عرض الفنان الفلسطيني غنّام غنّام، لمسرحيته ذات الممثل الواحد (عائد إلى حيفا) في عدة مدن فلسطينية، ووسط ازدحام برنامجه، في زيارته للوطن، التي كانت حلما بالنسبة له، رافقته، في جولة على ريف جنوب القدس، الذي يتعرض لتغييرات دراماتيكية متسارعة، وتحت زيتونة البدوي، في قرية الولجة، التي يُقدر عمرها بنحو خمسة آلاف عام، وتعتبر أقدم شجرة زيتون في العالم، جرى حوار مع غنّام، الذي أطلق على ابنه البكر غسان، حول تجربته مع أدب غسان كنفاني، بينما كانت تمتد أمامنا سلسة جبال، يحول ضبابها دون رؤية ساحل المتوسط، الذي تظلل رطوبته المحببة، الأجواء، وأسفلنا وادي الصرار، وبمحاذاته يسير القطار من القدس إلى يافا، مخترقا الأرض، التي تنتظر أصحابها.
سالت غنّام أولا عن عمله الأخير (عائد إلى حيفا)، فأخذ غنّام طرف الخيط واسترسل:
بدأنا في (عائد إلى حيفا) سنة 2009، الدكتور يحي البشتاوي عمل إعداد لها لشخصيتين: سعيد، وصفية، وعرض عليّ دور سعيد، وعندما قرأت النص لم أحبه، واقترحت عليه كتابتها ميلودراما لشخصية المرأة، بعد يومين، اخبرني انه يريد إعدادها ميلودراما للأب، فوافقت ولكنني طلبت منه المشاركة في الإعداد، وكان الهدف أن اعمل شيئا خاصا بي.
كُتبت رواية (عائد إلى حيفا) عام 1968، وتنتهي بأمل المقاومة، أن ينضم الابن خالد للثورة، ونحن في عملنا اعتبرنا أن خالد انضم للثورة، وصار مناضلا كبيرا، وأصبح مطلوبا لإسرائيل، ووضعته السلطة الفلسطينية في السجن لحمايته، إلا أن الإسرائيليين اقتحموا السجن وخطفوه، ووضعوه في زنزانة انفرادية، لعدة سنوات، لا يدري ماذا يدور في البلد، وفي يوم ما أخذوه لينظف الحمامات، فيقرأ في صحف يعثر عليها، شيئا عن الانقسام، بين الأخوة، وما حدث من ذبح وقتل، وتقسيم وانقسام، فصرخ صرخة واحدة: "ليش؟" ثم يموت.
-نفهم من ذلك أنك أقدمت على "خيانة مشروعة" لنص كنفاني؟
نعم، والسبب انني اردت مدّ الخطوط الدرامية.
-شخصية خلدون المحورية في الرواية، الذي تركه سعيد رضيعا في حيفا، وعندما عاد وزوجته وجداه وقد أصبح مجندا في الجيش الإسرائيلي، ماذا فعلتم بها؟
خلدون بقي كما هو، وتركناه معلقا مع السؤال، لكن خالدا جعلناه حاضرا في التزمين الجديد، وهو أهم ما فعلناه في عملنا هذا، الذي قدمناه في عمّان في حوالي أربعين عرضا، وقدمناه في الشارقة، ومثلنا به فلسطين في الجزائر، ونستعد للذهاب للسويد لتقديمه هناك.
هل سبق وان قدمت شخصية سعيد في عمل مختلف؟
في عام 2010، اتصلت بي مخرجة لبنانية، وطلبت مني تمثيل دور سعيد، وهي لا تعلم بأنني اشتغلت نفس الشخصية، ذهبت ووجدت نفسي مكبلا بالحب، لان من ينتج العمل هي مؤسسة غسان كنفاني، ووجدت آني كنفاني، أرملة غسان أمامي، اشتغلت العمل، المخصص لسبع شخصيات، وكان عمل ناجح جدا.
اعتبر أن (عائد إلى حيفا) تحتمل أشياء كثيرة، فيمكن عملها سينما أو تلفزيون، يوجد فيها تأسيس لعلاقات درامية عميقة وصعبة عند غسان، ولديه نقد ذاتي عالي للفلسطيني.
ومثل كل رواياته، يضع الجملة العبقرية، دائما على لسان الآخر، ولا يضعها على لسان الفلسطيني حتى يحفظها القارئ من الضد.
الإنسان قضية يقولها غسان على لسان خلدون، فيصبح الموضوع: صحيح الإنسان قضية، ولكن أي قضية؟
في رواية رجال في الشمس عبارة "لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟" يضعها على لسان أبو الخيزران، وهكذا
الآخر لدى غسان
كيف ترى شخصية اليهودي الآخر في (عائد إلى حيفا)، البعض انتقد غسان لتطرقه لمعاناة اليهودي على يد النازية؟.
في عملنا لم نتطرق للموضوع، ولكن برأيي حاول غسان وضع الصورة كاملة، وأراد إدانة أولئك الذين عانوا تلك المعاناة، وسحبوا معاناتهم على الآخرين، يقول على لسان الأب: ضعف الآخرين وأخطائهم لا يعطيك مبررا لان تظلمهم أو تعذبهم بهذه الطريقة، اعتقد أن غسان كان حصيفا، عندما طرح الآم الأم اليهودية بشكل إنساني وحميمي، ولكنه قال في الأخر إنها بقيت مستوطنة في البلد، أخذت الولد والبلد، ولدي رأي ليس قاطعا، بأن هذه التركيبة لدى غسان، لم يستطع المخرج قاسم حول عندما عمل فلم (عائد إلى حيفا)، إدراك كم هي مريرة اللعبة، فلذلك بدت المرأة اليهودية، في فلمه ربما أكثر تأثيرا.
كيف ترى المسلسل المأخوذ عن (عائد إلى حيفا)، والتجارب الأخرى؟
لم أُتابع المسلسل، لأنه من الصعب علي متابعة أي مسلسل، أنا مع حرية الاشتغال على النصوص، وأنا قلت لآني كنفاني، الشعب الفلسطيني والشعب العربي لا يتعاملون مع غسان على أساس انه زوجك، ولكن باعتباره موروثا شعبيا يحولونه ويحورونه مثل ما يريدون، ودون استئذان من مؤسسة غسان كنفاني، رغم أن المؤسسة تحب أن يستأذنها الناس.
أنا آمل أن الأعمال الإبداعية كلها لا تتأسس فقط على أعمال غسان، ولكن على أعمال كبار الكتاب، سواء كانوا شعراء أو روائيين حتى يكون لها قيمة عالية، فعلى سبيل المثال، وبعد 15 سنة على إنتاجه؛ ما زال مثلا مسلسل (نهاية رجل شجاع) في المقدمة، لأنه تأسس على رواية حنا مينا، فأصبح علامة فارقة.
وخلال تلك السنوات، أُنتجت أعمال كثيرة ضخمة، ولكنها لم تُعَلّم بنفس الطريقة، اعتقد أن لدى غسان، ودرويش، وجبرا، وابراهيم نصر الله، ومريد البرغوثي، وغيرهم إمكانات كامنة لدراما هائلة.
عقدة غسان
عقدة غسان
ما هو عملك المقبل لغسان؟
أنا لدي عقدة مع غسان، في سنة 1987، شكلت فرقة مسرحية في رابطة الكتاب الأردنيين، واشتغلنا على رواية (ما تبقى لكم)، وأنا اعتقد أنها انضج أعمال غسان كنفاني، لقد عملت لها إعدادا مسرحيا، واشتغلنا عليها سبعة أشهر، ولم نوفق في تقديمها، لان الحكومة العرفية آنذاك، أصدرت قرارا بحل الفرقة، وأوقفت العمل قبل عرضه بيوم، وما زال هذا العمل عقدة عندي، أتمنى أن أقدمه في يوم من الأيام، حتى في آخر نص كتبته تخيلت نفسي عندما قدمته، مُت.
أخذ البعض تأثر كنفاني في روايته (ما تبقى لكم) برواية فوكنر (الصخب والعنف)، بل إن بعضهم اتهمه بالسرقة الأدبية، ما رأيك أنت؟
غسان كتب (ما تبقى لكم)، على طريقة الشعر المعارض، كتبها معارضة لرواية فوكنر (الصخب والعنف)، تحديدا صار حوار بينه وبين مجموعة من الأدباء، المعجبين برواية فوكنر، وكان لدى غسان وجهة نظر نقدية لموضوع الزمن عند فوكنر، فكتب بنفس التركيبة (ما تبقى لكم)، وأنا اعتبرها، انضج أعماله.
هل ستقدمها قريبا؟
الدكتور يحيى البشتاوي، والدكتور فراس الريموني، يعملان الآن على إعداد رواية (رجال في الشمس) لغسان كنفاني، وأيضا يعملان على نص لإبراهيم نصر الله.
ألا تخشى من تكرار نفسك، مع غسان؟
أنا شخصيا لست معنيا بقضية الإنتاج، أنا معهم ممثل، فانا اعمل الآن على نص اسمه (مسلسل تركي) أنا اكتب نصي، على الأغلب أنا أحب تقديم غسان، فمثلا وكما أسلفت أحب تقديم (ما تبقى لكم)، أنا لا أحب أن اعمل كل شيء لغسان، أنا لست مقاولا لأعمال غسان، ونجاح (عائد إلى حيفا)، لا يجب أن يغريني بأن أظل في حالة غسان، أنا أيضا لدي حالتي، وكوني أبو غسان في نفس الوقت.
هل تخاف من الاقتراب نقديا من أعمال غسان كنفاني؟
إطلاقا، أنا من الناس الذين تجرأوا على الاقتراب نقديا من غسان، وتحديدا في المسرح، لدي دراسة عن (العرض الذي لم يكتمل لدى غسان)، وأنا اعتقد أن كنفاني كان يبشر بكاتب مسرحي ومهم، ولم يكن كاتبا مسرحيا مهما، هذا من وجهة نظر تقنية، وليس من وجهة نظر أيديولوجية، لأن الكل بتعامل معه من تلك النظرة، وأنا أتعامل معه كأديب، ودرست أيضا بعد ذلك (مفهوم الحرية: دراسة أخرى في الباب)، لان مفهوم الحرية كان عاليا في مسرحية (الباب)، ولكن تقنية الكتابة، فيها كثير من الإشكالية، ليس لدي أية مشكلة في التعامل النقدي مع أعمال غسان.
في (عائد إلى حيفا) أظن أننا عملنا بحرية، اعتقد أنها نقدية، عندما مددنا الخط الدرامي واختصرنا، وحذفنا، كنا في الواقع نتدخل في بنية النص الأدبي، وعلى رأي إحدى المشاهدات في جنين حين قالت: كأنك تدفعنا لقراءة عائد إلى حيفا من جديد، برؤية أخرى، وقالت لي طفلة عمرها 8 سنوات هي ابنة المناضل عاهد أبو غلمة: انتم غيرتم في الرواية، فسألتها كيف؟ قالت: كلما سمعت الأم، صوتا تعتقد أن ابنها جاء، انتم لم تعملوها.
إذا نحن أمام جمهور ناقد ورؤية درامية، نتمنى أن نكون نجحنا فيها، هذا هو الوجع الكبير..!
عودة غير مكتملة وخروج متكمل
كيف ترى عودتك غير المكتملة وغير المتحققة لفلسطين؟
المشكلة ليست في العودة غير المتحققة، ولكن في الخروج المتحقق الطوعي، أنا خرجت من البلاد طفلا، لم يكن لدي قرار، وأنا الآن أغادر بمليء إرادتي، وهذا ما يؤلمني، وأسأل "ليش"؟؟ هذا السؤال الذي سأجيب عنه قريبا بعودة، لا رجعة عنها.
كيف؟
فلسطين ببعدها التاريخي وواقعها الحالي، ستظل وطنا مفتوحا على كل الاحتمالات وستظل وطنا بحاجة إلى كل إنسان يفترض أنه ينتمي لها، وستظل قضية وهوية كافة العرب والأحرار في العالم، يجب أن لا ننسى ذلك، وهذه فلسطين التي أنا أؤمن بها، فلسطين التي كتبها المبدعون، وليس التي حققوها السياسيون.
هل يوجد فرق بين الصورة المتخيلة للوطن، والواقع؟
نحن نتعامل مع فلسطين الحلم، غير المحدودة بجغرافيا وغير المحدودة بوقائع صباحية أو مسائية أو احتلالية، نحن نتعامل معها باعتبارها فكرة حرة، وهذا ما يجعلها أجمل.
هل تفاجأت بالواقع؟
أنا أتابع وأقرأ، ولكنني تفاجأت كما رايت في الولجة، ومنطقة بيت جالا، ولكن كلها واردة تحت خط اسمه الاحتلال، طالما انه موجود فان كل هذه الوقائع محتملة وممكنة، ودرء هذا الواقع هو المطلوب، أنا أعرف أن فلسطين جميلة، لكنني لم أكن أعرف أنها بكل هذا الجمال، وكنت أراها في خيالي حنونة، ولكن ليس إلى هذا الحد، وكنت اعرف أنها ضائعة، ولكن ليس لهذه الدرجة.
فلسطين قضية شائكة كبرى، وهذا لا يعني اليأس، ولكن يعني مزيدا من العمل، وأنا سعيد لأنني منذ عام 1984 حتى اليوم؛ لم يكن لدي عمل خارج فلسطين، حتى لو كنت احكي عن اثنين يحبان بعضهما أو آخرين يتبادلان الكراهية، أو عندما أتكلم عن خيانة، أو أحكي عن أي حاجة أخرى، دائما فلسطين خلف الموضوع حتى عندما أقول للناس كما فعلت في عملي الأخير (غزالة المزيون) "هذا العمل ما فيه لا مضامين ولا مصارين، ولا غناميات" قالها الممثل في أول جملة في العرض، ومع ذلك خرجت الناس تسقط كل الأشياء على الواقع الفلسطيني، والواقع العربي بشكل عام، فلسطين تستحق مني التزاما أكبر، رغم كل هذا الاعتزاز بالالتزام الذي حققته، إنها تحتاج التزاما اكبر، وأنا اعتقد أن هذه الرحلة شكلت لي فاصلة جديدة في حياتي، لأن هناك أشياء تولدت فيها، أود عملها وفاء لفلسطين، التي أحب.
تتحدث عن الالتزام في وقت شعرنا فيه، خلال السنوات الأخيرة، وكأنها شتيمة؟
لكن ميدان التحرير وتونس، أعادوا الالتزام لواقعه، ورأيت كيف الجماهير طردوا كل الهفايا، ورجعت تمسكت بالناس الملتزمين، والكل صار يدعي انه ملتزم، الكل الآن صاروا ملتزمون، في حين كان الفنان الملتزم في السابق يأكل روح الخل، وهذا يدعونا للبحث عن تسمية أكثر مشاكسة.
لكنني أؤمن بأن المبدع استئناف لا يتوقف، حتى لو حقق ما أراد، يجب أن يستأنف من أجل الأفضل، إذا غادر الفلسطيني وهو في حالة ثورة لتحرير الوطن فإنه سيخسر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق