أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 6 مارس 2016

المسيحيون والمسلمون تعمدوا بماء الحرية والحياة


عيسى قراقع*
وقف بطل الكاتب أسامة العيسة في روايته ( قبلة بيت لحم الأخيرة) على بلاط كنيسة مهد المسيح عليه السلام بعد غياب 20 عاما في سجون الاحتلال الإسرائيلي، وفي بكائية صحفي ومؤرخ وموثق، وبالحسرات والخيبات وبصوت الضحية، أخذ ينادي على الأسماء والجغرافيا والحجارة والبيوت، على الناس والآبار والذكريات، على الشهداء والأبطال، كأنه المقتول عاد فجأة إلى الحياة، مصدوما يسأل: مَنْ قتلني؟ مَنْ قتل مدينتي، مَن صلبني مرة أخرى ووضعني في كبسولة مغلقة، وحبسني في أقفاص وسرق المكان؟.
ويظل الكاتب يصرخ بفجع في روايته التي امتدت إلى 304 من الصفحات الغاضبات، معلنا للناس انه لن يعود إلى عالمهم الحالي، إلى هذا العالم الذي يكره السينما، تلاشت منه الحياة المدنية، وتراجعت العلاقات والثقافة والقيم والمواقف، عالم جديد يرتدي الأقنعة ، مستسلم للأمر الواقع القاسي، معلنا انه سيتناثر ذرات وذرات في صحراء بيت لحم الممتدة حتى البحر الميت، ومعه مائة قبلة وقبلة، قبلة بيت لحم الأخيرة، من عالم درج الروم الذي تركه خلفه عندما اعتقل، ووجده مدمرا عندما خرج.
إنها صرخة المسيح الفلسطيني قبل أن يطبع قبلته الأخيرة على نَجمة الميلاد، ينادي تلك الأيّام التي كان فيها المسيحيون والمسلمون يتعمدون في الكنيسة، يغتسلون بماء الحب والحرية والحياة، يحملون أسماء مشتركة، يقدمون النذور للأولياء والقديسين، صلاتهم واحدة، فَزعهم واحد، بيت تلحمي تجمعه الصلاة وهوية الانتماء للأرض والسماء، لا طائفية ولا عصبوية أمام إله واحد ووطن واحد.
يقول الكاتب في وجعه المزلزل: أنا رائد المسلم، صرت حنا المسيحي، تعمدت في الكنيسة، ولبست زيّ الراهب، وجاءت التلحميات المسيحيات إلى باب الجامع، قدمن النذور ضد قرائن الشر، باركني الخوري وباركهن الشيخ، لحماية أطفال فلسطين من الاحتلال والملاحقة والوباء والنكبات.
ما الذي غيرنا وجعل الحزب أهم من الوطن؟ تغيرت المفاهيم والخطابات، انتشرت الولاءات والفساد والمصالح، وتفرقنا بعد ان اختفت وحدة النسيج الاجتماعي والمفاهيم الوطنية وأفسدت النخب الثقافية والسياسية.
ويستمر الكاتب في نشيده التاريخي وأسئلته القاسية وهو يرى المكان يتغير كما تغير النّاس، تفككت الجغرافيا، وصهر الاحتلال الوعي الفلسطيني وتطلعاته إلى الحرية والكرامة، فبيت لحم خُطفت، وأضحت زنزانة، فصلوها عن القدس، الأرض تبدو محايدة وطوع أمر الجرافات التي تُدمر وديانها وجبالها وصحرائها، جدران وأنفاق ومستوطنات وشوارع التفافية، بوابات وحواجز عسكرية وترابية.

ويستدعي الكاتب التاريخ، الاتحادات النسائية للتلحميات اللواتي تطوعن في نجدة الثوار المقاتلين في حرب 1948، دور الإسعاف والإنقاذ، أسطورة انطون داود الذي فجر الوكالة اليهودية، دور الكشافة المسيحية والرهبان والراهبات في الصمود والتمسك بأرض الميلاد، يقرعون الأجراس في وجه الغرباء والمحتلين، كان تشابكا مسيحيا إسلاميا، وطالما صامت مسلمات في عيد العذراء وعيد البربارة وعيد الفصح، ونذرت مسلمات ومسيحيات بقراءة المولد لحفظ أحبائهن، وجلسن حول شيخ الجامع وهو يرتل آيات القرآن الكريم.
يقول الكاتب لقد ازدادت غربتي بعد السجن، بعد قيامتي الجديدة، صرت كالتائه في بلاد كأني أراها للمرة الأولى، سرق السجن 20 عاما من عمري، لكنه سرق جغرافيا ذاكرة عمر بأكمله.
الكاتب يمشي في حارات بيت لحم القديمة، في الأسواق والأزقة، مع الفقراء والفلاحين والباعة، رائحة حضارة إنسانية عريقة، رائحة الدبس والنعنع البلدي والزيت والخبز السرياني، رائحة حب دافئة في كل مكان، فما الذي تغير الآن، يسأل الكاتب متعجبا حتى من الأسرى الذين تغيروا داخل السجون، انتشرت الفردية والشللية وغياب التضامن الجماعي، مفككين يفترسهم السجان واحدا واحدا، ويشدد أقفاله وقوانينه العنصرية عليهم.
يحاول الكاتب في غربته الروائية النقدية ان يبحث عن أبطال سابقين، يدخل كنيسة المهد المحاصرة 40 يوما، يرى الجثث المتناثرة، يدخل القبور المهجورة، يقف أمام نصب الشهداء احمد عبد العزيز والشهداء العرب، يستذكر شفيق حنظل وبنايوت زيدان واسكندر الخوري والأب إبراهيم عياد، وتغريد البطمة، وعبد الله تايه، وحسين عبيات، ولكنه لا يعثر على قبر الشهيدة رجاء أبو عماشة، ويمر الكاتب بين مرحلتين، الأبطال هم أنفسهم ، ولكن غيروا فقط أماكنهم، يحتاجون إلى حيز ذهني للأجيال المتعاقبة.
المسيحيون والمسلمون يقفون لحما ودما، حجرا وشهيقا، موتا وحياة أمام وطن يتعرض للاستلاب والانسحاق، متسائلا بعد رحلته الروائية الطويلة: هل ما زال المسيحيون بعد كل هذا أهل ذمة؟
ويختتم الكاتب العائد إلى حارات بيت لحم قوله: انه يحاول ان يعبيء النقص في المكان والذاكرة عندما حفر القبور والتاريخ، واحيا الأجداد والأنبياء، فالبيوت تموت إذا غاب سكانها، وعلى شعبنا الفلسطيني ان يفرض روايته على الأرض والواقع، وان لا يسمح للاحتلال ان يفرض روايته وعبادته المسلحة على حياتنا وأحلامنا وثقافتنا الفلسطينية المشتركة.
سلام على بيت لحم
هي الحياة…
عسل أحمر وخبز
شجرة تضاء في الظلام
دم يعمّد الناس
في الصلاة…
* رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين في فلسطين.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق