أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 29 أكتوبر 2016

عزيز العصا عن رسول الإله إلى الحبيبة

أسامة العيسة؛ روائي وكاتب فلسطيني في أجناس أدبية وعلمية مختلفة، قادم من هناك حيث اغتصب المكان وشرّد الإنسان وامتهنت الكرامة البشرية على أيدي عصابة مارست الأبارتهايد بأبشع صوره وادعت الديمقراطية دينًا وعقيدة!

وأما العمل الأدبي الذي نحن بصدده لـ "أسامة العيسة"؛ فهو محاولته القصصية الثالثة في مجموعته القصصية "رسول الإله إلى الحبيبة" في طبعتها الأولى، الصادرة عن "الفسائل" في القدس، في العام 2017، وهي تبدأ بغلاف يحمل صورة لمقام النبي نوران في النقب، وتنتهي بالغلاف الأخير الذي يحمل صورة تمثال عُثِرَ عليه في النقب أيضًا، يجاوره نص مقتبس من إحدى القصص يشير إلى روح الثنائية المتماسكة، بل الملتحمة، بين المسلمين والمسيحيين في مدينة بيت لحم. ويربض بين الغلافين (236) صفحة من القطع المتوسط، يتوزع عليها ثمانية عشر قصة، تتقارب غالبيتها في حجمها، إلا أن أطولها قصة "رسول الإله إلى الحبيبة" التي احتلت عنوان المجموعة.
لأن كاتبنا "أسامة العيسة" روائي مبدع معروف، وهو صاحب رواية "مجانين بيت لحم" التي نالت جائزة الشيخ زايد للكتاب في نيسان من العام 2015، فإنه لا بد من التذكير بأن القصة، كجنس أدبي، هي الأب الروحي للرواية؛ فهما ينتسبان إلى الأدب النثري، إلى جانب المقالة والمقامة والسيرة الشعبية.
في سرده القصصي، لم يبتعد "أسامة العيسة" كثيرًا عن منهجيته في السرد الروائي؛ التي يهتم فيها بسيرة المكان، ويتتبع تغييراته من خلال الإنسان الذي يتغير ويمر عن المكان، وتتوالى الأجيال التي تتفاعل معه وتحدث التحولات الحضارية والتراثية المتراكمة عبر العصور. فمنذ القصة الأولى، التي تحمل عنوان "بين القدسين"، كدت أتوقع أنني مقبل على نص روائي؛ لتنوع الصور التي تصف حياة بطل القصة "ضبعو" الذي عبّر "العيسة" من خلاله عن حقبة زمانية ممتدة بين ما قبل النكبة حتى أواسط تسعينيات القرن العشرين؛ أي نحو خمسة عقود من الزمن. إلا أن انقطاع الخيط الروائي عند القصة الثانية وما تبعها من قصص، جعل الأحداث مستقلة والمعالجات الزمانية والمكانية والاجتماعية متباعدة إلى حد ما.   
وفي رؤية شاملة لهذه المجموعة القصصية، وجدت "العيسة" وقد اصطحبني في رحلة وجدانية بين ربوع القدس وبيت لحم، وأما أبرز ملامح هذه الرحلة فإنها تتمثل فيما يأتي:
أولًا: المكان-البطل:
فقد حرص "العيسة" على أن يوفر لقارئه المعرفة الكاملة والشاملة بالأماكن التي يمر عليها، وكأنه يعرض أمام القارئ خريطة يتتبع عليها الأماكن، مع سرد عن سيرة كل مكان على حدة من النواحي الجغرافية والتحولات التي طرأت عليه عبر الحقب المختلفة، فيبث الروح السينمائية في النص؛ عندما يخرجه من النص الجامد إلى حالة من الحركة والفعل الجميل. ففي قصة "الحرون"، تتبع "العيسة" مسار العجل، من مكان هروبه من مدينة بيت لحم،  حتى عودته إلى بلدة بتير، وهو يرسم صورة لحال حقبة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي التي كان يتقاسم حكم فلسطين الجيش الأردني والاحتلال الاسرائيلي، في مراقبة الحدود والخطر الداهم على كل من يتجاوزها من الجانب "الأردني".  
ثانيًا: الفلسطينيون: أصحاب حضارة.. قاوموا المحتل.. وأسماءهم مرتبطة بالأرض وما عليها:
ففي قصتيّ "بين القدسين" و"المسخوطة" يصف حال بلدتي لفتا والمالحة قبيل النكبة، وما كان على تلك الأراضي الواسعة الفسيحة من حضارة وعمران، ويصف الغنى الذي كان يتمتع به أهل لفتا، وانعكاس ذلك على حياة الأسرة والمجتمع والرجل والمرأة.. حتى جاء الاحتلال وقلب حياة الفلسطينيين رأسًا على عقب؛ فشرد أهلها ونهب خيراتها وهوّد حضارتها وأحوالهما. وفي قصة "شحّاذ جَبَع الغامض" يؤكد "العيسة" على أن الاحتلال "يغيّر فلسطين" كما لم يحدث منذ زمن بعيد. 
وتكاد الصورة تكتمل في قصة "أبو خَطّ أَحمر" التي تشير إلى أنه أريد للشعب الفلسطيني أن يُشرّد ويطرد من بلداته الأصلية، لكي يعيش على ما يرميه له النظام العربي الرسمي من فتات، فيكون الرد أن ينهض الشباب ويشمرون عن سواعدهم ويَسْخَرون من التشرد، ويحيلونه إلى مجرد ذكريات لأيام خلت.
ولم يغادرنا "العيسة" قبل أن يسرد علينا "قصة تسجيلية" للشهيد أحمد البلبول الذي قضى على أيدي جنود الاحتلال بعد مطاردة استمرت بضع سنوات، ثم يتبين، بالبحث والتمحيص، أـن الشهيد "أحمد" سليل عائلة مناضلة ترفض الظلم منذ الجد الأول الذي حارب الاحتلال البريطاني، وإسمه "أحمد البلبول" الأول أيضًا، لتنتقل إلى الحفيد القادم "أحمد البلبول" الثالث الذي ولد يوم ارتقى "أحمد البلبول" الثاني شهيدًا. 
ثالثًا: الاحتلال، والمستوطنات، والمستوطنون يعيقون حياة الشعب الفلسطيني:
"دولة الاحتلال هي العدو الأول للشعب الفلسطيني" (ص: 206)، هذا ما يقوله العيسة في قصّة "الخنَّوْص الأزرق"، ثم يسرد العديد من الصور والأشكال التي تؤكد هذه المقولة، فبعد النكبة التي أودت بأكثر من ثلاثة أرباع فلسطين، ثم تلتها النكسة التي أكملت الطوق على ما تبقى منها، أصبح الشعب الفلسطيني، أفرادًا وجماعات وقرى ومدنًا ومخيمات، تحت سطوة جنود الاحتلال ومستوطنيه المسكونين بالأرواح الشريرة القاتلة العدوانية، عندما يقتلون الأطفال، ويلاحقون العمال، وينثرون الحيوانات الشرسة كالخنازير البرية على تخوم القرى العربية لتنشر الرعب والخوف والأذى في أوساط تلك القرى.
وفي قصة "رسول الإله إلى الحبيبة" يتبين ذلك المسلسل الطويل من السرقات والتزوير والنهب للتراث الفلسطيني من قبل الاحتلال، بأدواته المختلفة؛ العلمية والعسكرية... الخ، حتى أن أيديهم وصلت إلى حد تهويد المقامات الإسلامية والمسيحية.
كما يتجلى جوْر المستوطنين وقوات الاحتلال التي تقف خلفهم بالحماية والتشجيع، في قصة "أيام حلمي الثمانية" التي نرى فيها وصفًا، بل تصويرًا شبه بصري، لما يتعرض له الشعب الفلسطيني بشرائحه كافة، بخاصة الأطفال، من قبل المستوطنين الذي يرون في غولدشاين (صاحب مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل) أنموذجًا يحتذى، ويساعدهم في ذلك القضاء الذي يتم توظيفه لحماية القتلة وتبرئتهم.
وهذا كله يجعل وجود الاسرائيليين والفلسطينيين "على نفس الأرض وتحت نفس السماء، واحدة من نُكات التاريخ والجغرافيا المحيّرة، والمضحكة، والمأساوية في آن" (ص: 41).
خامسًا: السخرية المرّة وسيلة تعبير عن الحالة السياسية في الواقع الفلسطيني:
في قصص "بين القدسين" و"مجنون بو رقيبة" و"شحّاذ جَبَع الغامض" يوظف "العيسة" في كل منها شخصية فكاهية يمرر من خلالها النقد اللاذع للواقع السياسي. ففي الأولى يظهر "المنغولي" شرطيًا يسهم في إدارة دفة الأمن المجتمعي؛ كرجل سير، ثم يتوجه إلى القدس ليعود إلينا من هناك برسالة مفادها أن الوطن تشتت، بل تمزق، بين التسميات المختلفة: الضفاوي، والغزاوي، والقدسي... الخ. وفي الثانية تظهر شخصية ابن المخيم المسكون بشخصية "السلطان إبراهيم"، وهو يتبنى الخطاب البورقيبي الذي انتهى باستقبال الفلسطينيين على أرض تونس، بدلًا من أن يصطحبهم إلى تحرير وطنهم فلسطين. وفي الثالثة، وعبر شخصية غامضة يأخذ دور الشحاذ، يصدر "العيسة" بطاقة هوية للمكان الذي هو مفترق طرق يختلط فيه الأعداء المجتمعون على هذه الأرض، وجبع تلك القرية الصغيرة التي تتنازع عليها سلطتين، ثم يختفي شحاذ جبع فجأة ليظهر مكانه شحاذون بصور وأشكال مختلفة. 
ولا تخلو قصة "الأرملة البيضاء" من مواقف ساخرة مشبعة بالمرارة، عندما تجعل تلك الأرملة (ذات السلوك الشائن) من الراية البيضاء رمزًا لعفتها، ثم يمر الزمن ويتساوى الجميع مع تلك الأرملة؛ فيرفعون الراية البيضاء أيضًا، ويدافعون عنها ويتبنونها كمنهج حياة!
سادسًا: العلاقة الإسلامية-المسيحية في بيت لحم مشبعة بالمحبة والوئام:
في قصة "ما تيسر من سورة مريم" يستحضر "العيسة" تلك العلاقات الطيبة التي كانت سائدة بين أبناء الديانتين: الإسلامية والمسيحية، إذ أن "أم جريس" توقف بيع العرق عند سماعها صوت الشيخ عبد الباسط في مسجد عمر، والأولاد من الديانتين يلهون معًا ويلعبون معا، بلا فواصل ولا حواجز. وفي ساحة مغارة الحليب يصلي المسلمون والمسيحيون في سنوات المحل، طالبين من الله سبحانه أن ينزل المطر. وحارة العناترة تحتضن الجميع من الديانتين بمحبة ووئام.
خلاصة القول،
يتضح من هذه المجموعة القصصية أن "العيسة" يتحرى الدقة في بياناته وبيناته التي يريد للقارئ استقاءها من النص. كما أنه يمرر أفكاره وقناعاته وتحليلاته، عبر مجموعة من الإيماءات، بين السطور بما تحمله من سخرية ناقدة مشبعة بالمرارة والسخط على واقع لا يريحه. وعند الغوص في تلك المجموعة، قصة قصة، وجدتني وقد خرجت، على المستوى المعرفي، وأنا أفضل حالًا مما كنت عليه قبل أن ألِج إلى هذا الكتاب. كما أن تلك المعرفة جاءت بمستويين اثنين: فأما المستوى الأول، فهو أنني من الجيل الذي عاش معظم الأحداث والمواقف والمشاهد التي اتكأت عليها القصص. وأما المستوى الثاني، فهو أنني نهلت معرفة لم أكن أمتلكها من قبل.
وأما على مستوى السرد القصصي وأدواته وآلياته، فإنني أرى في أسلوب "العيسة" السلاسة واليسر، مما يجعلها نصوصًا ملائمة لجميع الأعمار، ما عدا القصة-العنوان التي وجد فيها نفسه مضطرًا إلى الذهاب في اتجاهات ذات أعماق علمية تلائم مستوى بطل القصة، الذي هو عالم آثار يهودي الأصل والفصل والهوى والهوية.        
من جانب آخر، أرى في هذه المجموعة القصصية سفيرًا لفلسطين لدى القارئ العربي؛ يعرفه بالأماكن؛ من مدن وقرى وحارات وأزقة وشوارع... الخ، وما جرى فيها من أحداث، وسمات الشعب الفلسطيني الذي بنى حضارته الخاصة به على أرضه، وتفنن في مقاومة الاحتلال، رغم الفرق في القوة والعتاد والعدة. وما أعنيه هنا، أن "العيسة" قد أسهم، وبشكل فاعل، في فرض القاموس الفلسطيني؛ بأبعاده الجغرافية والسياسية والاجتماعية على القارئ العربي، بلغة عربية فصحى، وبعبارات واضحة، وبكلمات تحمل حركات لا تترك القارئ يحتار في لفظها أو تأويلها.
فقد تمكن "العيسة" من وصف الصراع مع الاحتلال، عبر الحقب الزمنية المختلفة، الممتدة على مدى سبعة عقود من الزمن، من النكبة وحتى العام 2016. كما استعرض الكاتب أسماء العديد من القرى الفلسطينية في محافظتي القدس وبيت لحم، المنكوبة غير المنكوبة. كما مرّر، بسهولة ويسر، أسماء العائلات الفلسطينية التي تشكل مجموع المجتمع الفلسطيني.   
إذا كان الأمر كذلك بالنسبة للقارئ العربي، فإنها من الأولى أن نضع هذه المجموعة القصصية بين يدي القارئ الفلسطيني، لا سيما طلبة المدارس منه، بأن نجعل لها مكانًا على رفوف المكتبات المدرسية، لتوفير المعرفة لطلبتنا عن وطنهم وما جرى فيه في أحداث، التي حرص "العيسة" على عرضها بطريقة لا تخلو من الدراما المريحة، التي تتمتع بخفة الظل والسرعة في تمرير المعلومات، دون أن تترك في عقل القارئ ندبًا تضاف إلى الندب التي قد تتركها المواد الجامدة في المجالات المختلفة.

فلسطين، بيت لحم، العبيدية، 09/10/2016م
نشر في صحيفة القدس، بتاريخ: 29/10/2016، ص: 16

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق