رحيله، يعني أن حب الناس يتأتى  بمقدار الانتماء إلى أمالهم وآلامهم".

أمين سر حركة فتح في إقليم بيت لحم، محمد المصري، يصف ناصر، بأنه: "عازف الفرح، وصاحب القلب الطيب"، ويخاطبه: "سنفتقدك في أفراحنا ومناسباتنا السعيدة يا ناصر، لن تكون ساحات مخيم الدهيشة مليئةً باللهجة كما لو انك هناك تنشر السعادة".