صدرت رواية (قبلة بيت لحم الأخيرة) للكاتب أسامه
العيسة، في طبعتها الثانية عن دار الفسائل بالقدس، بنحو 304 صفحة.
"قبلة بيت لحم الأخيرة" رواية حب وعشق وانتماء ووجع من طراز خاص
وبأسلوب متميز أيضًا. بيت لحم هذه المدينة المقدسة تمثل فلسطين كلها أرضًا وشعبًا
ومقدسات على رغم تميزها بانها مدينة المسيح. حفلت الرواية بعشق صريح لهذه المدينة
وتصوير حي لتفاصيل مجتمعها وكنائسها وحاراتها العتيقة وناسها وتاريخها وهجرات
سكانها. في الرواية نتعرف على كنائسها وطوائفها وما بين كنائسها من صراعات وان هذه
الارض المقدسة "لا يعمر بها ظالم حيث ولد فيها المسيح رسول السلام لكنها لم
تنعم بسلام."
تحدثت الرواية بضمير المتكلم بطلها رائد حردان وسميرة
صاحبة القبلة بطلة الحراك الطلابي في جامعة بيت لحم حيث عاش أبطالها عصر الشعارات
الكبيرة الساحرة وان الاحتلال يسرق الاوطان والاجساد أيضًا. تنطلق الرواية من
الاحتراب في القبيلة الكنسية الواحدة على كنيسة المهد إلى الاحتراب التنظيمي
الفصائلي الفلسطيني حيث أصبح التنظيم هو الانتماء الاول وهو القبيلة الجديدة التي
لا تخرج عنها القبائل الحزبية المتصارعة على الوهم. ويملك درج الروم الكاثوليك حصة
الاسد في الرواية حيث كانت القبلة الاولى الاثيرة بين سميرة البطلة الحزبية
اليسارية ورفيقها. الصورة البانورامية يجسدها شارع النجمة أقدم شوارع بيت لحم
والذي يسمى أيضًا طريق البطاركة لأنه الطريق التاريخي الذي تسير فيه مواكب بطاركة
الطوائف المسيحية المتعددة ،في أعياد الميلاد من كل عام آتين من القدس.
في الصورة الجميلة في الرواية صور حية للطوائف
المسيحية من سريان ارثوذكس وأرمن ارثوذكس ولاتين وأقباط واحباش. وفي مطعم أرتيم
الشعبي في ساحة المهد يقول جريس ان تاريخ بيت لحم حافل بالنكسات وان الفقراء هم من
يتحمل عبء صندوق الفقراء في حين يأتي رجال الدين الارثوذكس من اليونان فقراء
فيصبحوا أغنياء، بينما افراد الرعية العرب يبقوا فقراء. "كانت بيت لحم دائمًا
على موعد مع فاتحين غزاة، يمنحونها أمانًا مخاتلا، مشكوكًا في استمراره، أو يعملون
السيف في رقاب ناسهاـ ويهدمون معالمها، وتبقى حكايات هؤلاء في بطون الكتب، بينما
يتداول الناس حكايات المنتصرين من القادة، الذين يصبحون بالضرورة عادلين، المنتصر يفرض روايته."
وظفت الرواية ال "فلاش باك" واسترجاع
الاحداث بمهارة من خارج الزمان والمكان للامساك بخيوطها المتشابكة حيث تنقلنا من
مكان إلى آخر وفي الازمنة المختلفة بسهولة وييسر في لمح البصر. لم يترك الكاتب
زمنًا فلسطينيًا لم تسترح عنده الرواية والراوي وأبطالها. فلسطين ظلت تعاني عبر
العصور وشعبها "السوري الجنوبي" عانى من فترات السفر برلك العثمانية ومن
الامراض والكوليرا والجراد والزلزال والمجاعة والهجرة إلى اميركا اللاتينية. هرب
مهاجرو بيت لحم من الظلم التركي، فوجدوا انفسهم غرباء في اميركا اللاتينية التي لم
تعترف بعروبتهم وأسبغت عليهم لقب "توركو". الرواية مسكونة في كل شاردة
وواردة بفلسطينية الرؤى والأشياء من ألفها إلى يائها. هذه الرواية التي يعترف
كاتبها بانها اعتمدت على بحث ميداني عن شخوصها ومكانيتها لم تترك حجرًا الا كشفته
ولم تترك حقبة تاريخية إلّا وغاصت فيها حتى النهاية.
المهاجرون التلحميون من جبرا ابراهيم جبرا إلى
المناضل أنطون داوّد، سائق القنصل البريطاني في فلسطين، مفجر مبنى الوكالة
اليهودية في القدس، رفيق ارنستو تشي غيفارا في أدغال بوليفيا إلى اليساري
السلفادوري الراحل شفيق حنظل إلى غيرهم ماتوا بصمت في منافيهم بعيدًا عن ثرى وطنهم
بيت لحم. أنطون داوّد المناضل الفلسطيني رحل في الكويت ويرقد حاليا في صحراء
الكويت، والبطل المصري أحمد عبد العزيز أصبح أسيرًا في قبره في قبة راحيل.
لم توفر
الرواية نقد الحركة السياسية المقاومة الفلسطينية على لسان أسراها في السجون
الصهيونية غداة اتفاق أوسلو: "...شعرنا بمرارة لان الاتفاقات مع اسرائيل لم
تنصفنا." لم توفر نقدها لأوسلو وما تبعها من اتفاقات ولم توفر نقدها لمنظمات
الكفاح المسلح ولليسار..انتقدت بمرارة حالتنا الفلسطينية، وزيف الشعارات وتقلب الأفكار
واختلال المبادىء والقيم واعتلالها. اليسارية المناضلة سميرة التي بقيت قبلتها
الاثيرة على درج الروم "عشقه الأوّل الدائم انقلبت من يساريتها الراديكالية
إلى "مناضلة" في منظمات المجتمع المدني "الانجزة" تقول في
لقاء مع رفيقها الذي امضى عشرين عامًا في سجون الاحتلال في مكتبها في رام الله
"....ليس فقط الشيوخ والرهبان عقولهم في أعضائهم التناسلية....ولكنهم رجال
السياسة أيضًا....لا يوجد خيار إمّا القبول بوظيفة في السلطة الفلسطينية، الانجي
أوز أو الموت على الهامش."
انقلبت المفاهيم وتغيرت المبادىء وغيرت النخب جلدها
وأصبحوا في منافسة شديدة مع شيوخ الدين واصبحت منظمات الانجزة حصة حركات اليسار
مسوقي التطبيع والسلام. النقد اللاذع لكل مراحل النضال الفلسطيني ورموزه الوطنية
واختلاط الحابل بالنابل يجعل من الرواية ملحمة صراع مع الذات ومع الاحتلال ومع
الوجع الذي يطحن الناس ومع الحياة ذاتها.
في نهاية المطاف، بطل الرواية الذي ضحى بزهرة شبابه
في سجون المحتل، يعبر عم ألمه ومرارته وخيبته "....سأرحل، سأنثر ذرات في
صحراء بيت لحم الممتدة من بيت لحم حتى البحر الميت، ومعي مائة قبلة وقبلة، قبلة
بيت لحم الأخيرة لي، من عالم درج الروم الذي تركته خلفي عندما سجنت، ووجدته مدمرًا
عندما خرجت...بيت لحم يا بيت لحم، يا قاتلة العشاق والأنبياء..!"
رغم خيط الدخان الذي حاول الكثيرون اللحاق به على
أمل الوصول إلى الحرية، فان المؤثرات السياسية طغت على المسار الدرامي للرواية
وتطورها، الا انها تبقى شاهدًا على تاريخ مدينة ووطن وشعب. رغم بعض ما اكتنف
الرواية من هنات خصوصًا الاستطالة في سرد الاشياء كالاحاديث مع عائلات الشهداء
وانغماسها المفرط في النقد السياسي، الا انها جسدت فلسطين ومآسيها الفكرية
والشبابية والعقائدية والمجتمعية والنضالية عبر تاريخ نكبتها بأسلوب شيق ممتع لا
تشعر معه بالحرج لان تصويرها للواقع وللحياة الانسانية بفرحها ووجعها يشعرك بالزهو
وتماثلك مع ابطال الرواية ومشاعرهم وآلامهم وطموحاتهم وخيباتهم.
شخصيات
الرواية وأبطالها هم أناس مثلنا ينحدرون من شرائح المجتمع كافة وفي معظمهم هم
شخصيات واعية متحركة وليست سطحية ساذجة. شخصيات الرواية شخصيات متفاعلة ومتحركة
وليست مسطحة. الرواية فيها تشابه كبير مع اسلوب الكاتب في روايته الاولى
"المسكوبية" مع ان الكاتب نجح في تطوير أدواته ومهاراته الابداعية في
تحرير أبطاله من القيود وتركهم أحرارا في تحديد مواقفهم ورسم مساراتهم بحرية
وتجرد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق