أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 9 أبريل 2020

لامارتين أمام طاعون القدس..!






أرسل العم جورج لي، صورة لباب الخليل، وقد أُغلق، لم يكن فقط هو من تأثر لإغلاق القدس القديمة، ففي الطرف الآخر، وهو التسمية الأسلوية للإسرائيليين، أبدى الصحافي نير حسون تأثرًا، وهو ينشر أيضا صورة لباب الخليل المغلق، ولكن بواحد من أسمائه المتعددة؛ باب يافا.
في عام 1932م، عندما خضعت المدينة لطموح محمد علي الامبريالي، ضربها الطاعون، وهرب إبراهيم باشا، منفذ سياسة والده من المدينة، وبنى داخل باب الخليل، القشلة لحماية جنوده، والتي صمدت ليتوارثها سلسلة من المحتلين حتى ألت إلى الإسرائيليين. وحللت فيها سجينًا ليومٍ واحد، قبل النقل إلى معتقل المسكوبية في عام 1991م.
وصل لامارتين (1790 - 1869) ، شاعر فرنسا الرومانسي، والسياسي الطموح، في رحلته الأسطورية إلى الشرق، إلى باب الخليل، الذي يسميه باب بيت لحم، ولكنّه لم يستطع دخول المدينة، التي ضربها الطاعون.
يروي، حسب ترجمة الدكتور مي عبد الكريم (رحالة رومانطيقيون: يوميات ومشاهدات، فلسطين والأردن في كتابات فرنسية في القرن التاسع عشر، 2005م) اللحظات الأولى لوصوله باب الخليل:
"إنَّ بوابة بيت لحم التي يشرف عليها برجان متوجان بفتحات قوطية صامتة مثل أبواب القصور المهجورة كانت مفتوحة أمامنا، وكنا نتحرق شوقا لاجتيازها، ولكنَّ وباء الطاعون كان في أشده في مدينة بيت المقدس".
جاء لامارتين إلى الشرق، كما تذكر عبد الكريم، ليس بحثا عن صور التوراة فحسب: "إنما كان يريد أن يواجه المسألة الدينية ميدانيا، وهي مركز تفكيره، بل كان يفكر بتوسيع تجربته حول المجتمعات الإنسانية. وفي الثامن والعشرين من أيار أصيبت ابنته الصغيرة جولي بأزمة تدرن رئوي، وكان الوالدان يأملان بأن مناخ الشرق قد يكون مفيدًا لها".
جاء في الترجمة أن لامارتين أقام في دير مار يوحنا في الصحراء، وهذا أمر مستبعد، وعلى الأرجح يوجد خطأ في الترجمة (التي تحوي أخطاء عديدة بالنسبة للأمكنة والأسماء الفلسطينية). من خلال ما ذكره، أقام ابن طبقة النبلاء المنسلخ عنها الذي انضم للثورة عليها وعليهم، وحاشيته، حول أسوار المدينة، مستنشقًا بكل ما لديه من حواس عبق الأرض التي مشى عليها المسيح، فيتجول في الجثمانية، ووادي قدرون، ويصعد إلى جبل الزيتون على جواده، ليتأمل العمارة الدينية الإسلامية، وقبر المسيح، التي يجوس بينها الطاعون.
يذكر لنا لامارتين، شذرات مما رآه: "كنا نجلس كل نهار أمام الأبواب الرئيسية لمدينة بيت المقدس ونطوف حول الأسوار مارين أمام جميع أبواب المدينة الأخرى، فلم يكن يدخلها أو يخرج أحد منها، فلا متسول يجلس عند حدها، ولا حارس يظهر على عتبتها. ولم نكن نرى ونسمع شيئًا، فالفراغ هو ذاته، والصمت هو ذاته طوال ساعات النهار عند مدخل المدينة التي يسكنها ثلاثون ألف نسمة. وعندما كنا نمر أمام الأبواب الاثني عشر، كنا كمن يمر بالأبواب المتينة لبومبي أو هيركولاتوم".
قد يبدو عدد سكان المدينة مبالغا فيه. وهو من النادرين، الذين يذكرون عدد أبواب المدينة بشكل صحيح.
يذكر: "لم نرَ سوى أربعة مواكب جنائزية تخرج صامتة من باب دمشق، وتتجه على امتداد الأسوار نحو المقابر التركية. وشاهدنا عند مرورنا أمام باب صهيون مسيحيًا فقير الحال مات بالطاعون في هذا الصباح، وقد حمله أربعة من حفاري القبور إلى مقبرة الإغريق. مروا قربنا ومددوا جثة الميت على الأرض، وقد لفت ثيابه، وشرعا بحفر مرقده الأخير بصمت عند أقدام اجيادنا"
يقصد لامارتين، بالمقابر التركية، مقبرتي الرحمة واليوسفية، حسب مسار الجنائز، وليس مقبرة باب الساهرة، ولكن لماذا كانت تخرج الجنائز من باب العمود، وليس من باب الأسباط، وهو المفضي إلى المقبرتين؟
يبدو طبيعيًا أن يُخرج المسيحي ضحية الطاعون من باب داود، الذي يعرفه لامارتين بأحد أسمائه الأخرى: باب صهيون، نحو المقبرة الأرثوذكسية، التي يبدو أنها لم تكن مسورة.
لاحظ لامارتين، أن: "الأرض حول المدينة قد قلبت حديثا بسبب قبور شبيهة بهذه، وكان الطاعون يضاعف من عددها كل يوم، وكان الصوت الوحيد المسموع خارج أسوار بيت المقدس هو النحيب الرتيب للنساء التركيات وهن يبكين موتاهن. ولم أكن أعلم أن الطاعون هو السبب الوحيد لهذا العواء في الشوارع، ولهذا الصمت العميق الذي يلف مدينة بيت المقدس، ولم أكن أظن ذلك لأن العرب والأتراك لا يستسلمون لمصائب الله، لقناعتهم بأن الإنسان لن يفلت من مصيره أينما كان، وليس هناك من طريق تنأى بهم عنها-إنه لتفكير رائع، ولكن يا ترى من الذي يؤدي بهم إلى النتائج الوخيمة".
يشرقن لامارتين، أهالي القدس، وفق تخيلات مسبقة، ويستكثر على نساء القدس عواطفهن-يا لقلبه. لم ينجو هو الآخر من التنميط الاستشراقي.
لم يمكث لامارتين طويلاً في القدس. وصلها في العشرين من تشرين الأوَّل 1832، ثم عاد إلى بيروت في الخامس من تشرين الثاني. ماتت ابنته هناك وعمرها 11 عامًا في 7 كانون الأول.
عاد إلى يافا في شهر نيسان العام التالي 1833م. وبينما كانت زوجته في زيارته للقدس التي فتحت أبوابها، بعد أن غادرها الطاعون، كتب قصيدة رثاء ابنته.
لم يذكر لامارتين، الغزو المصري للقدس، أو أي موقف لإبراهيم باشا، الذي لم تنته حكايته مع المدينة، مع غياب الطاعون. كان في انتظاره وانتظارها، حوادث ستطبع المدينة وفلسطين بطابعها حتى يوم الكورونا هذا.
ولكن تلك قصة أخرى، طويلة، وكثل قصص القدس؛ مدمية..!

الاثنين، 6 أبريل 2020

حلاق دير جرير..!



على درج سوق بيت لحم، مساء أول أمس، روى الغوشي، بصوته الهاديء، وشعره المصبوغ، وشاربه الذي يؤكد نعومته، عكس هدفه، وعذاريه القصيرين، ما اعتقد أنها الرواية التي لا يعرفها غيره، واحتاج إلى أكثر العبارات تأثيرًا في قاموسه المبتسر، وهو يشير إلى الحَلاَّق في دير جرير المصاب بالكورونا، هاتفًا، بأنَّ كل من دخل عنده تلقح على الأرض مصابًا، حتى وصل العدد إلى عشرين متلقحًا مصابين بالفيروس الخفي اللعين، نُقلوا على حمالات.
برودة الأعصاب التي روى فيها الغوشي جذلاً، بعدد مستمعين انحصروا في ثلاثة أنا منهم، قصته غير الحقيقية لحلاق دير جرير، الذي أضحى أمثولة، في زمن الكورونا التي يبحث فيها النّاس، عن أَماثيل، هي إحدى علامات زمن الفيروس، حيث يميل كثير من النّاس، إلى الغرائبي، والإشاعي، والرغبوي، أكثر من أي وقت، أو مثل أي وقت مضى ولم يزل.
لم تكن أم نبيل، على بسطتها، على الدرج، لتعلق، فهي مثل باقي أهالي ارطاس، محجورة داخل القرية، ولم يكن أحد في السوق القديمة، يرغب بمجادلة الغوشي، فالسوق هادئة، رغم أصوات البائعين الخافتة، وفي ظنهم أن الخفوت من متطلبات حالة الطوارئ في أوَّل مدينة عربية عزلها الكورونا، في يومها الحادي والثلاثين.
حلاق دير جرير، هو واحد من أشهر الأشخاص (..حتّى إشعار آخر)، وإن لم يكن اسمه معروفًا على نطاق واسع، في زمن الكورونا الفلسطينيّ. الذي حلق لعامل فلسطينيّ ظهرت إصابته لاحقًا بالفيروس، كان يعمل في مصنع في مستوطنة عطروت الصناعية، وبينت فحوص الحَلاَّق بأنّه ليس مصابًا، ولكنّه تسبب، كما قالت محافظة رام الله والبيرة ليلى غنّام، بإغلاق دير جرير.
بلغتها الشعبية، أوضحت غنّام، في فيديو مباشر غاضب، بأنّها لا تحب لغة التهديدات، ولكن الحَلاَّق، سيوضع في الحجر 14 يومًا، ليس في منزله، وإنما في زنزانة.
وجد الحَلاَّق متعاطفين معه، وصفوه بالشاب المؤدب والخلوق، وإن العزل في الزنزانة يجب أن يكون من نصيب العامل المصاب الذي نقل العدوى لزوجته وأطفاله.
تجنب المتعاطفون مع الحَلاَّق، الأوصاف التقليدية الأكثر التصاقا بتراث الحلاقين، وهي الثرثرة، والطبطبة، حين كان الحَلاَّق يضطلع بمهامٍ طبية، ووجدانية، في حارته أو حيه أو قريته.
أشهر الحلاقين في التراث الأدبيّ العربيّ، هو حلاق بغداد في ألف ليلة وليلة، وهو ثرثار أشر، تتولد من حكايته حكايات، ومن حكايات حلاق دير جرر تتولد حكايات، على الأقل لدى أمثال الغوشي، إلى حين، ظهور أمثولة أخرى.

الجمعة، 3 أبريل 2020

من لا يأكل كعك أبو طاحونة؟



يمشي أبو طاحونة، دافعًا عربة الكعك بعزمٍ يقطع الأنفاس، وهو يقطع 5-10 كلم، حسب تقديري. يخرج فجرًا إلى الفرن، يحمل الكعك، ويُشغّل السمّاعة: كعك..كعك.
يقطع شوارع بيت لحم، وما حولها، يصل أمام منزلي، في منتصف الظهيرة. خلال خضوع بيت لحم للإغلاق وحالة الطوارئ، أسمع صوته، هو واحد من الأصوات القليلة التي تُسمع في الشوارع، كصوت مشتري الحديد والخردة، وبائع شعر البنات.
يبدو ظل مشتري الخردة ثقيلاً نسبة لأسلافه العظام الجائلين، بدون سيارات، في زمننا، وفي زمن من قبلنا، في زمننا كانت مقايضة التوتياء بالكسبة الخليلية السمراء المرّة، توّلد شعورًا لن يتكرر، وفي زمن أقدم، يتذكر الأكبر سنًا منا، منغوم سيعيش معهم طويلاً:
نحاس..برصاص.. يا..قضامة
أمّا صاحب شعر البنات، فمناضل اسمه الترميزي أبو جهاد عبد، يدور بسيارته، مخترقًا الشوارع والأزقة، مجاهدًا، ضاحكاً، نافثًا سيجارته.
سألت أبو طاحونة اليوم، إذا ما زال يقطع نفس المسافة القاتلة التي كان يقطعها قبل الجائحة، أجاب بنعم، وهل البيع نفس البيع؟ وكما تتوقعون، لا يمكن لبائع أن يذكر الرقم الصحيح، حتّى لو كان مطحونا كأبي طاحونة شخصيًا. أجاب: نزل البيع إلى النصف. تغيّر سلوك النّاس الاستهلاكي بعد الجائحة، وشمل كعك أبو طاحونة.
هو نموذج على ما يعتقد البعض بأن ما قبل الكارونا لن يكن كما بعدها. كان أبو طاحونة يبيع 100 كعكة، كما يقول والآن يبيع من 50-60 كعكة. يمشي نفس المسافة، ويربح في الكعكة نفس الربح، أو أقل. ويحني كتفيه نفس زاوية الانحناء، ويستهلك من جسده، ما يُطعم جسد عربته الخشبية، ولكن ما يخيفه أكثر هو غيابه عن شوارع بيت لحم.
أسأله إذا كانت الأجهزة الأمنية تعترضه أو تمنعه؟ فيجيب بالنفي.
يناولني أبو طاحونة أربع كعكات، وعلى عكس ما قبل الكارونا، حيث كان يبيعني كعكه بسعرٍ سياحي، بخلاف سكان الحارة، يتمتم بالسعر العادي الجديد.
أُنتج كعك القدس، على الأقل منذ القرن السادس عشر، ولكن يهودًا ادعوا السبق، وأنهم أنتجوه في الديسابورا. يتحمس الإسرائيليون والفلسطينيون لكل ما يتعلق بالسبق. من كان أولاً في الأرض؟ ومن أكل حمص قبل الثاني؟ ومن تذوق الفلافل؟ إلى من الأحق بالنبيّ موسى، وراحيل. وحتّى الرئيس أبو عمّار، عندما نُقل إليه من قناة التفاوض السرية في أوسلو: غزة أولا. وافق ولكن، لكي يسجل نقطة على بيرس، اشترط أن تكون غزة وأريحا أولاً. ومات رابين وهو حائرًا، بكلام عرفات عندما أعلن الأخير بأنَّ راحيل خالته..!
لا يأبه أبو طاحونة بجدل الكارونا السياسي-الاقتصادي، ما يخشاه أن لا يكون لأمثاله مكانًا في شوارع ما بعد الكوورنا.

أمام النبع المختوم..!










لم يجد الملك سليمان، أوّل سليمان في الدنيا، كما سيصفه القانوني، باعتبار الأخير ثاني سليمان، كما نقش ذلك على أسوار القدس، متباهيًا، وقتًا ليكتب ثلاثة ألف مثل، وهو المشغول بألف زوجة وسريرة. ولكن غيره سيتولى أسطرته. بالتأكيد سيراكم كتبة المكان، ما يهدفون، وسيتولى، عدد لا نعرفهم من مثقفي زمانهم، فعل التنقيح والإضافة، ومن المؤسف أنه سيأتي وقت، يتعالى فيه الكتبة، ويقررون التوقف. ويقبل النّاس، صمت السماء النهائي.
ولكن سليمان، بحكمته، ومراوغته، وبما حبته السماء، بألسنة الحيوان، تسلل إلى ارطاس، ليجلس أمام عينها ويخط، واحدة من أقدم قصائد الحب، ليصف فم حبيبته، واحدة من ألف امرأة، بالنبع المختوم.
أُخْتِي الْعَرُوسُ جَنَّةٌ مُغْلَقَةٌ، عَيْنٌ مُقْفَلَةٌ، يَنْبُوعٌ مَخْتُومٌ-(سفر نشيد الأنشاد 4: 12)
النبع المختوم، معزول الآن وسط قريته المعزولة، ولم يرتفع منسوب المياه فيه، كما يجب أن يكون في مثل هذا الوقت من السنة، وكأنّه أيضًا تفيرس. في اليوم السابع للعزل، تسللت إلى الجنة المقفلة، لأطمئن على الأصدقاء. جلت مع رمزي، الذي غادر مرسمه، ليخدم أهل قريته على مدار الساعة، وشربت القهوة مع فادي الذي وضع نفسه في العزل الاختياري، وزرت رفقة سامر النبع المختوم، واطمأننا على اللوحة التذكارية التي تخلد بناء المماليك لطواحين النبع المختوم، وانتظرت مع الدكتور زيدان عودة العمّال.
وتابعت مع الشرقاوي، بمحاذاة برك سليمان. امتلأت البركتان الأولى والثانية. من هنا شربت القدس على مدار ألفي عام. حتى نكبت النكبة البلاد، وأوقفت مشروع الفلسطينيين القومي على مدى الإمبراطوريات والأيّام.
دمرت الجنة المقفلة سبع مرات أو سبعين مرّة، وما زالت أثار التدمير شاهدة، وذبح سكانها سبع مرات، وفي كل مرة تنضو الرماد. في مواجهة الكورونا، يعيد النّاس اكتشاف أنفسهم، والقدرات التي تكمن فيهم. قال الدكتور زيدان: "تصدق؟ حتّى نحن غير مصدقين أنه يمكن أن يكون لدينا كل هذا. نعتمد على أنفسنا، وسننتصر".

الأربعاء، 1 أبريل 2020

هالة والقدس..!



تعرب هالة السكاكيني، في ذكرياتها عن قدسها، عن ودها لو استطاعت كتابة رواية تجري أحداثها في القدس، وتمنت لو استطاعت التقاط مزاج القدس وروحها، وهي مؤهلة لذلك لعيشها في مجتمع تعددي (فوق قومي)، هو الأقرب، برأي، لروح القدس.
لم تكتب السكاكيني، الرواية التي تمنتها، ذات يوم مقدسي، وهي تراقب الناس، في الحافلة التي تتنقل بها من مدرستها إلى منزل العائلة في القدس الجديدة.
شغلني الفشل الفلسطيني والعربي، في كتابة رواية تلتقط روح القدس، واعتقدت بأنّ الثقل الديني والعاطفي والسياسي للمدينة، يكبّل المبدعين، وأن التحرر من هذا الثقل، قد يكون شرطًا لكتابة رواية القدس.
وسنجد كتّاب السير واليوميات، أنجح في التقاط روح المدينة، لأسباب عديدة، كواصف جوهرية، والإسرائيلي عاموس عوز، وخليل السكاكيني، وإحسان الترجمان، وغيرهم.
فكرت السكاكيني، بتدوين مذكراتها، بعد زيارتها وشقيقتها دمية، لمنزل العائلة المحتل في القطمون، بعد الاحتلال عام 1967م، مشيًا على الأقدام، تجنبا لاستخدام المواصلات الإسرائيلية، كما ذكرت في كلمة ألقتها في جمعية الشابات المسيحية في رام الله بتاريخ 15-6-1999. وهو ما يرمز إلى فعل مقاومة سلبي، متاح أنذاك لدى الشقيقتين السكاكيني.
ولكن العلاقة مع الآخر العدو، لن يتوقف عند موقف ربما اصطبغ بمشاعر عاطفية، ففي نفس الكلمة، يساورها، هاجس فلسطيني انتشر فيروسيا وما يزال، ومر بطفرات حولته إلى عصب نفسي، يحتاجه المهزوم، ليعلق أسباب الهزيمة على شماعات وهمية، لها علاقة بالآخر، مؤسطرًا جوانب خفية، فوق طبيعية، تتعلق بالعدو يراها المهزوم، وذلك الآخر الأجنبي الفاعل، ولكنّه يبدو متفرجًا.
تكشف هالة، بأنها فكرت في كتابة مذكراتها عن واقع القدس قبل النكبة، وكانت غايتها اطلاع الأجانب وخصوصًا الإسرائيليين، على ما اعتقدت انها حقائق كانوا يجهلونها عن الأحياء العربية، فيما يسمى الآن القدس الغربية، وهذا ما جعلها تختار اللغة الانجليزية، لغة تخاطب.
رغم إن مفهومي الأجانب والإسرائيليين، عائمين، وتنميطين، إلا إن الفضاء المعرفي، يكشف لنا بأنّ الأجانب والإسرائيليين، هم في الواقع، أكثر ما بذلوا جهودًا معرفيًا عن المناطق التي ذكرتها هالة (وعن غيرها بالطبع). وأي بحث جاد عنها من الضروري أن يعود صاحبه إلى الإنتاج المعرفي الأجنبي-الإسرائيلي.
وحتى بلدية القدس الاستعمارية، وثقت الكثير من المباني الفلسطينية العامة والخاصة، ووضعت لافتات تعريفية عليها، بحياد يناسب سيكولوجية المنتصر المختال، أو ربما هو نتيجة عرضية لخطط التطوير الحضرية، التي يشارك في وضعها نحو خمسين، ممن توصفهم البلدية من أفضل العقول في العالم، الذين يجتمعون في مدينتنا المحتلة، كل عامين، ليضعوا خبراتهم في خدمة المحتلين.
تفضح الترجمة العربية، أسطورة أن الآخرين لا يعرفون أو أنهم لم يعرفوا، وهذا يعني بأنهم لو عرفوا، كان يمكن أن يتغيروا أو يغيروا، وهو المضمن في كلام هالة. فحتّى لو كان الأمر يتعلق بكاتبة مقدسية صميمة، والمحرر قريب لي وجدانيا وإنسانيا، إلا أن الترجمة العربية وقعت في مثالب الكتب الفلسطينية والعربية عن القدس وفلسطين، والسبب معرفي.
تتحدث هالة عن رحلة من مدرستها في الكولونيولية الألمانية، في القدس الجديدة، إلى القدس الشرقية. تترجم المترجمة اسم المعلم الذي تذكره هالة إلى برك سليمان، والمقصود بالطبع بركة السلطان، ولم يصحح المحرر الخطأ، بل عمل هامشا ليقدم شرحا عن برك سليمان، وهو شرح يكتنفه أخطاء.
ونسبة بركة السلطان، إلى القانوني، هو نموذج، على فعل الإلغاء والإحلال الذي مورس تاريخيًا في القدس، فاللوحة التذكارية التي تعدد صفات القانوني المثبتة على واجهة البركة الشمالية، وضعت في الإطار المملوكي، مؤكدة مقرنصاته، هوية الحكام الذين سبقوا العثمانيين إلى المدينة المقدسة.
يظهر في الترجمة العربية، اسم البقعة العليا، والمقصود البقعة الفوقا، وتستخدم الأخيرة في صفحات مختلفة من الكتاب، ثم تعود البقعة العليا، لتطل من جديد. وترد أيضا كلمة الطوري، والمقصود بالطبع حي الثوري.
يبدو حديث هالة عن ما تصفهم بالمسلحين الفلّاحين، والمقصود الثوّار، عن أناس، يسبحون في فراغ، أو كائنات حطت فجأة ربما من كوكب آخر، بينهم وبينها مسافة، حتى لو كان والدها يستقبل زعيمهم إبراهيم أبو دية في منزله (لا تذكر اسمه الأوّل أبدًا، محيلة اسم العائلة إلى كنية)، وكان وجوده حيا، مصدر طمأنينة، للنخب التي سكنت القطمون.
سيبقى المسلحون الفلّاحون، في القطمون ليموتوا، بينما ستغادر النخب وعائلاتهم، كما غادر نظرائهم من باقي فلسطين معتبرين خروجهم، نوعًا من تبكير الإجازة الصيفية، وما أن تنتهي، حتى يعودون، ويجدون منازلهم وأملاكهم، وقد سلمت، بفضل أجساد المسلحين الفلّاحين.
تلجأ عائلة السكاكيني إلى حي هليوبولس القاهري، الذي تحوّل، كما تشير هالة، إلى مستعمرة فلسطينية؛ فبين كل بيت وآخر تعيش أسرة فلسطينية، ولكنها لن تعود، مات المسلحون الفلّاحون، أو جرحوا، أو فقدوا، ومعهم فقدت البلاد، وتشرد العباد، وأصبحوا لاجئين، في الخيام، وليس في شقق وفيلات الهيلوبولس أو رأس بيروت.
في الكتب الفلسطينية والعربية عن فلسطين، الموضوعة والمترجمة، يكتف المحققون، إلى التعريف بالأسماء المعروفة أصلاً، ويتجنبون أي تحقيق، وهذا هو عملهم، للأسماء والأماكن غير المعروفة. ولم تنجو الطبعة العربية، من سيرة هالة، من ذلك.
حظيت الترجمة العربية بمقدمتين؟ هل كانتا ضرورتين؟ لماذا تكتب المقدمات للكتب أصلاً؟ ربما لو استعيض عنهما بدراسة تحقيقية استقصائية، تضع الكتاب والمؤلفة ضمن الشرط التاريخي، لفعل الكتابة.
الكتاب:
*أنا والقدس: سيرة ذاتية، هالة السكاكيني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ومؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، ترجمة هلا الشروف، بيروت، 2019م.