كان يوم
الثامن عشر من تموز عام 1995 قائظًا في مدينة الخليل، والمواطنون يختبئون في
بيوتهم، يجلسون أمام المراوح الهوائية بتراخٍ، أو يروحون في قيلولة، ولكن في بيت
جميل في حي عين سارة تمتد أمامه الحقول المزروعة بالكرمة، كان الأمر مختلفا، فسكان
البيت يتمتعون بنشاط واضح، وبفعلهم تدب الحركة في البيت تحضيرًا لمناسبة احتفالية
للفتى نضال (12) عامًا أحد سكان البيت، فاليوم هو الاحتفال بعيد ميلاده الأوّل..!
وكنت مدعوا
لحضور ذلك الاحتفال، لاستمع لحكاية ذلك الفتى الخليلي الذي أضاء الشمعة الأولى في
حياته الجديدة، مِن والدته نوال.
وبعد عشرين
عامًا، وفي الأسبوع الأوّل من الشهر الأوّل في هذه السنة، التقيت السيدة نوال الشمّاسي،
لأستمع منها لبقية القصّة.
عندما تكون
الرصاصة حمقاء
بتاريخ
18/7/1994، نفذت بالقرب من حاجز بيت حانون (ايرز)، مجموعات من العمّال العاطلين عن
العمل، احتجاجات، عُرفت باسم (ثورة الجياع)، بسبب استمرار إغلاق قطاع غزة وعدم
السماح للعمال منه بالخروج إلى أعمالهم.
وفي اليوم
نفسه تضامنت مع (الجياع) وثورتهم عدة مدن في الضفة الغربية، ومِن بين هذه المدن:
الخليل، التي تركزت المواجهات مع جنود الاحتلال فيها، في منطقة باب الزاوية وسط
المدينة، وفي ذلك اليوم نزل نضال الشمّاسي (12) عامًا من عين سارة، إلى باب
الزاوية، وبعد المواجهات أو في أثنائها أعلنت قوات الاحتلال حظر التجول، فعاد نضال
كما نزل، راكبا دراجته إلى منزله، دون أن يدري بأن قناصا، وصفته أمه نوال الشمّاسي
بان الأحاسيس ماتت في قلبه، سيطلق عليه رصاصة غادرة من الخلف.
ودخلت الرصاصة
الحاقدة، فوق الخاصرة لتخرج من الجهة اليسرى بعد أن أزالت ثلاث فقرات من العمود
الفقري واخترقت الأمعاء الغليظة والدقيقة.
نُقل نضال إلى
مستشفى عالية في الخليل، وأُدخل إلى غرفة العمليات، وفُتح بطنه واغلق بـ (42)
غرزة، بدون تقديم علاج كاف له، كما اعتقدت والدته، ذات الإرادة الصلبة، فطلبت نقله
إلى مستشفى هداسا الإسرائيلي في القدس، وكان ذلك وقتها يتطلب موافقة الإدارة
المدنية، الاحتلالية، وجرى حديث متوتر بين أم نضال وممثل للإدارة المدنية، الذي
طلب، نتيجة للحديث والإلحاح الحديث مع مسؤول في مستشفى عالية الذي كان بوصفه
مستشفى حكوميا، خاضعا لمسؤولية الإدارة المدنية.
وسمعت أم نضال
المسؤول في المستشفى يقول لممثل الإدارة المدنية على الهاتف: "..نضال سيبقى
في المستشفى أسبوعا وسيعود إلى البيت".
دُهشت نوال الشمّاسي
مما سمعته، وعرفت بطريقتها وبأحاسيسها، ان كلام مسؤول المستشفى (شيفرة) مع ممثل
الإدارة المدنية تعني باختصار ان الحالة ميؤوس منها.
ولم يكن لمنطق
كهذا يمكن أن يمر على نوال الشمّاسي، المعروفة بإصرارها العنيد، فبذلت جهودا
إضافية، ونقلت ابنها في اليوم التالي لإصابته إلى مستشفى هداسا، وفي اليوم نفسه،
انفجرت أمعاؤه، فادخل إلى غرفة العمليات، وأجريت له عملية، استمرت، كما هو متوقع،
ساعات طويلة، وخرج منها إلى غرفة العناية المركزة، ودرجة حرارته تدور حول الأربعين
مئوية، واستمر كذلك نحو (36) يوما، ووالدته مرابطة أمام غرفة الإنعاش، ترى بعينيها
تدهور صحة ابنها وكيف نزل وزنه من (43) كلغم إلى (25) كلغم.
وبعد أن أصبحت
درجة حرارة جسد نضال ضمن معدلها العادي، كان على نوال الشمّاسي أن تحمل ولدها نضال
وتنقله إلى مستشفى (ألين) وهو قسم من هداسا، ليتلقى ابنها علاجا طبيعيا، وبعد
أربعة أيّام من مكوث نضال في (ألين) داهمته آلام شديدة فأعيد مرة أخرى إلى هداسا،
ليكتشفوا بان لديه أمعاء مثقوبة..!.
ثمان عمليات
أجريت لنضال
ثمان عمليات، وأمضى تسعة أشهر في مسيرة العلاج، كان في أثنائها، يخرج الفضلات من
جنبه، وتحسنت صحته، بعد زرع جسر بلاتيني في عموده الفقري، تكلف حينها 78 ألف
دولار، وجعله يستطيع الجلوس على السرير وعلى الكرسي المتحرك لأوّل مرة بعد إصابته.
وبعد هذا
التطور المهم في حالته، رفض نضال العودة إلى (ألين) في هداسا لتلقي العلاج الطبيعي
فأخذته أمه إلى مركز أبو ريا في رام الله، الأمر الذي رفع معنوياته، وبمزيد من
الإصرار بدأ نضال بممارسة السباحة، واشترك في سباقات المعاقين ودخل فريق المعاقين
لكرة السلة.
وبدأ الأمل
بعودة نضال لحياته الطبيعية، يدق بقوة في قلب والدته التي باعت مجوهراتها وأرضها
لعلاجه، وتعزز الأمل بعد أن اصطحبت نوال ابنها نضال إلى مستشفى (اخولوف)
الإسرائيلي في تل أبيب وعرضته على الطبيب الشهير (دوفكن) الذي عالج ابن الدكتور
(مصطفى خليل) رئيس وزراء مصر الأسبق، في واقعة اهتمت بها الصحف وقتذاك.
وبعد أن قبض
(اوخلوف) الكشفية الكبيرة، فحص نضال وطمأن والدته بان هناك إمكانية لإعادة الحياة إلى
رجلي نضال بنسبة تفوق 70%.
وعندما سمعت
نوال هذا الكلام طارت من الفرح، وجندت نفسها لتدبير أجرة العملية، واتصلت بمسؤول
رفيع في وزارة الصحة الفلسطينية (آنذاك)، الذي كان يتحدث على الهواء مباشرة بإذاعة
صوت فلسطين، طلبت منه نوال تحويلا من وزارة الصحة لمستشفى (اوخلوف) لعلاج نضال على
حساب الوزارة، ووافق على "تحويل الفلسطيني البطل نضال"، ووعدها على
الهواء مباشرة بتحقيق رغبتها وإعادة الأمل لنضال.
ولكن؟؟ يبدو
أن كلام الهواء يتطاير في الهواء، فعندما راجعت المسؤول اعتذر لها اعتذارا شديدا.
عملت الشمّاسي
على جانب آخر، فهي توقعت بعد إصابة ابنها ان يفتح جيش الاحتلال تحقيقا في الحادث،
ولكن ذلك لم يحدث فتوجهت إلى الشرطة لتقديم شكوى، فلم يسمح لها بالدخول بحجة عدم
وجود شرطية إسرائيلية لتقوم بتفتيشها.
وأتت ظروف غير
متوقعة، فحين ارتكبت الشمّاسي مخالفة سير، وتم سحب رخصتها منها وكذلك هويتها، فرحت
جدا لأنها ستستطيع دخول مركز الشرطة وتقديم شكوى ضد المجرم الذي كاد يودي بحياة
ابنها.
دخلت نوال الشمّاسي
إلى مركز الشرطة بدون تفتيش، وقدمت شكوى مطالبة بالتحقيق مع الجندي الذي أطلق
الرصاصة على ابنها، وبعد ثلاثة أشهر وصل كتاب لنضال ليقابل الشرطة العسكرية
الإسرائيلية، ولكنه في ذلك الوقت كان يخضع لإحدى العمليات الجراحية التي أجريت له.
وبدأت بين
الطرفين لعبة القط والفأر، وكلفت الشمّاسي المحامي الإسرائيلي (حاييم هيلر) مطالبة
بتعويض مالي كبير عن إصابة ابنها من قبل جيش الاحتلال.
في ذلك اليوم
القائظ في الخليل كان نضال يحتفل بعيد ميلاده الأوّل، في انتظار موافقة وزير الصحة
الفلسطيني لعلاجه، أو تحكم له (العدالة الإسرائيلية) بتعويض.
وكان نضال
فرحا لأنه:"كتب لي عمر جديد، بفضل الله وأمي التي تابعت حالتي بعزيمة جبارة)
كما قال بينما الأصدقاء يطفئون الشمعة الأولى، ونضال يستعد لانتظار طويل ولسان
حاله يقول: "رصاصة واحدة لا تكفي لقتل الحلم و العمر الجميل".
بعد عشرين سنة
تذكرت السيدة
نوال، عندما التقيت ابنتها سارة التي تعمل في وزارة السياحة والآثار في مدينة
الخليل، وكان عمرها عندما أُصيب شقيقها 9 سنوات.
سألتها عن
الوالدة، وعن شقيقها، فأخبرتني، بان نضال، واصل طريقه باصرار، وأصبح محاميا، يحمل
شهادة الماجستير في القانون.
وعندما التقيت
والدتها، بعد أيّام، كانت على نفس الصورة التي علقت بذهني قبل عشرين عاما، المرأة
الصبورة، القوية، التي قررت انقاذ ابنها، ونجحت.
قالت لي:
"نضال أصبح محاميا، وسارة التي كنت أترك مسؤوليات المنزل على عاتقها، في تلك
السن المبكرة، وأخرج لمتابعة وضع نضال، أكملت دراستها، وتشغل وظيفة اعتز
بها".
رصاص الاحتلال
لا يقتل الأحلام، فنضال يدافع الان عن حقوق الناس، وأحلامهم..!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق