لا يمكن إحصاء
الأعمال الإبداعية التي استوحت قصة سالومي، التي ترقص عارية أمام الملك هيرودس،
وتطلب راس يوحنا المعمدان، المعروف إسلاميا بالنبي يحيى، على طبق، وفي مكان ناء في
الصحراء الأردنية، مطل على الجانب الشرقي للبحر الميت، تقع قلعة مكاور، التي تعرف
بأنها المكان الذي شهد تلك المأساة التاريخية، والتي ألهمت، مبدعين من مختلف أنحاء
العالم، أعمالا سينمائية، وتشكيلية، وروايات، ونصوصا نثرية وشعرية.
تبعد قلعة مكاور، نحو
70 كلم عن العاصمة الأردنية عمان، في منطقة تسكنها عشائر بني حميدة، وتعرف باسم
جبل بني حميدة، تمتد بين وادي الزرقاء – ماعين ووادي الوالة – الهيدان، ووادي
الموجب، وتضم بلدات وقرى ومناطق رعوية متسعة تابعة لهذه العشيرة، كثير منها اصبح
منذ سنوات معروفا لدى علماء الآثار في العالم، بعد كشوفات أثرية متتابعة، أبانت عن
بقايا كنائس واثار بيزنطية ذات أرضيات فسيفسائية مبهرة، تشير إلى استمرارية لوجود
مسيحي متقدم في المنطقة خلال العهدين الأموي والعباسي.
والقلعة التي تسمى
أيضا (المشنقة) هي عبارة عن جبل مخروطي، شديد الشبه بقلعة هيرودس في برية القدس،
ولكن هذه الأخيرة عبارة عن تل صناعي، أما قلعة مكاور فلا شك أن جزءا منها بني
صناعيا، حتى يأخذ الشكل المخروطي. وترتفع القلعة، التي تطل على مواقع عديدة في
الضفة الغربية لنهر الأردن، 730 م عن سطح البحر، و1125م عن سطح البحر الميت، الذي
تشكل زرقة مياهه، خلفية ذات معنى مثيرة لمشاعر زوار القلعة الذين يستحضرون مأساة
يوحنا المعمدان.
وتحديد القلعة، كمكان
لوقوع تلك المأساة، قديم، وذكره المؤرخ يوسيفوس فلافيوس، ولكن القلعة الرومانية
الأصل التي أعاد هيرودس بناؤها، دمرت فيما بعد على يد الرومان، وتشير الدلائل أنها
طويت في ثنايا التاريخ، رغم أن الاستيطان البشري استمر في بلدة مكاور نفسها، في
العهد البيزنطي، وبعد سقوط البلاد بيد العرب، الذي يدب أحفادهم الحمايدة الان على
هذه المنطقة منها.
وقدر لقلعة مكاور أن
تعود لتأخذ مكانها في التاريخ، عندما زارها الرحالة الألماني سيتزن في كانون
الثاني (يناير) 1807م، الذي قدم وصفا متواضعا لها، ولكنه كان كافيا لإثارة شهية
الرحالة والباحثين الغربيين، الذين وجدوا في الأرض المقدسة، مكانا بكرا، لتفحص
مواقع الكتاب المقدس المفترض بشكل متأن، وهو الأمر الذي لم يحدث منذ سقوط
الإمبراطورية الرومانية.
وفي شباط (فبراير)
1872م، وصل الدكتور هـ. ب. ترسترام، على راس بعثة بريطانية إلى المكان، ليقدم وصفا
هو الأهم لقلعة مكاور، ضمن رحلته في تلك الأرض العذراء، حتى ذلك الزمن.
وبعد 135 عاما، من
تلك البعثة ذات الأهمية الاستثنائية، التي سلطت الضوء على الجانب الشرقي لنهر
الأردن، بعد أن كانت الجهود الغربية تركزت سابقا على فلسطين، وصل مراسلنا مقتفيا
خطوات ترسترام، إلى مكاور، التي شهدت خلال هذه الفترة حفريات أثرية عديدة، أهمها
ما جرى في السنوات 1978-1981م، على يد علماء المعهد الفرنسيسكاني للآثار في القدس،
برئاسة الأب فرجيلو كوريو، بدعم من الحكومة الإيطالية، وتم الكشف خلال هذه
الحفريات عن آثار القلعة على قمة الجبل، كبقايا الأسوار، والأبراج، والقصر الملكي،
والحمامات التي تعتبر من مميزات القلاع المنسوبة لهيرودس.
وعثر على أرضيات من
الفسيفساء، بعضها صنف بأنه اقدم فسيفساء عثر عليها في الأردن، والتي تشبه ما لكتشف
من فسيفساء في قصور وقلاع هيرودس في فلسطين.
وجميع هذه الأرضيات
الفسيفسائية نقلت من مكانها إلى مواقع عرض في مدينتي مادبا وعمان، وما يوجد في
الموقع، المحاط بأودية طبيعية، الان بقايا الأعمدة القديمة وتيجانها، والطريق
القديم الروماني المؤدي إلى القلعة، الذي يستصعب الكثيرون السير فيه صعودا إلى
القلعة، فيكتفون بمعاينة عظمتها من بعيد.
ويوجد على راس الجبل
بئر كبيرة وعميقة، يمكن النزول إليها بسلم خشبي، ولكنه غير آمن أبدا، بالإضافة إلى
آبار أخرى صنفت كزنازين، لأنها تختلف عن البئر الكبيرة، كونها غير مقصورة بالشيد
بعكس البئر العميقة.
ولا يوجد في الموقع
الذي يعاني من إهمال غير مبرر، غير بعض الرعاة من بني حميدة، الذين يقدمون خدمات
معينة للزوار، ومن بينهم شاب في مقتبل العمر يستعد للالتحاق بالجيش الأردني ليؤدي
خدمة العلم.
ويظهر هذا الشاب،
الذي لم يفضل ذكر اسمه اهتماما بتاريخ الموقع، وخلال سنوات تعرف على الكثير من
علماء الآثار والزوار الأجانب الذين يقصدون القلعة، وأبدى ملاحظة بدت غريبة، انه
في هذا الوقت من العام يبدي السياح الكوريين رغبة بزيارة القلعة، بالإضافة طبعا
إلى السياح من مختلف أنحاء العالم، ومن بينهم سائح سويسري حضر مع زوجته، قابلهما
مراسلنا، وأبديا سعادتهما بالوصول إلى القلعة، وهما يتفحصانها بجدية وشغف، ودراسة
مسبقة عنها.
ويظهر على راس الجبل،
قوس حجري، كشف عنه حديثا، قبل عدة اشهر، عالم آثار إيطالي، وحدد الموقع بأنه بقايا
كنيسة، ولكن أهم ما يبحث عنه الزائرون هو المكان الذي شهد مأساة يوحنا المعمدان،
وقبل سنوات حضر عالم آثار ألماني، وقال “اعلم مكان سجن وقطع راس يوحنا المعمدان
وسأكشفه للعالم” وسار بثقة إلى سفح الجبل الشمالي الشرقي، وامر بالحفر هناك، حيث
عثر على مغارة مستطيلة، تشبه في هندستها ما تركه مهندسو هيرودس في قلاعه
الفلسطينية، وفيها عثر على ما صنفه العالم الألماني أجزاء من المشنقة المفترضة
التي علق عليها يوحنا المعمدان ليقدم رأسه على طبق إلى سالومي، المتهتكة.
وتوجد بالقرب من
مكاور بلدة يطلق عليها (الزينة) ولكن بعض أفراد من الحمايدة، تحدثوا لمراسلنا،
قائلين أن الاسم تحريفا عن (الزانية) والمقصود سالومي، ويعرفونها بأنها القرية
التي عاشت فيها الراقصة المثيرة، ويبدو أن “لعنة سالومي” طالت سكان قرية (الزينة)
الأردنيين هذه، الذين هجروها، بسبب عدم وصول الخدمات الحديثة إليها.
يكاد المكان، لم
يتغير كثيرا كما وصفه ترسترام، فأبناء الحمايدة، ما زالوا يسكنون في المغر والكهوف
حول القلعة، وكذلك في الجبال المحيطة بها، ومن الغريب ان الكثيرين منهم يعرفون
القلعة عن بعد، ولم يسبق لهم الصعود اليها، وانضم إليهم في الوهاد والجبال الممتدة
نحو البحر الميت، عشائر أخرى، بفعل الحروب الإسرائيلية-العربية، مثل عشائر
الجهالين والعزازمة، التي تصنف الان كعشائر فلسطينية.
وفي حين أن الحمايدة
استقروا أيضا في بنايات أسمنتية في قراهم ومناطقهم، إلا أن الجهالين والعزازمة، ما
زالوا يعيشون في بيوت الشعر، بالقرب من شواطئ البحر الميت الشرقية، ولا توجد
علاقات مصاهرة بين بني حميدة والجهالين والعزازمة.
ويشكل وجود هذه
العشائر البدوية، مشهدا ضروريا في ملحمة المكان، الذي شهد مجدا غابرا، وحروبا
مستمرة حتى الان، وحيكت حوله ميثولوجيا، تأثيرها على المبدعين في العالم كان
حاسما، وان كان الأمر لا ينطبق على المبدعين العرب المحليين، الذين لا يرغبون كما
يبدو بمغادرة المواضيع المطروقة إلى آفاق ارحب، إلى ملاحم الفيافي والصحاري
والبحار، حتى وان استعاروا أشكالا تعبيرية حديثة.
ورغم كل شيء فان البدو
هناك يغنون للعشق ومفردات الحياة البدوية، ويمكن أن يسمع المغادر من القلعة، سيرا
على الأقدام، في الهضاب المقفرة، إلى البحر الميت، لحنا شجيا يردده أحد البدو
متحسرا:
“يا بنات بلادي
لا تتغربن
اجمعن دموعي
..واشربن”.
وكأن الفاتحين الذين
جاؤوا من جزيرة العرب، ليغيروا، في لحظات تاريخية فارقة، شكل المنطقة، لم تغيرهم
منطقة الحضارات العظيمة كثيرا، فما زالوا ينشدون للعصبية حتى في الحب والنساء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق