رواية اسامة
العيسة "قبلة بيت لحم الأخيره"، ليست رواية عادية، إنها مزيج من تاريخ
ونضال وعلاقات اجتماعية، فالتاريخ يقول كلمته بالوقائع والحيثيات وتفاعل الناس في
الماضي والحاضر والرموز والشخصيات، فنضال الماضي كتب قصته بتضحيات وأحلام لم
تتحقق، لكنها لم تجهض، والنضال الحديث كتب هو الاخر قصته بقلم الارادة، الذي
استرسل أحيانا وتعثر أحيانا اخرى، بيد أن الحلم ظل مترسماً في الأفق البعيد.
جامعة بيت
لحم، كانت في الرواية احدى حلقات النضال الحديث، واقصد نضال الحركة الطلابية الذي
هو امتداد أو تجسيد للنضال الفصائلي بما له وما عليه. فالجامعة بمجتمعها الصغير
كانت تموج بفعل طلابي نشط، تلتقي كتلها وتتناقض تحت سقف مبلط بالشعارات ورومانسية
اليسار التي كانت تلامس أطراف الطوباوي وعملية فتح التي كانت تلامس اطراف
البرغماتي.
في الجامعة
غرق بطل الرواية في علاقة عاطفية عنيفة المشاعر، سريعة الاندفاع، لكنها سرعان ما
ارتطمت بخشونة الشعار وسياج الطرح الفصائلي، تفتحت وردة جميلة ويبست في مرحلة كانت
أكبر وأثقل من حلم طالبين حبيبين.
الحبيب مثقف
يساري، شرب يساريته من الكتب، ومن تجارب عالمية، انصاع للقوالب تارة، وتمرد عليها
فكراً وممارسة تارة اخرى، أما الحبيبة فقد ظلت متماهية مع الشعار اليساري، كانت
يسارية ذات ثقافة بسيطة، تقدس الشعار، والفصيل بالنسبة اليها هو الهادي والدليل،
فراحت تعبد صنم الشعار، وعندما تشظى قليلا تشظت كثيرا، وفقدت نفسها فكريا حينما
اكتوت بنار شظايا الشعار الملتهبة التي تساقطت على رأسها، فضلت الطريق وتخلت عما
تبقى من شعار، وأخذت تبحث عن نفسها الجديدة في دروب مرحلة جديدة، فانكسرت وهي
تحاول لملمة اجزاء نفسها، لتسقط بعد التحاقها بالعمل المؤسساتي هي ومؤسستها في
مستنقع التطبيع، وصارت في جبهة مناقضة للشعار، لأن التطرف المطلق قادها الى سقوط
مطلق. لقد نجح الكاتب إلى حد كبير،
في ابراز
العصبوية التنظيمية في الجامعة وسطحية العلاقات، لكن في رأيي أن الجامعات
الفلسطينية لم تكن بالمطلق حبيسة الشعار والطوباوية اليسارية والبرغماتيه
الفتحاوية، وانما انتجت كوادر وطاقات ثقافية ونضالية، بعضها اصطدم بعد التخرج
بمتطلبات الحياة وأحابيل وتكتيكات وخداع السياسة، فسكت أو أُسكت، تنحى او نُحي، في
حين ان بعضاً آخر شق طريقه ايجابيا في العمل التنظيمي وأصبح له وزنه وكلمته
وتأثيره - مروان البرغوثي مثالا. كان بودي لو أن الرواية افسحت في المجال على
صفحاتها للمساحة التي مثلها الايجابي، لتكون الصورة واضحة جلية في جانبيها، علماً
أن نسبة لا باس بها من اليساريين الذين تخرجوا من التجربة، تحرروا من عبادة صنم
الشعار، واجترحوا طريقا ثقافيا وتنويرياً غير الطريق المذبوح بسكين النقيض
والنقيض. أما القائدة الطلابية اليسارية والحبيبة فقد ترنحت مثخنة بجراح السقوط،
لأنها ما انفكت تتدحرج بين الحبيب والشعار دون ان تتنبه الى اين ستصل بها هذه
الدحرجة.
في كتابي
الأخير "البستان يكتب بالندى" ازعم انني حاولت أن أجعل للمعادلة
النضالية والطلابية قدمين- القدم السلبية والقدم الايجابية، ولا ادري، هل حققت
التوازن الموضوعي في ذلك ام لا.
وبالانتقال
إلى الصفحات المخصصة لتجربة الاعتقال، أرى انها كانت مهمة وضرورية في السياق،
واعطت صورة عن مجتمع المعتقلين، بحلقاته النضالية والتنظيمية والثقافية
والاجتماعية، وكان من المناسب التعمق اكثر في التركيبة النفسية للإنسان المعتقل،
الذي استقى من حميمية حضن الجماعه، حماية وأمنا، جنباً إلى جنب مع تلقي ضربات
عصاها الغليظة عن طريق الاجراءات والضوابط الأمنية المشددة والقوانين التي شكلت
ضاغطا وربما قامعا للفرد.
اما من حيث
الأسلوب فقد قرأت الرواية باسلوبين أو لأقل بمستويين:
المستوى
الاول: الإبداعي الفني، الذي بدا واضحا، في الحوار بين بطلي الرواية وتفاعلاتهما
النفسية، خلال المرحلة الجامعية، كان هناك تكثيف وتشويق وجمل رشيقة.
المستوى
الثاني: ويتلخص في لغة السرد، حين كان يتعلق الأمر بالتاريخ، فطغى الاسهاب وحضر
الماضي وفرد فصوله وعناوينه وأحداثه، لكن بقلم الروائي، صحيح أن الكاتب كد وتعب
وبحث وتقصى من أجل أن يكون وفياً لتاريخ بيت لحم، غير ان الاطاله قضمت من حصة
ورصيد الإبداع.
واختم قراءتي
كتكثيف لما ذكرت في النقاط الاتية:
أولاً- العيسة
صوت روائي له خصوصيته ومفرداته، وهو لا يشبه صوتاً روائياً آخر، والملاحظة ليست
عابرة أو هامشية، فالأصل أن يكون للكاتب لونه وبصمته ونبرته، وهذا ما حققه الكاتب
في عمله الروائي بامتياز.
ثانيا
-الروائي مطلع ومثقف، إذ ْيسهل على القارىء والمتابع بعد الانتهاء من قراءة نص
أدبي أن يحدد إذا ما كان الكاتب عميق الثقافة، أم انه يتزحلق على سطح الثقافة،
والعيسة كان كاتبا أمسك بالعمق.
ثالثا -لا
ينحصر هدف الرواية وأية رواية في جعل القارىء، يلتهم السطور بمتعه، فاذا استطاع
الكاتب ان يصيب هذا الهدف، فانه يكون اصاب نصف النجاح، أما النصف الثاني فيتعلق
بماذا خرج القارىء من الرواية على مستوى المعلومات والمعطيات، فالرواية هي مساحة
ثقافية ومعرفية، فهل حقق العيسة الهدف في النصف الثاني؟، أجزم بنعم لأن كم ونوع
المعلومات والحقائق شكل وجبة ثقافية معرفية وتأريخية دسمة.
رابعا- هل حقق
الكاتب النصف الأول بنجاح، اقصد امتاع القارىء وادهاشه، أعتقد انه حققه في جوانب
وفلتت منه في جوانب أخرى، وقد اشرت إلى ذلك عندما تحدثت عن أسلوبين ومستويين.
خامسا - اذا
كان من درس شديد الأهمية حملته الرواية، ففي رأيي انه درس التسامح الذي عاشه مسلمو
ومسيحيو بيت لحم العرب الفلسطينيين في مساجدهم وكنائسهم ونذورهم واسمائهم ومزيجهم
الاجتماعي الديني القيمي الأخلاقي، في التصاقهم بالمكان وفهمهم للاشتراطات
الموضوعية للاستمرار في العيش والتكامل، ويبرز هذا
في استلهام
تجربة الماضي الاجتماعية والدينية، بخاصة ونحن نعيش مرحلة استعار نار الطائفية في
بلداننا العربية، واللجوء الى توسيع هوة الاختلاف والتنافر وتكفير الآخر وتخوينه
من قبل جماعات أصوليه متطرفه. اما في فلسطين فقد كان التسامح في الماضي وهو مستمر
في الحاضر وان تعتريه احياناً بعض الهفوات والثغرات، لكنها سرعان ما تزول وتتبدد،
فنحن الفلسطينيين الذين تعايشنا وتسامحنا في الماضي، نغلق ابواب الكراهية في
الحاضر.
وختاما اسجل
احترامي وتقديري لهذا الجهد، لأنه اضاء شمعة في ظل ظلام يزحف من حولنا، اتمنى لهذه
الشمعة ان تصمد أمام الرياح العاتيه، بل وان يضاف اليها مزيد من الشموع، لأننا
عشاق نور لا ظلام، عشاق حرية لا عبودية وانكسار.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق