أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 5 فبراير 2016

الشخصية الشعبية في مجموعة "إنثيالات الحنين والأسى"/ رائد الحوّاري


الخميس‏، 04‏ شباط‏، 2016
ليس من السهل أن نتكلم عن شخصية شعبية وبلغتها العادية في نص أدبي، لكن "أسامة العيسة" استطاع أن يبهرنا في هذه المجموعة القصصية التي يستخدم فيها لغة خاصة لإيصالنا إلى قلب الشخصية الشعبية التي تحدث عنها، فكانت "الحاجة نفيسة" حاضرة ومؤثرة فينا كما لو كنا نحن من كتب عنها، أو من استمع إليها وهي تتحدث، وليس "أسامة"، وكذلك الأمر ينطبق على شخصية "التحسينيّ" التي قدمها يشكل كوميدي امتزج فيه الجد والهزل معا، بحيث جعلنا نحترم هذه الشخص رغم ما فيها من موروث شعبي متخلف، فأهم ما في هذه المجموعة اللغة التي ضمت أحداث القصص، ومقدرة الكاتب على ربط الأحداث بطريقة تجعل القارئ وكأنه يستمع للقصص من راويها بذاته، وليس من "أسامة العيسة".
في قصة "طوشة الشلن" وهي قصة حقيقية ترويها لنا الحاجة "نفيسة" المرأة المكافحة التي عملت على تربية أولادها في المخيم، بعد أن تركت بيتها وقريتها في فلسطين ال 48، فهي امرأة كبيرة في السن، وأمست جدة، تعمل في دكان متواضعة جدا في المخيم، كي تتسلى وتشعر بأنها منتجة، فأولادها يلحّون عليها أكثر من مرة لترك الدكان، لكنها ترفض أن تكون بلا عمل، تقوم الانتفاضة مما يستدعي أحيانا أن يكون هناك إضراب يوجب على كافة المحلات إغلاق أبوابها، لكن "الحاجة نفسية" تكون مستثنية في أغلب حالات الإضراب، إلى أن تصلها ورقة من "محمد" ابن ابنتها يطالبها بإغلاق الدكان، فيكون هناك حديث بينها وبين "أسامة" والتي تنفتح على الماضي وتحدثنا عن "شلن زكريا" وهي قصة تستحق التوقف عندها، لما فيها من فكاهة وبساطة المواطن الفلسطينيّ، وفي ذات الوقت تقدم لنا تجبر المحتل الانجليزي بالشعب الفلسطينيّ، والذي فرض غرامة مقدارها "جنية" على كل شخص شارك في "الطوشة" التي وقعت على أثر الخلاف على "شلن زكريا" بحيث أن شلن "كلف أصحابك ألف جنيه" ص12، وهذا المبلغ كان كبيرا جدا على الأهالي.
ما يحسب لهذه القصة وجود طرفة يقدمها الكاتب بين الحين والآخر كما هو الحال عندما يتم الحديث بين ابنها وأبو تيسير التحسينيّ، فيتكلم الابن عن مشاكل الدكان "والأولاد العفاريت أصحاب الأيدي التي تطال أي شيء في الدكان ... يشتري لها عريس" ص6 وعلى ضرورة بقائها في بيتها، فيرد عليه "أبو تيسير التحسينيّ":
"حرام عليك. العجوز قبرت أربعة أزواج. لا تتقلد الخامس، ينولك ثواب" ص7، بمثل هذه الكلمات التي تقال هكذا بعفوية يجعلنا الكاتب نتقبل النص ونشعر بقربه منا، وقربنا منه، فهو ليس جادا وليس فكاهيا، لكنه يحمل الحالتين، وهذا ما يميز هذه المجموعة.
"في قصة "خبر العنتري" يتحدث فيها الكاتب عن المقامات المنتشرة في كافة أنحاء فلسطين وكيف أنها تحمل شيئا من الأفكار الخارقة، رغم أننا نعيش في عصر علمي/مادي لا يلقي بالا للخوارق، فيحدثنا "أبو تيسير" عن مقام "سيدنا أبو يحيى، وعلى فبره أقام جددونا المقام" ص14، فهذه المقامات كان لها أثرا في المجتمع الذي آمن بها، فقد "شلت يد أبي محمود لحلفانه زورا في حضرة العطرة" ص14، وأيضا يحدثنا عنه بعد الاحتلال وكيف أصبح فيقول عنه: "صحيح أنه أصبح مربطا لخيول اليهود، لكنهم حين حاولوا هدمه لم يستطيعوا، ضربته الجرافة مثنى وثلاث، وفي الرابعة أصابها العطب، فقالوا لأنفسهم ما لنا وماله، من أتاه ولد وكانت امرأته عاقرا، وقد وهن عظمه واشتعل شعره شيبا وبلغ من العمر عتيا" ص16 ما يحسب لهذا الكلام، أنه جمع ما بين الحقيقة التي حدثت وبين الأفكار الدينية التي يحملها الراوي، بحيث جعل المحتل يتكلم بثقافة ولغة الفلسطينيّ، وكأنه بهذا يمحي/يلغي المحتل الذي لم يجد تبريرا/تفسيرا لما حصل عندما عطبت الجرافة أمام المقام، فجعلته يذهل ويتكلم بلغة وبأفكار المجتمع الفلسطينيّ.
في قصة "لقاء" يحدثنا الكاتب عن احتلالين لفلسطين، فالمواطن الفلسطينيّ لم يجد فرق بينهما، الأول أخذ شكلا عربيا، والثاني صهيونيا، لكن على أرض الواقع لم يكن هناك فرق بينهما، فمن تعرض للسجن في "الجفر" وجد نفسه مسجونا في "سجن الرملة" وما يعرض عليه من أسئلة من قبل الاحتلال تعرض عليه في الضفة الثانية للنهر، فهي نفس الأسئلة، "عدد له رجل المخابرات، أسماء نشطاء المخيم، وانتماءاتهم الفصائلية.. الاتفاقات ... الاختلافات.. تفاصيل اجتماعات، وكأن الدولتين تقرأن على شيخ واحد. تعتمدان ملفا واحدا" ص29، وكأن الراوي بهذا يؤكد بأن فلسطين كانت محتلة، إن كان من قبل النظام الأردني الذي سلمها على طبق من ذهب في عام 67، أو من الاحتلال المباشر والصريح من قبل الإسرائيلي عامي 48 و67، وهذا الكلام لم يكن مجرد إنشاء لغوي، بل واقع عاشه الفلسطينيّ في العهدين، فكلاهما مارس البطش والقمع بحق كل من عمل على إعادة الحق لأصحابه.
وعندما يتم استدعاء "التحسينيّ" للتحقيق في الجهة الأخرى من النهر يكون هذا الحوار مع ضابط المخابرات
"-كما رأيت نعرف كل شيء عن أهل الدهيشة
ـ*إنشاء الله تعرفون كل خير.
-خير..! ملاعين أولاد ملاعين..
*ملاعين على إسرائيل... يا بيك
-اليوم ع إسرائيل وبكرة علينا.
*إحنا وانتم ع إسرائيل
-بلاش استهبال .. وبلاش رد .. اسكت ساكت.. أنت هنا لتسمع فقط" ص30 بهذا الحوار مع ضابط المخابرات يحسم الراوي مسألة الاحتلالين لفلسطين، فكلاهما عمل ويعمل على ضرب وتضعيف أي مقاومة يمكن أن تحصل من الفلسطينيّ.
وللتذكير يعيدنا "التحسينيّ" إلى أيام العهد الأردني في فلسطين فيحدثنا عن "حكيم الفقراء والمرضى، ... عيادة الدكتور غضب الرب والحكومة نازل عليه ... مطرود من المستشفيات،... ضيف سجن الجفر الثابت" ص31، بهذا التاريخ القمعي عاش الفلسطينيّ في ظل الاحتلال الأوّل، فهو كان مطارد في لقمة عيشه، كما كان السجن، وأي سجن؟ الجفر سيء الذكر، الموجود في منطقة صحراوية في جنوب الأردن، بحيث أن أي عملية هرب تكون محسومة نتيجتها سلفا، الموت في الصحراء، وفي ذات الوقت مشقة الزيارة الأهل له، بمعنى أن الاحتلال الأول كان يعاقب السجين وأهله معا.
ضمن هذه الأجواء الصعبة والقاسية التي تتحدث عن المعاناة وصعوبة وقساوة الأوضاع التي يمر بها الفلسطينيّ، استخدم الكاتب شيئا من الترفيه/الفكاهة في قصته، فكانت "أم تيسير زوجة التحسينيّ" هي من خففت من حدة الأحداث وجعلها أسهل للهضم، فيقول عنها عندما تم إقناعها بضرورة الذهاب إلى الحكيم وبعد أن قبلت بالذهاب نجدها بعد أن وصلت القدس تتخذ هذا الموقف، "وعندما وصلت القدس حاولت الحاجة تغيير رأيها لتكمل إلى معراج الحبيب، شدها أبو تيسير مهددا:
- سأتركك هنا ... لوحدك.
*إيش يعني... أنا صغيرة وإلا غشيمة" ص32، فقد كانت العلاقة بينهما علاقة حرص ومحبة، لكن "الحاجة أم تيسير" عنيدة وترفض أن تتكيف مع العصر.
وعندما تذهب إلى الطبيب ويشخص حالتها ويوصي بضرورة إرسالها إلى المستشفى لخطورة حالتها نجد هذا الحوار معها.
"-أنت مصنوعة من إيش يا ولية. شردت من المستشفى .. ستموتين.
*أموت؟ هذا منامكم.
-انظري لنفسك تهتزين كالقصبة.
-يا جماعة الدكتور قال بأن حالتها خطرة.
*خطر يدهمك أنت ودكتورك" ص33، هذه المرأة العنيدة بقيت حية وحاضرة، وعندما تم اللقاء بين "التحسينيّ والدكتور" في الضفة الأخرى من النهر وتم استحضار تلك الذكريات الماضية، نجد أيضا هذا الشكل من الفكاهة الأدبية: "سيتعب عزرائيل من التفكير قبل أن يجرؤ على الاقتراب منها خوفا من الفشل، إنها كالقطط، بسبعة أرواح" ص36، أعتقد بأن هذه القصة تحديدا فيه من المتعة والشيء الكثير، فالأحداث أحيانا جادة، بشكل قاسي ومتعب للمتلقي، الذي يتأذى نفسيا من حجم البطش والقمع الذي مورس على شخوص القصة، وأحيانا يستمتع ويستسهل الأحداث من خلال الحديث المتعلق "بالحاجة أم تيسير" وهذا ما يحسب للكاتب، الذي تنصل من الحديث والسيطرة على شخوص القصص، وجعلها هي من تروي وتتحدث بلغها البسيطة، فكان بعيدا عن التحكم أو الرقابة مهما كان شكلها، فكل شخصية كانت محررة تماما من هيمنة الكاتب، وكانت هي السيد المطلق وتتحدث دون أي حواجز أو رقابة، وهذا ما يمثل أهم عنصر في القصة، استحضار الشخصية الشعبية من الواقع، وتقديمها كما هي، بدون زيادة أو نقصان، فجعلها تبدوا لنا وكأننا نحن المستمعين لما تقوله وليس الطرف المقابل.
الملفت للنظر بأن شخصية "التحسينيّ" كانت حاضرة في غالبة القصص، وهذا يشير إلى تأثر الكاتب بهذه الشخصية، فهي كانت المهيمن على بقية الشخصيات، حتى أنها تجاوزت شخصية الكاتب نفسه، فهي من يروي ويستحضر المكان والتاريخ وما فيه من أحداث، وهذا الشكل من حضور الشخصية الشعبية كان يهيأ لعمل أدبي أكبر وأضخم، أي أن الكاتب جرب نفسه في المجموعة القصصية "إنثيالات الحنين والأسى" والتي نجح فيها نجاحا كاملا، لكي يتقدم أكثر ويعمل رواية كاملة تتحدث عن الشخصية الشعبية.
*المجموعة من منشورات مركز أوغاريت الثقافي للنشر والترجمة، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى 2004.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق