على قمة إحدى تلال
صحراء البحر الميت، التي تشبه مخروطا مقطوع الرأس، تقع خربة مَرْد، التابعة لبلدة
العبيدية.
تبدأ الأراضي
الصحراوية، التابعة للعبيدية، بالانحدار، كما يقول الباحث أحمد خليفة، من مرتفعات
قمة جبل مَرْد، ثم تنبسط باتجاه البحر الميت، وتسمى بأراضي البُقيعة، وتقدر
مساحتها بنحو 35 ألف دونم. والتي توجد فيها منشآت عسكرية للاحتلال، ومناطق تدريب
عسكري.
يستعين البعض للوصول
إلى خربة مَرْد بالركوب على الحمير من جبل المنطار، بسبب ضيق ووعورة الطرق المؤدية
إليها، والأمر لا يخلو من مخاطرة لأنه يتوجب السير على طرقات صغيرة بين الجبال
البركانية السوداء والوديان السحيقة، وهناك من المغامرين الإسرائيليين من يصل إلى
الموقع على الدراجات النارية، ويتطلب ذلك مهارات معينة، ويبقى السير على الأقدام
هو الأسهل والأقل مخاطرة على الأغلب.
قلعة هيرودس
على هذه التلة بنى هيرودس (37-4 ق.م)، إحدى قلاعه المهيبة، والتي ما تزال
أثارها حتى الآن، شاهدة على عظمة الأعمال العمرانية التي نفذها حاكم مقاطعة فلسطين
الرومانية.
ترتفع خربة مَرْد 248م عن سطح البحر، و250م عما حولها، ويطلق عليها
الإسرائيليون اسم (هوركانيا) نسبة إلى يوحنا هوركانوس (134-103 ق.م) التي يقولون
انه أول من حصن هذه القلعة، التي ارتبط تاريخها بالحشمونيين الذين ثاروا ضد الحكم
السلوقي في فلسطين، ومنهم الملكة الحشمونية (الكسندرا) التي يقال بأنها خبأت
كنوزها في هذه القلعة، وفيما بعد احتل الرومان القلعة، أمّا هيرودس، فيقدمه أثريو إسرائيل، باعتباره
من أعاد بناءها وتحصينها عام 31 ق.م، وبالنسبة لكثيرين، فان هذا التوصيف للقلعة،
ومحاولة التقليل من دور هيرودس، في تشييدها، ونسبتها إلى أحد المكابيين، لا يدخل
ضمن الجهود العلمية لتوثيق القلعة، وإنما قد يكون له غايات سياسية توراتية.
يقول جميل العمارين، المختص بالسياحة الصحراوية، بان كلمة (مَرْد) بالنبطية
تعني قلعة، وليس هناك تأكيد إذا كان الأنباط وسعوا نفوذهم إلى هذه المنطقة.
وتحوي القلعة الآن، بقايا دير وكنيسة من العصر البيزنطي، ففي
عام 492م، أعجب القديس سابا بالموقع، وبنى ديرا على أنقاض القلعة، أطلق عليه اسم
(كاستيليون) التي عثر فيه أثناء التنقيبات الحديثة على كتابات باللغات: العربية،
واليونانية، والآرامية، وكان للرهبان الأرثوذكس وجود في المكان منذ عام 1921م،
ولكنه وجود غير منتظم، بسبب ظروف البلاد السياسية، وكان يرسل إلى خربة مَرْد بعض الرهبان كنوع من القصاص، ولكنهم تركوا الخربة
خلال ثورة 1936-1939م، ولتعرضهم لهجمات من قبل البدو.
وجرت محاولات لترميم بعض الغرف من قبل الكنيسة الأرثوذكسية، ولكن سلطات
الاحتلال منعت إكمال ذلك.
مخطوطات
تم إجراء أول مسح للخربة، من قبل صندوق استكشاف فلسطين البريطاني عام
1873م، وجرت فيها عدد من التنقيبات، ودُرس نظامها المائي عام 1971م من قبل
(ي.فيلدمان)، وأجرى الإسرائيليون تنقيبات مختلفة فيها.
واشتهرت مَرْد، بالعثور على بعض ما يعرف باسم مخطوطات البحر الميت فيها عام
1953على ورق البردى، مما زاد من أهميتها لدى الباحثين.
والمقصود جهود البلجيكيين، فيليب ليبنز و ديلانج، وبعثتهما
العلمية، التي اكتشفت بعض المخطوطات من الكتاب المقدس باللغة الآرامية.
ويصعد إلى خربة مَرْد
عبر درج حجري، ملتو، يحيط به بقايا درابزين مبني من الحجارة، وعلى قمة الخربة
المنبسطة يوجد بقايا فسيفساء مهملة، يغلب عليها اللون الأبيض، مع وجود للونين
الأحمر والأزرق، وتتعرض هذه الفسيفساء إلى التخريب، والاضمحلال مع مرور الزمن،
ويمكن ملاحظة ذلك من مقارنة وضعها الآن، مع وضعها قبل سنوات.
يمكن النزول إلى غرف
ومغر في باطن المرتفع، ومن بين الآثار
الباقية، آبار وصهاريج ضخمة جدا، وسط التلة، مما يشير إلى طبيعتها العسكرية،
وتجهيزها للصمود لفترات طويلة، في حال تم محاصرتها.
قنوات وصهاريج
النظام المائي للقلعة لا يقتصر على الصهاريج الضخمة، فأسفل القلعة من جهة
الغرب، ما تزال بقايا قناة محمولة على جدار حجري كبير، ظاهرة وصامدة حتى الآن،
وعلى الأرجح فإنها كانت تنقل المياه إلى برك كبيرة، يمكن ملاحظة بقاياها، وبجانبها
بئر ماء، ظاهرة على سطح الأرض، وهي ذات شكل دائري.
وكشفت الحفريات الأثرية في الموقع، إلى أن المياه وصلت إلى القلعة عن طريق
قناتين، الأولى طولها نحو 2 كلم (1,950م)، تبدأ من جبل المنطار، عبر وادي أبو
شعلة، أمّا القناة الثانية فتصل من الجنوب الشرقي، تبدأ من وادي النار (قدرون)،
وطولها نحو 9 كلم، تخترق الوديان العميقة، والتلال الجرداء، ومن يعرف طبيعة تلك
المنطقة، سيدرك عظمة الجهود التي بذلت في شق هذه القناة، والتغلب على التضاريس
بالغة الصعوبة.
وخلال الأعوام الماضية، تم الكشف عن جزء من قناة وادي النار، الذي تجري فيه
المياه العادمة الان، وظهر هندستها البديعة، كقناة محفورة في الصخر.
وتلتقي القناتان في قناة واحدة، على بعد750 مترا غرب القلعة، وعثر في
الخربة على العديد من الصهاريج والآبار والخزانات، 6 منها على قمة التلة، و3 على
المنحدر الشرقي، و12 على المنحدر الجنوبي، و8 في المستوى الأعلى للتلة، و4 في
مستواها المنخفض، بالإضافة إلى بركتين مفتوحين تقعان أسفل القلعة
الغربي.
وبنيت الخزانات والصهاريج باستخدام الحجارة، وألصقت بالجير
الأبيض، وفي الجهة الشمالية الشرقية للقلعة، يوجد جدران مبنية بالحجارة، عليها
بقايا قصارة قديمة، تشكل، على الأرجح جزءا من بركة سباحة، بقاياها ما زالت موجودة،
وينزل إليها بدرج حجري.
ويظهر النظام المائي في القلعة، بشكل ملفت، الجهود التي يمكن أن نصفها بالجبارة،
لتحويل القلعة، إلى واحة وسط الصحراء، وإلى عظمة بانيها، أوّ بناتها الذين أضاف كل
منهم شيئا إليها، خصوصا في ترميم النظام المائي، الذي اعتمد على تجميع مياه
الأمطار، والفيضانات، وكذلك يشير إلى الأهمية التي لعبتها القلعة في بعض مراحل
التاريخ الفلسطيني.
ورغم هذه الأهمية، والشهرة التي كسبتها بورود اسمها في حكاية مخطوطات البحر
الميت، إلا أن ذلك لم يجعلها تحظى باهتمام الفلسطينيين، رسميا وشعبيا.
مَرْد، قلعة مهيبة في أرض فلسطينية، تخضع للاحتلال العسكري، والاستحواذ
الأثري والتاريخي..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق