من
يقرأ ما يكتبه أسامة العيسة في جريدة الحياة الجديدة يجده متعلقا بالأرض
والجغرافيا الفلسطينية، التي يسعى المحتل للسيطرة عليها وتغيير معالمها، من خلال
تزويرها بنقش بعض الكتابات العبرية على حجارة الأبنية، فالكاتب يعطي مسألة الأرض
الأهمية الأولى.
من
هنا وجدنا الكاتب يستخدم شكلاً أدبيًا راقيًا متمثلاً بالقصة القصيرة يعمق اهتمامه
بالأرض، وهذا يترتب عليه صعوبة بالغة على الكاتب، فكيف يستطيع أن يجمع بين طرح
معلومات وأحداث واقعية، أو قريبة من الواقع بشكل أدبي قصصي، وفي ذات الوقت يطرح
معلومات وأحداثا مباشرة؟
استطيع
القول بأن كاتبنا نجح تماما في تجاوز هذه المعضلة، وقدم لنا قصة أدبية تحمل أحداث
ووقائع الصراع الفلسطيني الصهيوني على الأرض، وقدمه بشكل راق يتجاوز فيه المباشرة
والخطابة.
القصة
تتحدث عن الأرض الفلسطينية التي يسعى "إيال" عالم الآثار والتاريخ
لتهويدها، إن كان بتغير اسمها الفلسطيني، أو من خلاها إزالتها تماما من الوجود،
مستعينا في بحثه عن أي خيط يربطها بالنص التوراتي، يستخدم "إيال" العمال
العرب في عمليات البحث والتنقيب في المواقع، تنشأ علاقة جيدة مع أحد العمال العرب
"أبو حصيرة" الذي يكون مرسال الغرام بينه وبين زوجته، وعامل الصلح
بينهما، يحدثنا الراوي عن العديد من الأماكن التي تم الاعتداء عليها وتهويدها، لكن
المكان الأبرز كان مقام "الشيخ نوران" حيث يجد "إيال" تمثال
دولفين يفترس سمكة، وتبدأ عملية البحث عن أصل هذا التمثال، لكن الأحداث الجارية
على أرض غزة تلازم اكتشاف "إيال" للدولفين، وهنا يقدم الراوي صورة ساخرة
لهذا الرجل، الذي نذر نفسه في البحث عن غابات في صحراء قاحلة.
إذن
هناك العديد من المشاهد التي تتحدث عن كيفية تحريف/تغير أسماء الأماكن العربية
الفلسطينية إلى أسماء عبرية، من هذه الأماكن "شارع غزة" في القدس، وكيف
حاول العديد منهم تغير اسم "شارع غزة" لكن كانت تواجههم معضلة الواقع
الجغرافي لهذا الشارع، "لأنه يقع على الدرب القديمة من مدينة القدس إلى
الساحل الفلسطيني الجنوبي" فالاسم الفلسطيني العربي محارب من قبل الصهاينة
فهو يشكل لهم مشكلة، ويجعلهم يعيشون في حالة من الاضطراب.
بعد
الحديث عن شارع غزة في مدينة القدس يبدأ الحديث عن مقامات وأضرحة الأولياء في
فلسطين وكيف يبحث "إيال" عن الإبرة في كوم القش، "لا يعرف إيال،
متى أنشئت هذه الأضرحة، والتي تحمل أسماء أنبياء ذكورا في العهد القديم، وشيوخ،
وصوفيين، وصحابة... وتكاد تكون معظم القرى والبلدات الفلسطينية أقيمت بجانب أو حول
هذا النوع من قبور الأولياء" الواقع يتحدث عن أضرحة ومقامات مقامة داخل
تجمعات ريفية أو حضرية وأصبحت جزءً من معالم هذه القرى والبلدات، وهذه الحقيقة لا
لبس فيها، لكن الصهاينة بكافة السبل والوسائل يحالوا قلب هذه الحقيقة، "ما
كان إيال يقوله ضاحكًا، عندما يلتقي مستوطنًا من تكواع.
وأدى
بحث إيال إلى اكتشافات بدت مفاجئة، عندما رصد مؤشرات متزايدة على أن المتدينين
اليهود لم يكتفوا بقبور الصدِّيقين الموجودة، ولكنهم أخذوا يحوّلون قبور عَلمانيين
إلى أضرحة ومقامات تأخذ الطابع اليهوديّ. ومعظم هذه الأضرحة الجديدة تقع على الطرق
المؤدية إلى المستوطنات، أو في أماكن قُتل فيها مستوطنون أو جنود، فيتم إنشاء
أبنية تشبه الأبنية الفلسطينيّة التقليدية للمقامات، سرعان ما يتمْ تسييج الأَرْض
التي تحيط بها، وتتحول إلى مستوطنات صغيرة، وإن كانت شكلاً هيَ مقامات أو
قبور." بهذا الشكل يغير المحتلون واقع الأرض الفلسطينية، مستخدمين طرق الكذب
على الذات قبل الكذب علينا، وتزوير واقعهم قبل تشويه الأرض.
التعاطي
مع نص كتب قبل أكثر من ألفين وخمسمائة عام وبطريقة مشكوك في صحتها، وأُخضع للعديد
من التغيرات والتبديلات من قبل نساخه على مر العصور، ثم يؤتى به ليكون واقعا على
أرض فلسطين هذه هو الجنون بعينه، فالأرض الفلسطينية تعاقب عليها العديد من الأقوام
والشعوب، ولكنهم جميعا خضعوا لها، لثقافتها وحضارتها، ومن ثم كانوا جزءً من
الثقافة والحضارة الفلسطينية السائدة.
إذن
اليهودي يتعامل مع الماضي، مع أشياء ميتة، انتهى زمنها، هذا ما قاله
"أوري" صديق "إيال": "في القُدْس والأراضي المُقدَّسة،
يحكم الأمواتُ الأحياءَ، وربما لا يوجد مكان في العالم يضاهي فيه تأثير الأموات
على الحياة المعاصرة مثل ما يحدث في أرضْ إسرائيل، الَّذين امتد تأثير ما يثيرونه
من إشكالات إلى مختلف دول العالم، واستطاعوا مِن قبورهم تقسيم العالم إلى قسمين:
مؤيد أو معارض لطرفي الصراع." هذا واقع الصهاينة، يبحثون في المجهول، في
الفراغ عن مكان للجغرافيا التوراتية، لكنها غير موجودة مطلقا في فلسطين، هي موجودة
فقط في كتبهم، لكن ليس لها أي أثر على الأرض. "
يسرد
لنا "أوري" العديد من الحقائق عن أرض فلسطين، فهو على يقين بأنها أرض
فلسطينية وليست توراتية، من هنا يحدث "إيال" عن "قبة راحيل"
الفلسطينية وليس التوراتية قائلا : "ليس بعيدًا عن جبل الهيكل، وعلى مشارف
مدينة بَيْت لَحْم، يقع ضريح يسمى (قبة راحيل)، يُقدّس من قبل المسلمين
والمسيحيين، الَّذين تبنوا جَدتنا راحيل، وأدخلوها في موروثهم الديني، على طريقة
إعادة التدوير الدينية، والثقافية، والأسطورية، التي تُعرف بها الأَرْض
المُقدَّسة، ولم يكونوا يدركون أنَّهُ سيأتي يَوْمٌ تتحوّل فيه راحيل، إلى مثار
خلاف سياسيّ يتخذ شكلاً دمويًا. “ستنا راحيل” كما يسميها السُّكَان المحليون هيَ
بالنسبة لنا أم يوسف وبنيامين، وزوجة النبي يعقوب. يقال بأنها توفيت في هذا المكان
عند الكيلو 5،7 على طريق القُدْس-الخليل، وهي الطريق التاريخية التي تربط جنوب
البلاد بشمالها، عندما أتاها المخاض، لتنجب بنيامين، الَّذي يقول جيراننا العَرَب،
بأنه سُمي بذلك، لأنه كان “ابن يومين” عندما توفيت أمه"، استخدم الراوي في
حديثه عن الحقيقة، عن الواقع، عن الأرض الفلسطينية وليس التوراتية صوت
"أوري" اليهودي النير، الذي يتحدث عن الواقع الذي يعيشه، وليس عن خيال
أو عن كلمات تمت صياغتها من قبل أشخاص متوهمين يعيشوا في عالم غير موجود، وهذا
الشكل من الاستخدام حرر الراوي من المباشرة في الطرح.
كما
قلنا هناك من هذا الطرح الذي يتناول الطرق التي يتبعها الصهاينة لتغيير الأرض
الفلسطينية إلى أرض توراتية، وسنكتفي بها القدر لننتقل إلى جانب آخر من قصة
"رسول الإله إلى الحبية".
يحثنا
الراوي عن شخصية "أبو حصيرة الفلسطيني" الذي كان له دور استثنائي في
العلاقة بين إيال" وزوجته "راحيل"، راحيل التي رأينا كيف تكون
متزمتة إزاء أي فُحش لإيال، تحب مكالمات أبي حَصِيرة، وكلماته الغريبة والعجيبة،
هو ليس بالنسبة لها الصديق الَّذي تتوق لسماع رأيه أو تطمئن إليه، وتسمح له
بالتدخل في شؤونها الخاصة، أو الشخص الَّذي يمكن أن يكون مُرَطّب العلاقة بينها
وبين إيال الَّذي تحتاجه، رغم زواجهما المديد، ولكنه ذلك الشيء الغامض، الوظيفي،
الَّذي يمكن أن يقول أي شيء، تُريد أن تسمعه هيَ أو إيال، ولا يؤخذ على محمل
الجدية، هو الشيء الاعتراضي في حياتها مع إيال، العربي الطيب، الَّذي يُثير الشفقة
والحنو مِن قِبلها وإيال عليه، ليربي أولاده، ويُعَلمهم. هو الشيء الَّذي لا
تستطيع تحديد كنهه، ولكنه الموجود في حياتهما، حتّى في فُحْش سرير النَّوْم، ما
دام ليس ضارًا، هو الشيء الَّذي لا تفكر راحيل وإيال بفقدانه. وإن فُقد، لن يكون
غيابه حاسمًا في حياتهما. "هذا هو الرجل الذي يشير عنوان القصة، فهو رسول إلى
الحبية، هو فلسطيني، لكنه يقدم خدمات جلية لراحيل ولإيال حتى الخدمات/الاحتياجات
الجنسية يقوم بها، فهو عنصر فاعل وحيوي بالنسبة لراحيل، هناك إشارة تؤكد هذا
الأمر، فعندما طلبت راحيل من الحضور عدم الحديث في المحرمات، السياسة والدين، لم
تكمل المحرم الثالث الجنس، "وتدخلت راحيل، طالبة عدم الحديث في السياسة،
ومذكرة بالاتفاق غير الرسمي والمعمول به، بأن لا يتحدثون في السياسة أو الدين،
وكادت تقول في الجنس أَيضًا، لولا أنها تذكرت ما سمحت لأبي حَصِيرة بالتدخل
فيه." لكن هل كان "إيال" زوج "راحيل" يعرف بهذه العلاقة
بين أبو حصيرة الفلسطيني وبين زوجته؟ هذا السؤال يجب عنه "إيال" نفسه
عندما بدأ البحث عن أصل وطريقة وصول تمثال الدولفين إلى مقام الشيخ نوران: "قد
تعتقد أن اثني عشر ميلاً في اليابسة من البحر الأبيض المتوسط، هو آخر مكان يمكن
العثور فيه على دُلْفِين يمسك سَمَكةً بين فكيه، يمكن أن يكون جزءً من تمثال
لافروديت آلهة الحب والجمال، التي وُلدت من زبد البحر، أو لبوسيدون إله البحر، ما
هو أصل التِّمْثَال؟ مَن دَمَّره؟ ومتى؟ وتحت أي ظروف؟ ومَنْ أحضر الدُّلْفِين
قريبًا من الشيخ نوران؟".
كان
يقول ذلك، وهو يتذكر دون سبب موجب، أبا حَصِيرة، الَّذي قال له يوْمًا بأنه رَسول
الحب بينه وبين راحيل. الجميع يحتاجون إلى رُسل حب، حتّى الآلهة. بهذا الشكل تم حل
الكيفية التي وصل بها التمثال إلى مقام "الشيخ نوران" وكأن الراوي أراد
أن يحسم المسألة التوراتية بشكل قاطع، بشكل لا لبس فيه، ليس هنا في فلسطين أي
وجود/تطابق بين النص التوراتي والواقع على الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق