قرأت
هذه الرواية منذ أكثر من عامين، وقد بدت لي فيها وقتها خارج سياق النص الروائي،
وقلت فيها: "ليست رواية، وإنما سرد تاريخي صحفي أقرب منه إلى نص روائي"
وقد تلقى الكاتب هذه الرؤية بكل صدر رحب، حتى أنه نشر التعقيب على مواقع الكترونية،
ولحسن الحظ أن النسخة التي كانت بحوزتي والتي تم وضع ملاحظاتي عليها تم استعارتها
من صديق ولم ترجع، مما دفعني للحصول على نسخة ثانية من الرواية وقراءتها من جديد،
وقد وجدت نفسي قد أخطأت بحق الراوية وبحق كاتبها، مما يستدعي الاعتذار عما بدر مني
من (نقد مشوه) لرواية "المسكوبية"، وبما أن بحثنا هذا سيكون عن رواية
السجن الفلسطينية، كان لا بد من تقديم الرواية بتفاصيلها والدخول إلى عوالمها.
هناك
تناول دقيق لعمليات التعذيب التي مورست بحق الراوي والمعتقلين، من التعذيب الجسدي،
إلى النفسي، التعذيب بالتعذيب، التعذيب بالماء، التعذيب بالأهل، التعذيب
بالمرأة/الجنس، فالراوي تناول كافة الوسائل والأساليب التي يستخدمها المحتل ضد
المعتقلين، ونجد أيضا وقع/أثر مكان التعذيب والاعتقال على المعقل، وكيف يكون
الوقت/الزمن بالنسبة له، وطبعا هناك حديث عن الجلاد، إن كان من يقوم بعملية
التعذيب مباشرة أو (طبيب المعتقل) الذي لا يقل توحشاً عن لجلاد نفسه، ونجد هناك
حديث عن مكان التعذيب "المسكوبية" معتمدًا على حقائق تاريخية وجغرافية،
تجعل من الرواية حاملة للمعرفة التاريخية والجغرافية معًا. ويحدثنا عن القدس
وسقوطها وكيف تعامل النظام الرسمي أثناء حرب حزيران في عام 1967.
بكل
المقاييس نحن أمام عمل روائي فني، راقي، ولا أقول ممتع، فليس هناك إمتاع في سرد
طرق وأساليب التعذيب والقهر، لكن طريقة تقديم الروي للأحداث، وتضمين الرواية
معلومات تاريخية وجغرافية، وإفساح المجال للآخرين بأن يتحدثوا بلغتهم في فصول
الراوية جعلها سهلة الهضم والتناول رغم قسوة موضوعها.
التعذيب
المحتل
لا يترك وسيلة أو طريقة إلا ويستخدمها في انتزاع المعلومات من المعتقلين، فهدفه
المعلومات، ووسيلته كل ما يوصل إليها، هذه الفكرة العامة التي يطرحها الراوي، من
هنا وجدنا عنوان الرواية جاء بهذا الشكل: "المسكوبية، فصول من سيرة
العذاب" فالعنوان يوحي بالمضمون، ويقدم محتوى النص، وكأنه الراوي يمهد لما في
روايته من ألم وقهر، ولهذا لا نتوقع منها/فيها الفرح، فهي تحمل فعل قبيح وقاس.
هناك
أسلوب في التعذيب متبع عن المحتل يتمثل في "سيضعون كيس الخيش الغارق بالبول
على رأسي، ولن يكتفوا بواحد، سيضعون كيسًا آخر فوقه، ويربطون يدي من الخلف، وسيختارون
مزراب ماء، ويوقفونني تحته، لماذا المزراب والمطر ينهمر بغزارة؟" ص19، في
المشهد السابق نجد إحدى طرق التعذيب، كيس من الخيش، يحتفظ برائحة البول لأطول مدة
ممكنة، يمنع الهواء/الأكسجين عن المعتقل، ويمنع الضوء أيضًا، وهنا يكون التعذيب
مزدوج، من خلال الرائحة والظلام.
هذا
التعذيب لا يستكفي به المحتل، فنجده يضيف عليه تعذيب أخر يضاف إلى ما سيق ذكره،
وضع المعتقل تحت صنبور الماء، وإذا ما عرفنا أن الفصل كانت فصل الشتاء،
"والمطر ينهمر بغزارة" وما فيه من برد يتأكد لنا قسوة ووحشية هذا لجلاد.
المشهد
السابق يحمل فنية أدبية خالصة، فالراوي عندما تحدث عن الزمان/وقت التعذيب صاغه لنا
بطريقة رائعة، فلم يقدم لنا الوقت/الزمن بشكل مباشر، بل جعله يأتي ضمن سياق الحدث،
ويعطينا معلومة عن الوقت وأيضاً يدعم بها فكرته عن قسوة ووحشية الجلاد.
لكن
كيف سيكون حال هذا الكيس في فصل الصيف وهل هو أفضل من فصل الشتاء وما فيه من برد
قاس؟ يجيبنا الراوي عن هذا السؤال: "يشعر المشبوح، يعد أن يتأقلم مع الكيس
ورائحته الخانقة، بأن أصعب ما يواجهه هو البرد، الذي يتغلغل في العظام، وإذا كان
جرب الاعتقال في الصيف، يأخذ في المقارنة بين الظرفين، بين البرد المخيف، والعرق
الذي يعمي العينين" ص68، إذن في الفصلين يكون الكيس مؤذي، في الشتاء والصيف
يكون الأذى واقع وحاصل للمعتقل، ولكن لكل فصل أذيه خاصة، في الشتاء أذى البرد، وفي
الصيف العرق الذي يعمي العينين.
وهنا
نطرح أسئلة أخرى:، ما هي الحالة التي يكون فيها المعتقل أثناء وضع الكيس على
رأسه؟، وما هي المدة التي يقضيها والكيس؟ وهل له هموم أخرى غير إزالة الكيس عن
الرأس؟
يجيبنا
الراوي عن هذه الأسئلة قائلاً: "يطول الشبح ساعات طويلة، ويصبح من غير الممكن
ممكنا، عند اشتداد آلام المثانة، قررًا إرادياً بإراحتها، مثل كل الأمور، تكون
الصعوبة في البداية، ومع مرور الساعات تستمر المصاعب، وآلام الرأس لا يقاوم، البدن
لا يشعر بهما، والكتفان والرجلان، أما العينان، والأنف والآذنان، والفم، والحلق،
واللسان، والرقبة، فلا توجد أية كلمات يمكن أن تعبر عن وضعها تحت الخيش" ص69،
إذن هناك حاجة المعتقل للتبول/لإخراج البراز، ولكن جلاد الاحتلال من خلال الشبح
يمنعه من ذلك، مما يسبب له ألم أضافي، ويدفعه إلى ترك جسده يعمل بشكل تلقائي، دون
سيطرة عليه، فالجسد أصبح حرًا فيما يفعله.
ونجد
الكيس ليس لوحده هو المسبب للألم، بل هناك الزمن/الوقت الذي يجبر فيه المعتقل على
البقاء واقفاً دون حركة، مما يجعل الجسد بكامل أعضائه في حالة إرهاق شديد، حتى أن
صاحبه لا يشعر به، فهو وجسده شيئين مرتبطين وفي ذات الوقت منفصلين، لم يعد له قدرة
على التحكم به رغم ما يسببه هذا الجسد من ألم. فالمعتقل يتحمل ثقل وألم الجسد،
والجسد ينفلت من عقاله وكأنه يخرج من المعتقل.
وهنا
إشارة على قوة الإرادة عند المعتقل الذي يتحمل كل هذا التعذيب ويبقى صامدًا، فجسد
المعتقل ـ يخونه ـ بعدم قدرته على الصمود، كما هي إرادته، ومع هذا نجده يحمل ثقل
الجسد ويستمر في المسير، في تحمل هذا التعذيب.
ونجد
الوقت طويلاً جدًا، فالراوي لا يحدد عدد الساعات، ولكنها تشير إلى أنها تجعل الشخص
غير قادر على حقن مثانته، وهذا يؤكد أنها تتجاوز العشر ساعات ويمكنها أن تصل إلى
يوم كامل.
ومن
أشكال التعذيب التي يسردها الراوي هذه الأشكال: "الشبح الطويل،، والقصعة،
والثلاجة، والخزانة، والهز، ووضع سماعات على أذني المعتقل، تطلق ضربات القدر
لبيتهوفن بصوت مرتفع جدا، يشعر معها المعتقل وكأن قدره انتهى فعلا" ص72، لكل
كلمة من هذه الكلمات قصة، حكاية، تجعل من يتعرض لها وكأن الثانية أصبحت تعد العمر
كله.
ويحدثنا
عن "قاسم" الذي تعرض للتعذيب بشكل وحشي مما تسبب بوفاته:
"كان
منهكا من جراء التعذيب والجوع وقلة النوم، تملأ وجهه الكدمات، كانوا يرغمونه على
الوقوف على رجل واحدة، ويداه مرفوعتان إلى أعلى، أو يضعون كرسياً على كتفيه، ويسقط
قاسم على الأرض من الإعياء، ويسقط الكرسي، وكان السقوط إيذانا ببدء جولة جديدة من
التعذيب، تبدأ بالضرب بالأيدي والركل بالأرجل ـ حركات كاراتيه ـ وعندما يتعب أحد
المحققين ينصرف ليحل محله آخر، يوبخ سلفه على قساوته، وبالتالي ينصح الضحية بأن
تحكي ليتخلص من التعذيب، وإلا سيتركه ويأتي ذلك الشرير ـ عزرائيل ـ وبأقل من عشرة
دقائق أحياناً، يأتي محقق ـ معذب ـ آخر وتتكرر الجولات وتستمر" ص59، المشهد
السابق يقدم لنا حالة التعذيب الجسدي والنفسي في ذات الوقت، فبعد عملية التعذيب
الشنيعة التي يقوم بها المحتل، يأتي بشخص آخر يلعب دور إنساني لكي يمهد/يسهل على
المعتقل عملية الاعتراف، مرغباً إياه بالتخلص من هذا الألم ومحذرا إيه بما هو أسوء
في حالة بقاءه دون اعتراف.
ونجد
في المشهد أيضاً وحشية المحتلين الذين يمارسون التعذيب بشكل دوري، فالجلاد الذي
يتعب من ضرب المعتقل يأتي آخر ليستمر في عملية التعذيب، ولا أقول ليكمل عملية
التعذيب، فهي مكتملة في الأساس، ولهذا وجدنا "قاسم" يفارق الحياة بعد
هذه الوحشية.
ويحمل
المشهد صمود وقدرة المعتقل الفلسطيني على مواجهة الجلادين والانتصار عليهم، فرغم
ما تعرضون له نجدهم يفارقون الحياة دون أن ينتزع منهم الجلاد كلمة واحدة.
وهنا
يكمن إبداع الراوي، بمشهد واحد يقدم لنا لعديد الأفكار، والعديد من المضامين التي
يريدنا أن نصل إليها.
التعذيب
بالماء
الماء
مادة الحياة، لكن الجلاد يحولها لأداة قهر وألم، وكأن الراوي بهذا الطرح يريدنا أن
نتأكد بأن المحتل يحول كل ما هو جميل/مفيد إلى أداة تعذيب، إلى شيء بشع، يجعلنا
نكره حتى ما هو جميل، ما هو مفيد، فهو يحولنا بطريقة ما إلى أشخاص لا يحبون ما هو
مفيد، من هنا نجد الراوي يتعذب ويتألم من هذه الوسيلة للتعذيب، الماء.
يحدثنا
الراوي عن "محي الدين علان العوري" الذي تعرض لهذا الشكل من التعذيب:
"بوضعه في بركة ماء، أيام الصقيع، فترات متقطعة، وفي إحدى المرات لم يحتمل
الجسد الماء المثلج فتوقف القلب عن الخفقان" ص69و70، ما يحسب من فنية في هذا
المشهد أن الراوي جعل الجسد هو الذي سقط/خذل/لم يعد قادر على الصمود، بينما المعتقل
ذاته لم يسقط، لم يتخاذل، وهنا تكمن فنية التصوير عند الراوي، حدثنا عن التعذيب
وعن الصمود وعن تألق الإنسان ووحشية الجلاد معاً.
التعذيب
بالمرأة/بالجنس
كما
قلنا سابقا المحتل يستخدم كل الطرق، كل الوسائل للوصول إلى المعلومات التي يريدها،
فهي الهدف الذي يبرر الوسيلة، من هنا نجده فاقد لأبسط النواحي الأخلاقية، فهو على
استعداد أن يكون بهذه الوضعية الرخيصة: "عندما كان عمري 13 عاماً، كنت معتقلاً
في معسكر الجيش الإسرائيلي في بيت لحم، وأسمه (البصة) ...الضابط العراقي اليهودي
الضخم، ضخم الجثة والرأس والشارب والأطراف، يحتضن مجندة صغيرة تكاد تذوب بين
ذراعيه، يمر من أمام غرفتنا وينظر إلينا ويضحك، كنت أدرك أنه يستفزنا،... وفوجئنا
بوليد يقول بصوت خفيض هامس: "أدخلها إلينا... شوية!" ص21، كان هذا
المحقق يتعمد أن يثير الجنس والشهوة في المعتقلين، من هن وجدنا "وليد"
يظهر تأثره بما يشاهده من إثارة جنسية، ورغم أنه معتقل، ويعاني من حالة نفسية
وجسدية صعبة، إنه تجاوز كل ذلك وقال عبارته التي دفع هو وزملاءه ثمنها باهظاً.
هناك
مشهد آخر يشير إلى ولع هؤلاء القوم بالجنس: "... جلس خلف المكتب، وطلب مني
الجلوس على كرسي أمام مكتبه، بينما كانت تقف هي خلفه تداعب شعره بيديها.... نهض من
خلف مكتبه وطلب مني أن أخلع البنطال... فقال لي: تريد يافا أن ترى عورتك، أنت لا
تعرف الوضع الذي وصلت إليه، امرأة ويهودية تتصبب على عورتك" ص23، هناك نهج عند
المحتل يتمثل في خلط ما هو جميل مع ما هو قذر وقبيح، فالمرأة شيء جميل، لكنه
يجعلها قذرة في هذا الموضع، فهي إحدى أشكال لتعذيب والألم للمعتقل، وهي وقاحة هنا،
تفتقد صورة المرأة الخجولة المرسومة في مخيلة الراوي.
وهناك
شكل آخر أكثر تأثيرًا في المعتقل عندما يرسل المحقق إشارات عن المرأة بشكل مثير
لكي يجعل المعتقل يثار ثم يضعف أمام ما تحمله من شهوة وتثير فيه من غريزة،
"نحن احتلال ديمقراطي، أبق هنا، أما أنا فسأكون بعد قليل في حضن عشيقتي. وبعد
أن يقيس تأثير وقع كلامه علي يقول: لا تعرف طعم النساء، تراك لم تجربهن ولا مرة،
لو كنت مكانك، لما بقيت في هذا المجتمع ولا لحظة، كنت سأهاجر إلى مواطن
الشقراوات" ص41، بهذه الشكل يتم إثارة المعتقل جنسيًا وجعله يبتعد في تفكيره
عما يجب أن يركز عليه، الصمود والثبات.
التعذيب
بالتعذيب
هذا
الشكل من التعذيب يكون أثره كبير وهائل على نفسية المعتقل، حيث يسمع ويشاهد زملاءه
كيف يتم تعذيبهم، فسماع الصراخ والآهات والأنين والمشاهد التعذيب القاسية لا يمكن
للإنسان أن يتحملها، ويمكن أن يتحملها هو إذا ما تعرض لها، لكن أن يرى غيره
يتعرضون لهذا التعذيب فهو حدث مؤلم جدا عليه. ويمكن أن يجعله ينهار، لما فيه من
مشاهد تمس الحالة الإنسانية فيه.
"كانت
هي التي يأتينا صوتها تصرخ وتتألم، ونحن مشبوحون في ساحة الزنازين، وكان صوتها
"يمزق نياط القلب" كان عذاباً إضافياً أن تسمع صوت فتاة تتعذب ونحن لا
نستطيع أن نفعل شيئاً... كنت أضرب رأسي في الحائط الخشن: أي هوان هذا! لم أكن
أتوقع أن أكون ضعيفاً إلى هذا الحدّ أمام صوتها." ص34، الاحتلال يعرف أن
المعتقلين يحملون مشاعر إنسانية، ولهذا أراد أن يعذبهم بها ومن خلالها، فاستخدم
تعذيب فتاة في تعذيبهم، لما لها من أثر عليهم وما تحمله أفكارهم عنها، فهي كائن
ضعيف، مسالم، لا يتحمل العنف والقسوة، ومع هذا يتم معاملتها بهذه الوحشية، ليس
لنزع اعتراف منها، بل أيضا لجعل رفاقها يتعذبون بعذابها، يضعفون عند سماع صراخها
وأنينها.
التعذيب
بالأهل
اجزم
بأن دولة الاحتلال تتماثل بممارستها مع جيوش التتار الذين حرقوا الأخضر واليابس،
والذين لم يتوانوا عن قتل كل ما هو إنساني، فالمحتل لا يتوانى استخدام أي شيء
للحاق الأذى بالمعتقل وبذويه للحصول على المعلومات، فها هو يستخدم الزوجة كوسيلة
ضغط إضافية على المعتقل، "اعتقل أبو عكر من منزله من القدس، ...وخضع لتحقيق
قاس في المسكوبية، ... واعتقلت زوجته كنوع من الضغط عليه للإدلاء باعترافات، وبعد
أسبوعين أخبرها المحققون بأنهم قرروا إطلاق سراحها بكافلة والدها" ص58، هكذا
هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، فكيف ستكون لو لم تكن ديمقراطية
ووحيدة؟
المحقق
من
يقوم بعملية التعذيب يجب أن تتوفر فيه خصائص عديدة، منها افتقاده لمفهوم
الإنسانية، ومعرفته ثقافة المعتقلين ونقاط ضعفهم، قدمهم لنا الراوي بأكثر من مشهد
منها: "المحققون لا يملون من محاولة اختراق نقاط الضعف، وهم جميعا يحفظون عن
ظهر قلب أمثالاً عربية عديدة وآيات قرآنية، هي جز من برامجهم التدريسية قبل
التحاقهم بعملهم،... احكها يا أخي، أنا أريد مصلحتك، لماذا تحمي رفاقك، لو كانوا
هنا لباعوك، واضح أنك طيب، ومحترم، وابن ناس، وليس وجه بهدلة، يا أخي كل عين تبكي
ولا عين أمي تبكي، يا أخي حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس" ص43، الراوي
يقدم لنا المحقق بصورته الحقيقية، شخص يتمتع بثقافة ودهاء ويعرف كيف وأين يضرب
وكيف يتحدث، ومتى يفعل، فهو ليس شخص ساذج، بل متمكن من عمله، ولهذا من الصعب
الانتصار عليه، والصمود أمام هؤلاء يمثل عظمة المعتقل الذي ينجح في تجاوزهم وتخطي أساليبهم.
أما
الوجه الحقيقي لهؤلاء فهم الوجه البشع، حيث يقوموا بتبديل الأدوار فيما بينهم، شخص
يلعب دور الجلاد والآخر يلعب دور الحاني والرؤوف، "يشترك أكثر من محقق في
الضغط على المعتقل، ..الأول يتحدث بهدوء وحنان مع المعتقل، طالبا منه أن يعترف
وينهي القصة، أما الآخر فيأمر المعتقل أن يحكي القصة وإلا.. لكن الأمر لا يستمر
هكذا فترة طويلةـ إذا أبدى المعتقل صمودا، يتحول المحققان إلى شريرين، يفقدان أعصابهما
وينهالان بالضرب على المعتق الذي يتذوق لذة صموده" ص73، بهذه الصورة يكون
المحقق، مهما يبدي من وجه جميل، إلا أنه في حقيقته يحمل القبح والشر، من هنا
وجدناه يتخلى عن مكره بعدما وجده غير مجدي، وليس له تأثير فاعل على المعتقل.
طبيب
المعتقل
لكي
تكون الصورة شاملة وكاملة عما يمارس من جرائم في معتقلات الاحتلال، يحدثنا الراوي
عن الطبيب، الذي من المفترض أن يتعامل مع الأسرى بشكل محايد، بعيد عن حالة التعبئة
العنصرية التي تستخدمها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين، لكنه في المعتقل هو جزء من
أدوات التعذيب، فهو بعيد في مهنته وفي سلوكه، بعد الأرض عن السماء، "كان طبيب
يطرح أسئلته بتقزز، وعلى السجين أن يرد على كل سؤال مسبقاً بنعم سيدي، وعندما لا
يفعل، ينهض الطبيب من خلف طاولته، ومعه مساعدًا ليذكروا السجين عمليا بعقوبة تجاهل
عبارة نعم سيدي، ولتتحول سماعته إلى أداة للضرب، كان الطبيب وكل من في السجن
ينفذون أوامر مشددة ضد أجيال جديدة من الفلسطينيين" ص29، بهذا الشكل يعري
الراوي كل ديمقراطية الاحتلال، فالطيب يمسي جلاد ويسهم في عمليات التعذيب والقهر،
فليس له أي ارتباط بمهنة الطب، فهل يعقل أن يكون طبيب بمثل هذا السلوك؟.
لكن
هل هناك فعلاً طبيب في معتقلات الاحتلال، أم أن الأمر مجرد تسمية وحسب؟ يجيبنا
الراوي قائلا: "أجبرني اثنان من الشرطة على خلع ملابسي كاملة، تبين أن أحدهما
هو الطبيب أو الممرض، الذي كتب ملاحظاته الطبية عني من خلال معاينتي عارياً، وتفحص
جسدي أمام من يمر من أمام المكتب، إضافة إلى رجال الشرطة والشرطيات" ص66، إذن
الطبيب ما هو إلا أحد الجلادين الذين يقوموا بتعذيب المعتقل، إن كان التعذيب جسدي
أم نفسي، ففي المشهد الأول والثاني نجد (الطبيب) يسهم في إلحاق الأذى بالراوي
نفسيا وجسديا، وإلا ما معنى أن يتفحصه أمام المكتب وأمام الآخرين، إن كانوا رجال
أم نساء.
الآخر
الايجابي
أكثر
من عمل روائي تحدث عن وجود أشخاص من الطرف الآخر داخل المعتقل يتمتعون بمشاعر
إنسانية راقية، رغم أنهم يخدمون في دولة الاحتلال، إن كانوا مجبرين أم مخيرين، إلا
أن البعض منهم تبقى إنسانيته غالبة على سلوكه ولا يمكنه الانزلاق إلى حالة التوحش
التي تمارس داخل المعتقلات.
يحدثنا
الراوي عن وضعه داخل قفص حديدي، "في ممر رئيسي للجنود والضباط، الذي لا يوفر
معظمهم فرصة المرور دون شتم المعتقل الموجود داخل القفص، ... أخذ الجندي يبدي
اشمئزازه عندما يتوقف أحد الجنود المارين بالقرب من القفص، من اعتقال واحد في سني،
وتشاجر مع أكثر من جندي أراد توجيه إهانة للمعتقل داخل القفص، الذي كنته"
ص63، بهذا المشهد يكون الراوي قدم لنا الآخر بشكل حيادي، فهو يقدم المحتل على
حقيقته، فبعض أفراده يتمتعون بإنسانية فاعلية، ويحولون دون إلحاق الأذى بالمعتقلين،
ويحاولون حمايتهم قدر المستطاع، فهم يرفضوا أن يكون وحوشا بشرية.
صورة
رفض التوحش عن بعض الجنود كانت من خلال الجندي الروسي الذي تمرد على كل مفاهيم
الجيش وتصرف بهذا الشكل: "أخذ الجندي يشتم ويبصق على الأرض، يستهزئ بدولة
إسرائيل وهو يشير إلي، ... تعالت الأصوات بينهما، وكانت أكبر وسيلة يعبر بها
الجندي الغاضب هي البصق على إسرائيل، التي تعتقل "ولدا" صغيرا مثلي وعلى
اليوم الذي أتى به إلى هنا" ص65، المشهد السابق يؤكد على أن العديد ممن
يخدمون في دولة الاحتلال غرر بهم، فقد جاءوا لحمية إسرائيل المظلومة، لكن بعد أن
وجدوها ظالمة وتمارس القهر والقمع وتقتل وتعتقل وتهدم البيوت وتصادر الأرض كفروا
بها، ومنهم هذا الجندي الروسي.
الوقت/الزمن
الوقت
نسبي، نختلف في تحديده، فهو في حالة الفرح غير في حالة الحزن، في حالة السعادة غير
حالة الانتظار، في حالة النوم غير في حالة اليقظة، في العمل غير في الفراغ، في اللذة
غير الألم، والوقت أيضًا يتأثر بالمكان، فعندما نكون في فضاء رحب غير ما نكون بين
جداران، وعندما نكون في المروج غير ما نكون في الصحراء، ويخضع أيضا لحالتنا
النفسية، فعندما نكون متعبين غير ما نكون مرتاحين، وعندما نعاني من الجوع والعطش
غير ما نكون شبعا.
الوقت/الزمن
له حكاية خاصة عند المعتقلين، فهو إحدى عناصر التعذيب التي يتعرضون لها، حيث يكون
مجهول غير معروف بالنسبة لهم، "لا أعرف كم مضى من الوقت وأنا أقف خارج الغرفة
التي يصعب نسيان ما كان يجري فيها، وكلما حاولت أن أحرك أحد أطرافي، أتعرض للكمة
على رأسي أو جنبي، أو رفسة على إحدى رجلي، من الصعب تحييد الزمن أو معرفة الوقت، الزمن
في السجن غير الأزمان في الخارج، وزمن الزنزانة غير زمن الشبح، وهذا غير زمن
التحقيق، وهذا غير شبح الكرسي، وهذا غير زمن تعذيب الخزانة، وهذا غير ذاك وذاك غير
هذا، لزمن نسبي، فكيف عرف آينشتاين ذلك دون أن يسجن" ص19، اعتقد بأن هذا
التفصيل للزمن يشير إلى عمق المعرفة التي يمتلكها الراوي، فهو متخصص في معرفة
الوقت، وتحديده، وهذا لا يملكه إلا من كان معتقلا، من تعرض لكل هذا الأشكال من
التعذيب.
يقدم
لنا الراوي مزيدًا عن هذا المعرفة بالوقت وتفاصيله قائلاً: "الزمن نسبي في
المعتقل، عندما تكون في الزنزانة تكون أقصى أمانيك الخروج منها إلى غرف السجن،
وعندما ينتهي التحقيق وتنضم لزملائك في الغرف، تصبح أيامك ثقيلة الوطأة، وإذا كنت
تعلم أن أمامك فترة طويلة في السجن، تصبح أمنيتك الانتقال إلى سجون مركزية، أما
إذا علمت أنك ستمضي أياماً وتخرج، فتصبح الأيام طويلة والانتظار أصعب، كلما اقترب
الموعد تزاد الأيام طولاً، حتى يخيل إليك أنها لن تنقضي" ص98، إذن هناك
تفاصيل دقيقة عن الوقت لا يعلمها إلا المختص الذي تعرف عليها من خلال تجربة مريرة،
فهي تجعله على علم ومعرفة وكأنه خبير ومختص في تحيد الزمن الحقيقي الذي نشعر به،
وليس الزمن الطبيعي، الزمن الذي يمضي، فمثل هذه المعرفة تشير إلى أن الوقت أيضا
يكون على لمعتقل وليس له، وهو احد العناصر التي تتآمر عليه وتسعى لإسقاطه.
التنوع
والتعدد
العديد
ممن كتبوا عن الاعتقال تحدثوا عن حالة التعدد والتنوع التنظيمي والفكري في المجتمع
الفلسطيني، وقد استخدم "أسامة العيسة" هذا التنوع في كافة أعماله
الأدبية، إن كانت روايات أم قصص قصيرة، وها هو يشير إلى هذا الأمر في رواية
"المسكوبية".
"تزوج
كمال المسلم إحداهن وهي مسيحية" ص27، تأكيد على حالة الصحة والعافية التي
يتمتع بها المجتمع الفلسطيني، فهو منصهر مع بعضه البعض، ولا يمكن للدين أن يكون
عائقاً أمام مجتمعية ومدنية المجتمع الفلسطيني، ولهذا نجد حالات الزواج تتم بين
المتباينين دينيا، والمتفقين وطنيا.
العمل
الوطني في فلسطين ضم الكل، ولم يفرق بين هذا وذاك، فالكل ينخرط في العمل لمواجهة
المحتل، "... حشدنا أنا وأنطون، رفاقنا الطلاب الصغار، وقصدنا الأقصى، لنشرك
في الدفاع عنه" ص101، الفلسطيني بصرف النظر عن ملته، نجده يعمل ببسالة على
حماية المقدسات، وبصرف النظر إن كانت تخص ملته أم لا، فما أنها ارض فلسطينية وتهم
الفلسطيني يجب عليه أن يدافع عنها، هكذا هو يفكر وهكذا هو يعمل.
يحدثنا
الراوي عن الكيفية التي يتعامل بها الفلسطيني عندما يتعلق الأمر بالمقدسات،
"كانوا خليطاً بشرياً متنوعاً، صغار وكبار، متعلمون وأميون، مسلمون ومسيحيون،
متدينون ويساريون، ريفيون وآخرون من الطبقة الوسطى" ص111، تأكيد الراوي على
حالة التنوع والتعدد التي يمتاز بها المجتمع الفلسطيني هي رد على كل من يحاول
النيل أو المساس بهذا التنوع والتعدد، وكأنه من خلال هذه المشاهد يدعوا إلى التمسك
بما نحن فيه، وعدم الانزلاق إلى الفكر الديني الواحد، إلى الفكر العقائدي الواحد،
إلى الفكر التنظيمي والواحد، فالتعدد هو دعم وإثراء للمجتمع ويشكل عنصر قوة ورفعة
للمجتمع.
المسكوبية
يمكننا
أن نقول بأن "أسامة العيسة" متخصص في تقديم المعلومة التاريخية والمعرفة
الجغرافية في أعماله الأدبية، فهذه المعرفة حاضرة في كافة ما كتبه لنا من روايات
أو قصص قصيرة، وطبعاً هذا الشكل من الأدب بحاجة إلى الانفتاح على العديد من
المعارف والمعلومات والتفاصيل الأخرى، وأيضا إيجاد شكل/مدخل مناسب لتقديمها
للمتلقي، فهي إن بقيت كما هي لن تكون أدباً، لكن الكاتب المتخصص استطاع أن ينجح في
هذا الشكل من الأدب، وهو أدب مقنع وجميل ويقدم معارف ما كان لنا أن نعرفها دون
جهود الكاتب.
وما
يحسب لأعمال "أسامة العيسة" أيضا وجود مراجع في نهاية كل عمل أدبي، وهذا
يعتبر توثيق لما يقدمه من معرفة، يحدثنا عن مبنى "المسكوبية" أين يقع
وكيف ومن قام ببنائه، ومن تعاقب عليه حكومات، ولماذا سمي بالمسلخ، فهو يقدم تفاصيل
دقيقة عن "المسكوبية" " يعتبر مبنى المسكوبية، من أولى البنيات
التي شيدت خارج بلدة القدس القديمة، في شارع يافا، شمال شرق أسوار البلدة التاريخية"
ص 47 ويضف عن سبب بناء هذا المكان قائلا: "هو يعود إلى العام 1857، بناه
الروس كمجمع للمصالح الروسية، يضم نزلا للحجاج الذين يجدون فيه كل شيء، من
المستشفى إلى الكنيسة وحتى محكمة والسجن، وجميعها أبنية فخمة ذات هندسة معمارية
مميزة، بنيت من الحجارة المحلية" ص48، أما عن سبب تسميتها بالمسلخ فهو
"...انتهاك حقوق الأسرى الفلسطينيين، وما لبثت أن حازت على صفة (المسلخ) التي
يطلقها عليها الأسرى، بسبب شدة التعذيب الذي مورس عليهم في زنازينها" ص57،
لكل شيء سبب، وسبب التسمية مرتبط بما لاقاه الفلسطيني من تعذيب وصل حتى الوفاة
للعديد منهم أثناء التعذيب.
الراوية
من منشورات مركز أوغاريت الثقافي، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق