أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 29 نوفمبر 2017

"شاعر...لكن..!"




قبل ساعات من نهاية عام 2015، وفي أجواء شديدة البرودة، والسماء تبكي بشدة، جلسنا (اياد، وصالح، وعزيز، وأحمد، وأنا) في حضرة استاذنا عيسى العزّة، في منزله بمخيم العزّة.
المرة قبل الأخيرة التي دخلت فيها هذا المنزل، في شباط 2002، عندما كان مخيم العزّة محاصرًا، والاحتلال يُنفذ في بيت لحم عملية سمّاها (السكين في الزبدة)، تسللت أنا وزميلي إسماعيل سرحان إلى منزل الأستاذ عيسى للاطمئنان، وعندما خرجنا، كنا محملين بالمعنويات التي بثها فينا أستاذنا، رغم الدم المسفوح في شوارع المخيم، وعلى جدرانه.
العزّة، وبجهود الصديق عيسى قراقع، أصدر ديوانه الشعري الأوّل، وهو على أعتاب الثمانين. لعيسى العزّة بصمة على أجيال من التلاميذ في مخيم الدهيشة. وهو المخيم الذي يُمثل له الكثير.
الأستاذ عيسى؛ كتب العديد من قصائده، على ألواح صفوفنا، وكنّا ننقلها على دفاترنا..وهو من نبهني إلى كتاب الرافعي (أوراق الورّد)، الذي يناسب ولدًا على أعتاب المراهقة، ليغذي مخزونه اللغوي.
في تلك الجلسة، روى لنا الأستاذ عيسى عن يومياته كطالب في المدرسة، عندما كان الشاعر خليل زقطان أوّل مدير لها. كان الأستاذ عيسى يأتي من مخيم العزّة، ماشيًا حافيًا، على شارع القدس-الخليل، وبشورت، مثل غيره من أبناء اللاجئين، الذين يرتعدون من البرد، ولكن ليس أمامهم إلا هزيمة الواقع المرّ.
وفي ختام سنة دراسية، طُلب منه أن يلقي قصيدة في حفل نُظم في مخيم الدهيشة، حضره أولياء الأمور والمخاتير، ومدير ومعلمو المدرسة.
كان الطفل عيسى العزّة حافيًا، وعندما نظر حوله، كان معظم التلاميذ أيضًا حفاة، ولكنه فكر في الصعود على الطاولة التي سيلقي منها القصيدة، وهو ينتعل حذاءا، كنوع من التقدير والاحترام للكبار الحاضرين غير الحفاة، خصوصا الشاعر خليل زقطان الذي ترك أثرا لا يمحى عليه. تنبه بان زميله طلال مزهر (الحاج المرحوم طلال فيما بعد) ينتعل حذاءا، فطلب منه إعارته الحذاء، فوافق مزهر، طيب القلب (كما عرفناه لاحقا)، على ذلك بسرور، وخلع الحذاء ومنحه لزميله عيسى العزّة، الذي تقدم بثقة إلى الطاولة، ولكن حدث ما لم يتوقعه، فردة حذاء انزلقت من قدمه، ولا يعرف كيف وإلى أين ذهبت؟ فلم يكن أمامه إلّا خلع الفردة الثانية، وألقى القصيدة حافي القدمين.
ولد الأستاذ عيسى عام 1941 في تل الريش-يافا، وقال في قصيدته (طــــفـــل ... لــكــــن ...) وكأنه يتحدث عن نفسه:
"أعرف أنك أقدر من قادر ....
يا هذا الطفل لك الغد والآتي
لك حبي ....... لك يا هذا الطفل حياتي"
الشاعر الطفل رحل اليوم في مخيم لاجئين، ودفن قرب مخيم لاجئين..!

قلعة دوك

الثلاثاء، 28 نوفمبر 2017

قلعة دوك: أريحا من الأعلى..!





































































































































على قمة جبل قرنطل المطل على مدينة أريحا، تظهر من بعيد قلعة محاظة بجدار، لا يعتبر الوصول إليها سهلاً، بسبب تضاريس الجبل الحادة وخطر الانهيارات، يزيد من صعوبته وجود معسكر لجيش الاحتلال بالقرب منها، يحوي أبراج رصد متطورة تكشف كامل مدينة أريحا والأغوار في الجانب الأردني.
تسمى القلعة (دوك) أو (داجون)، ومنها أخذت بلدة الديوك اسمها، ومنها يمكن رؤية عربات التلفريك التي تنقل الزوار من عين السلطان إلى دير التجربة على جبل قرنطل، في الأسفل، والبرك الزراعية، والمساحات الخضراء، وقنوات المياه، التي تشكل مشهدا فسيفسائيا بالغ الروعة.
يعود تاريخ القلعة إلى الفترة الهلنستية، وبسبب موقعها الاستراتيجي استمرت مأهولة في الفترات: الرومانية، والبيزنطية، والصليبية، والعثمانية، وترتفع أكثر من 170 مترا عن سطح البحر، وما يزيد عن 430 مترا عن تل السلطان، موقع أريحا القديمة المميز تحت سطح البحر.
اهتم بالقلعة هيرودس حاكم مقاطعة فلسطين الرومانية، وأصبحت جزءا من الحصون التي بناها ورممها لمراقبة الحدود والطرق، في المنطقة الجبلية الوسطى لمقاطعته، وأضاف إلى القلعة خندق، ونظام مائي، ومن بعيد تظهر على القلعة سمات المباني العظيمة التي شيدها هيرودس، كحصن الهيروديوم في برية بيت لحم، وقلعة مكاور في الجانب الشرقي لنهر الأردن، قرب مادبا.
وفي العصر البيزنطي أقيم في الموقع كنيسة، تظهر بعض حجارتها القديمة متناثرة، كتيجان الأعمدة، وبقايا الأعمدة، والحجارة المصنوعة من الحجر الرملي المحلي التي تعرف به أريحا، وهي واحدة من معالم النهضة في أريحا البيزنطية، حيث أصبحت مدينة القمر مدينة مسيحية مهمة، تحوي العديد من الأديرة، والقصور كما يظهر في تلول أبو العلايق.
وفي خريطة مادبا الفسيفسائية، التي اكتشفت في عام 1884م في كنيسة بيزنطية في مدينة مادبا الأردنية، وتعود للقرن السادس الميلادي، تظهر أريحا في هذه الخريطة المخصصة للأرض المقدسة، كمدينة مسورة، فيها أربعة أبراج، وبوابتان، وثلاث كنائس وتسعة أشجار نخيل، بالإضافة إلى عين السلطان، شريان أريحا المائي منذ آلاف الأعوام.
والآن يحيط بالقلعة جدار بني من الحجارة التي على الأرجح تعود لمقالع حجارة من خارج أريحا، يعود لنهاية القرن التاسع عشر، عندما بدأت بطريركية الروم الأرثوذكس، مشروعا لبناء دير في الموقع، شمل بناء كنيسة على شكل صليب على أطرافه حنيات، على أساسات الكنيسة البيزنطية، ويعتقد ان هذا البناء تسبب بطمس الآثار القديمة الهلينستية والرومانية وغيرها، ويمكن رؤية أطلال من الركام في الموقع، قد تكون المخلفات التي تم إزالتها لتشييد الكنيسة الجديدة.
جزء من تمويل البناء جاء من روسيا القيصرية، ولكن البناء لم يكتمل، لنفاذ التمويل، ويبقى ما أنجز يشكل "معجزة صغيرة" فرقع الحجارة إلى قمة الجبل، يشكل لوحده حدثا يشاد به، ولعل ذلك تم باستخدام الحمير، واخذ وقتا طويلا.
إلى الجنوب من الكنيسة التي لم تكتمل، يوجد غرف بنيت بنظام العقود نصف البرميلية، قد تعود لعهود أقدم، استخدمت من قبل العمّال والحرفيين الذين بدأوا مشروع بناء الكنيسة الحديثة الذي لم يكتمل، ومن مميزاتها الحنيات الدائرية.
تجربة الوصول إلى قلعة الدوك، تشكل مغامرة يقدرها محبو مسارات المشي، واكتشاف مكان يكاد يكون بكرا، بالإضافة إلى ما يمكن تسميته تجربة روحية، عندما يطل المرء من أعلى قمة لأقدم مدينة في التاريخ.