تخفي الأسواق
القديمة المقببة بالقدس العتيقة، أحد الأديرة التاريخية المهمة، التي يتكثف فيها
تاريخ عدة عصور مرت على القدس وفلسطين، وقد لا يجعل عبق التاريخ والحركة الدؤوبة
في الأسواق، الناس ينتبهون إلى مدخل قديم مهيب لدير مار يوحنا.
يبدو المدخل
جزءا من فضاء الأسواق القديمة التي تضم مجموعة متنوعة من السلع مثل: الصنادل،
والملابس، والمواد الغذائية، والسيراميك، والشموع، والهدايا التذكارية.
لذكرى
المعمدان
يقع الدير بين السوق الجميلة التي تدعى سويقة
علون، والطريق المؤدية إلى حارة النصارى. بالقرب من طريق رومانية قديمة، تم الكشف
عنها، خلال عملية ترميم عام 1977، وتم الابقاء على جزء من البلاط الروماني القديم
الذي يعود إلى نهاية الوجود الروماني في فلسطين. وما زالت الناس تدب عليه بفخر
وانتشاء.
الدير مخصص
لذكرى يوحنا المعمدان، الذي عمّد السيد المسيح في نهر الأردن، وكُتب على المدخل
باليونانية، ما يفيد ذلك، ووصف المعمدان بالرائد، وفوق اللوحة التعريفية، يوجد رسم
يمثل رأس يوحنا المعمدان الذي قُطع من قبل هيرودس أنتيباس، ووفقا للتقاليد
الأرثوذكسية دفن هنا.
يتبع الدير،
للروم الارثوذكس، ويعود تاريخه إلى العهد البيزنطي، ويخفي البناء الحديث نسبيا
للدير، كنيسة يرجع تاريخها إلى عام 450، وأخرى أحدث عهدا شيدت عام 1048. الكنيسة
الأولى البيزنطية بنيت في القرن الخامس الميلادي، وهي واحدة من أقدم الكنائس في
الأراضي المقدسة. دُمرت الكنيسة لاحقا بعد القرن السابع، وفي وقت لاحق، سمح
المسلمون، لمجموعة من التجار الايطاليين ببناء كنيسة جديدة على أنقاض الكنيسة
البيزنطية.
في العهد
الصليبي
عندما احتل الصليبيون القدس عام 1099، حولوا
الدير، والكنيستين الى مستشفى ومقرا لفرسان يوحنا (الأسبتارية)، التي تحولت إلى
فرقة عسكرية مهمة للدفاع عن الأراضي المقدسة، في وجه التهديدات الإسلامية، وبنت
منشآت ومراكز أخرى مثل قاعات الفرسان في عكا (1104م).
وتم نقل
المستشفى إلى عكا بعد تحرير القدس عام (1187م)، ثم إلى قبرص بعد سقوط عكا عام
(1291م) وفرودس عام (1309م).
برج قبة الدير
والجرس، من بقايا العهد الصليبي. وبعد تحرير صلاح الدين للقدس، أعاد المكان، مع
أبنية أخرى للروم الأرثوذكس، ليشهد الدير صفحة جديدة من تاريخه.
الآن يمكن
النزول بدرج إلى الكنيسة البيزنطية، تحت الأرض، التي تم الحفاظ عليها. وخضع الدير
لترميم من قبل بطريركية الروم الأرثوذكس عام 1839.
يوجد في فناء
الدير بئر قديمة، تمتلئ من مياه الأمطار، ويستخدمها الرهبان الذين يسكنون الدير.
في القرن
التاسع عشر
تتوفر لنا شهادة عن حال الموقع، كتبتها ماري
اليزا روجرز (ترجمة جمال أبو غيدا)، التي زارت القدس عام 1855م: "مررنا عبر
قنطرة رومانية عريضة ذات ارتفاع منخفض ومشغولة بأشكال هندسية لمربعات مسننة وأنماط
هندسية متدرجة، تستند إلى عمودين رخاميين بتاجين منحوتين. تسلقنا كومة تراب ملأى
بخضراوات تالفة وجثث قطط وكلاب عفنة، شكلت مرتعا خصبا من القاذورات للذباب
والبرغوث، وانهمك بعض الأطفال بائسي المظهر وشبه العراة باللعب وبأكل قشور البطيخ
بشراهة ونهم، عبرنا ساحة ملأى بالقاذورات التي كانت الكلاب تنبح وتزمجر وهي تتقاتل
عليها، لكننا أُخذنا بالجمال الغريب لهذا الصرح المهجور من زمن الفروسية القديمة.
تبين لنا ان ثلاثة من الجدران الخارجية لهذا المبنى الضخم ما زالت واقفة في
مكانها، وفي داخلها قواطع تحدد ثلاثة أجنحة مستقلة، استخدم أحدها كمدبغة، بينما
كان الجناحان الآخران يحتويان على هياكل عظمية لحمير وخيول، حيث تُجر جثث
الحيوانات التي تنفق من الأماكن المجاورة والمحيطة إلى هذا المكان القذر، لكي
تلتهمها الكلاب والجوارح من الطيور، ثم صعدنا كومة من النفايات والكلس المحترق نحو
سلالم حجرية زلقة، قادتنا إلى طريق علوي ذي تصميم يحاكي الطابق السفلي للدير،
فوجدنا نافذتين كبيرتين محاطتين بزخارف نباتية يفصلهما عمود حجري وقوالب جصية تعود
في تصميمها للعصر الانجليزي المبكر، وكانت جميعها في حالة جيدة".
وتضيف روجرز:
"بالرغم من الازعاج الذي تتسم به المنطقة المحيطة بالدير، إلا انني زرته مرات
عديدة. كان النمط المعماري في معظم أرجائه يشبه النمط الروماني الصقلي، بينما كانت
بعض أقسامه تذكرني بالأسلوب المعماري الانجليزي في العصور المبكرة، يبدو ان المبنى
كان شيد ليكون حصنا وملاذا كنسيا للعبادة واداء الصلوات. يقال ان بناءه تم في
القرن الحادي عشر ليكون استراحة للحجاج الذين يؤمون بيت كنيسة القيامة، وكانت
أهميته تتنامى بسرعة وبشكل متواصل حتى القرن الثالث عشر لدى الانهيار المفاجئ
للنفوذ المسيحي، فتعرضت معالم تلك الفترة للتدمير أو انها تركت لتذوي وتضمحل
تدريجيا كما حدث لهذا الدير. استرعت الرسوم والتصاميم والشعارات المحفورة على
البوابة الرومانية التي عبرناها انتباهي، مع ان معالمها تعرضت للاندثار والتشويه
بفعل اساءة استخدامها في الآونة الأخيرة، وسيكون العثور عليها أمرا صعبا للرحالة
الذين سيؤمون هذا المبنى في المستقبل".
وزارت روجرز
الدير بعد سنوات وكتبت: "عندما زرت المكان مجددا في عام 1859، أي بعد مضي
أربع سنوات، فوجئت ان البوابة اغلقت، وان الأرض الخلاء المواجهة لها اغلقت أيضا
وتم تحويلها إلى دكان أو متجر متخصص ببيع الخرز والأساور المصنوعة في
الخليل".
الحياة تدب
الآن في الدير، لكن من دون ضجيج، وبشكل يتناقض تماما مع حركة الأسواق المحيطة به،
والاهتمام الذي يبديه الزوار والسياح بما حوله من معالم، بينما يبدو هو وكأنه
مكانا منسيا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق