في رواية أسامة
العيسة: قبلة بيت لحم الأخيرة
أسامه العيسه روائي وصحفي فلسطيني، معروف
باهتمامه المتنوعة وثقافته الموسوعية، يهتم بالتحقيقات الميدانية، ينبش في المهمش،
وما يغفل الناس عنه، يحاول أن ينصف من ظلمهم التاريخ، ومن فات عنهم التوثيق، يكشف
في كتاباته عن كنوز بشرية ومكانية ووطنية، وكتتويج لجهوده الإبداعية؛ فاز بجائزة
الشيخ زايد للكتاب عن روايه (مجانين بيت لحم) عام 2015 م.
في رواية (قبلة بيت لحم الأخيره) التي
صدرت عام 2012 وأعيد إصدارها عام 2015 عن دار السنابل، بغلاف لكنيسة المهد أثناء
حصارها عام 2002 على يد جيش الاحتلال. في هذه الرواية يمارس الروائي أسلوبه الذين
يتميز به في تقديم عمل إبداعي بطله العادي (حنا الحردان) يمثل المستقلين وغير
المتحزبين في العمل السياسي الفلسطيني، حنا الذي يحب سميرة الثوريه اليساريه، وعبر
علاقتهما معا يستجمع العيسه المشاهد الروائيه لينسج القبلة الاخيره التي تتوحد بها
البطل مع مدينته وعاصمة روايته؛ بيت لحم. وحمل عبْ البطولة عدد من الرواة
الداخليين ليساندوا حنا في حكايته في المعتقل وخارجه، يستعين بهم ليتمكن من التغلل
عميقا في الحكايات. .
تجعل طريقة العيسه في السرد من المكان
بطل رئيسا، فيما تتحول الشخصيات الى بطل ثانوي وبذلك تغيب البطوله التقليديه في
منحى ما بعد حداثي، يعبر الروائي عن ذلك بلغة بصريه تعكس علاقة المكان بالانسان، ومدى
طبيعة العلاقه المتبادله بينهما ايجابا وسلبا.
مع غياب البناء التقليدي للروايه في
(قبلة بيت لحم الأخيرة )؛ يلتقط العيسه المشاهد والتفاصيل التي ينساها الجميع،بموضوعية
بحثية، ويستند الى ذاكرة المكان لاستنطاقها كي تبوح بذاكره الزمان، يتحدث عن
الكنيسة وما تحتها، وسوق الرابش، والسينما وما تعنيه، والتغيير الذي طرأ على
مجتمعنا، ونحن نحسبه إلى الأفضل، بينما كنا نتخلص من أثقالنا إلى أن تخلصنا من كل
ما يدفئنا في برد الاحتلال.
وقد كان الروائي في مغامرته السردية يغزل
الروايه بأدوات دقيقه، و صبر طويل، ويصنع خيطا رفيعا متماسك يمكن نسله، من العنوان
إلى الخاتمه، وبذلك يتحول السرد الى حيلة روائيه لإدارة العلاقة مع التفاصيل؛
لتكوين المنجز الروائي الذي يقبّلُ فيه الروائي مدينته بدلا من حبيبته سميرة، التي
صارت تركب الباجيرو في صعودها إلى طبقة كانت تسميها بالبرجوازية العفنه، كعادة
اليسار في وصم الطبقات الثرية، ثم صارت سميرة الثائرة جزءا من البرجوزاية الجديدة
في رام الله؛ عندما التحقت بالمنظمات الشعبية وفازت بجوائز أمريكية، وتزوجت من
الطرف النقيض. .
ومع أن المكان هو العمود الفقري
للروايه، وهو بيت لحم بأزقتها وأقواسها وحاراتها وكنيستها وأسواقها ودور السينما؛
لكن بقى الإنسان هو هاجس الروائي العيسه، فهو في الأساس مؤثر ومتأثر ويعرض
بالإنسان الذي كان فلسطينيا ثم صار مزدوج الانتماءات ثم تغير كل شيء، فاصبح الثوري براغماتيا، وصار المستقل
ثائراً، وحلت قضية الجندر محل القضيه الفلسطينيه وتوطنت المنظمات الاهليه محل
التكتل الحزبي،وأصبحت القضية الأم، والصراع الأب؛ صراع حقوق إنسان بدلا من صراع
أصحاب الارض مع الغزاة، وصارت المرجعيه للممولين بدل المراجع الفكريه، فمضى البنك
الدولي يصنع الثوابت، وتزوج الثوار أصحاب الرصاص بمشاريع مربحة، فتحولت القواسم
إلى قواصم، وحدثت انزياحات في الخطوط الحمراء، حتى الباجيرو صارت طموحا في الزمن
الرديء.
للشخصات في روايه العيسه بطولة جماعيه
مشتركه رغم محوريه ودور رائد الحردان الراوي الداخلي الذي ينافس العيسة باعتباره
راويا خارجيا، الا أننا لا نجد فارقا كبيرا بينهما، من حيث الثقافة، لا من حيث
التكوين.
شخصيه حنا/رائد الحردان المحوريه تتمتع
ببطولة باردة، وهي بطولة الانسان العادي فلا دونكيشوتيه، ولا تمجيد ولا لعن، بل
تتعامل مع إنسان له بنقاط ضعف وقوة وفشل وحب، ويمتلك الحق في أن ينكسر، وأن يكون
ضحيه مع بقائه إنسانا يمتلك طاقة الحياة في مواجهة المحو والانشاء التي يمارسها
الظلم الاجتماعي أولا، والجهل ثانيا، والاحتلال دائما .
يروي العيسة روايته في جلباب حنا
الحردان، بل ويمارس بذاته اكتشاف نفسه العاشقة للمدينة، بالإضافه الى الزمان والمكان
والجغرافيا، فيتجول في سرد متدفق وتغذيات جانبية، وارتدادات الى الخلف (flash backs) ونحسب ان اسلوب العيسة كما قالت سحر خليفة الأسلوب :
يتقاطع مع طريقة إميل حبيبي؛ وهو يفتح
المجال واسعا لمعرفه ما خسرناه إنسانيا ونضاليا، وهو أيضا يكشف عن كثير من الأبطال الذين ينطوون،
أو يقعون تحت وطأة الروتين العادي واليومي، لكنهم عبر السرديات الصغرى التي يجمعها
الروائييان: الداخلي والخارجي يتحولون الى كنوز سرديه تقصح عن الكثير مما لا نعرفه،
ولا نحسب أننا سنعرفه إلا في حكاية يتقمصها أبطال الرواية من القديسين إلى
الشياطين .
إن السرديات الصغرى التي تكون الرواية ترفد
بعضها في طريق إنجاز السرديه الكبرى (رواية مدينه بيت لحم) وتلفت انتباهنا إلى ما
نحن مقبلون عليه، ذلك يدعو بصوت عال إلى ضرورة بقائنا متماسكين في صراعنا الطويل أمام
الأساليب غير الإنسانية، ويدعو الى فهم مكانتنا الحضارية أمام القشرة المهذبة
للوحش الاستعماري، الذي يمحونا شيئا فشيئا، في مشروعه الطويل والتراكمي وصولاالى
كيانه الخالي منا، ومما يدل علينا.
يدير أسامه العيسه علاقة ملتبسة مع
المحيط الانساني والسياسي والمكاني. إنه لا يدين من حيث يعري ويفضح الفساد والظلم
والخيانة، والتواطؤ، ولا يشتم من حيث يقول الحقيقه المرة بصوت مرتفع، قد يثقب بعض
الاذان، او يقض مضاجع الغافيين عن الناس
أختلف قليلا مع من كتبوا عن الرواية.
فالكاتب المقدسي إبراهيم جوهر قال إنها رواية موجعة، تعري وتفضح وتشخص. أعتقد أن
الرواية قد تسبب وجعا، لكنها لا توجع بذاتها، ذلك أنها وسيلة للتعبير الحضاري، وهي
في دورها الجمالي والفني تنقض بؤرة الألم والتوتر، وبذلك توجع كالجراح الذي ينبش
الجرح المتعفن، إنها لا تعري بقدر ما تكشف عن أننا عراة برفقة الإمبراطور العاري. و
تخبرنا منذ البداية أننا لبسنا ثوبا ليس بمقاسنا الوطني والانساني، وليس محصنا ضد
نكباتنا أو نكساتنا؛ لقد سقط عنا الثوب في فترة لاحقة؛ فبقينا وحدنا دونه، لم نقف
مرة أمام المرآة بصدق لنسمعها تقول لنا إننا نحتاج ما يلائمنا، وأن ما ينفعنا في
مشروعنا النضالي هوما نبتكره، وعلينا أن نختار الأدوات والأساليب بناء على ما
يناسب أهدافنا، ويتوافق مع حجم مسؤليتنا وأهدافنا.
تقول الروائيه سحر خليفه إن الروايه
مزيج من بيت لحم :عاليها وسافلها وتاريخها وحاراتها، وغير ذلك. لكني وجدتها بيت
لحم أسامه العيسة، حبيبته التي قبّلها سرا في الأزقة البيتلحمية العتيقة، ثم رآها
بعين الصحفي الثاقبة، وعين الفلسطيني الغيور على التفاصيل، التي بمجدها المتراكم
تصنع الملحمة الكبرى، والتي نسجت لنا معمارا روائيا مدهشا يفاجئنا بانحيازه للاسلوب
الصحفي الخاص بأسامة العيسة، الأسلوب الذي نختزل تعريفه بأنه التحقيق الصحفي الذي
تزوج الرواية فكوَن سرديه كبرى لا تزال تتمتع بالحكايه، لكنها ليست الحكاية التقليدية،
إنها ترتدي ثوب الكثير من التجارب الفرديه والجماعية المتداخلة التي كونت ذاكرة
حنا الحردان (رائد)،فكان خياره أن يبقى كما كان، فاختار التلاشي مع قبلتها الأخيره.
* شاعر وروائي فلسطيني
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق