أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 29 أبريل 2015

«مجانين بيت لحم» يُؤرّخون الوجعَ الفلسطينيّ/عبدالدائم السلامي





فازت رواية «مجانين بيت لحم» للفلسطيني أسامة العَيْسَة، الصادرة في بيروت عن دار نوفل، بجائزة الشيخ زايد للآداب في دورتها لهذا العام. وهي رواية لا تُخفي استفادتَها في رسم هندستها السردية وثراء إيحاءاتها الدّلالية من أمريْن: ثقافة كاتبها التاريخية والصحافية، وتأزّم الواقع الفلسطيني، إذْ استطاع فيها العيسة التخلُّصَ من ثقافة «اللَّطْميات» الحزينة التي استشرتْ في أدب القضية الفلسطينية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وفتح بها البابَ على نمطٍ جديدٍ من الكتابة ينهض على دعامة الاحتفاء بالغرائبيّ من عالَم المُغيَّبين والمنبوذين، وبخاصّة ما اتصل منه بالجنون وأمْكِنته.

اختارت الرواية مستشفى الأمراض النفسية المحاذي لمخيّم «الدّهيشة» في مدينة بيت لحم فضاءً أمسكت فيه بتاريخ الوجع الفلسطيني. ووزّعت كمّياتِ هذا الوجعِ المُرِّ على فترة زمنيّة تُناهز القرنيْن، ابتداءً بالوجود العثماني مع إبراهيم باشا عام 1833، وانتهاءً بدولة الحكم الذاتي بعد معاهدة أوسلو عام 1993، مروراً بأزمنة الحضور البريطاني والأردني والإسرائيلي. وقد سلك الكاتب في توصيف ذاك الوجع وتسريده مسلكَ الخِطاب المُوَجَّه في أغلب الأحيان إلى «عجيل المقدسي»، ذاك المجنون الشهير الذي عُرف عنه قولُه: «من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار». وهو مسلَكٌ نجد له تبريره الفنيّ في القول إنّ الحمولة المعرفية والتاريخية المسرودة كبيرةٌ ومتخصِّصة، مما يجعل أمرَ توزيعها على ألسنة الشخصيات الكثيرة مربِكًا لمنطِق الرواية ومُكسِّرًا لانتظام سردها وإيقاعه.

مجانين الحكاية

تتضمّن رواية «مجانين بيت لحم»، (254 صفحة) ثلاثةَ أسفارٍ: «سِفر تكوين» وهو مخصوص بتاريخ «الدّهيشة» وبيت لحم، و«سِفر مَن لا أسفار لهم» وتحضر فيه حكايات المهمَّشين والمنبوذين من المجانين، و«سِفر مشمشي» وفيه حكايات مجانين عهد دولة الحكم الذاتي. والأسفار توزّعت بدورها على مجموعة من الحَكايَا الحاملةِ لأسماء أشهر مجانين المدينة أو لصفاتهم التي نُلْفيها لا تخرج في الغالب الأعمّ عن دوائر القلق، والوحدة، والارتياب، والعشق، والهجر، والشعوذة، والعلم، وحِدَّة الوعي بالعالَم، وتنامي الوجع الشخصيّ، وامتزاج مفهوم الوطنية بالعاطفة الدّينية.

مجانين بيت لحم كثرٌ، منهم الطالب يوسف علان، الذي تعرّض للضرب على الرأس فجُنّ وصار ما إن يسمع زقزقة العصافير حتى يطير معها مُحلِّقًا في سماء خياله بألف جناح. وغازي جميل، المجنون الأخرس الذي التقاه الراوي في عمّان، وتحدّث إليه فتعرَّفه وحدّثه بجملة أو جملتيْن ثم عاد إلى خرسه. و«داهش بك» الذي هاجر إلى بيروت فعشقته امرأة وهامت به إلى حدّ الانتحار، ويُشاع بأنّ منطقة «الداهشية» تسمّت به. و«مريم العسلينية» التي رقصت أمام سكّان مخيّم الدهيشة عندما دخله الإسرائيليون عام 67، وخالة الراوي التي سكنها الجان وماتت في صمت. وفلاديمير بريماكوف، الروسي الذي هرب من جيش إسرائيل والتحق بالمقاومة الفلسطينية في مخيّم الدهيشة، و«مجنون دير غسانة» الذي يذكر الراوي أنّ «رأسه معصّب بشاش طبي، فَهِمْنا منه أنه أصيب بطوشة، فجُلب إلى الدير، في ظروف لم نفهمها»، إضافة إلى برهوم الإبراهيمي ومنير شحاتة وغيرهما كثير.

ولأنّ لكلّ مجنون من «مجانين بيت لحم»، سواء كان في «مستشفى الدهيشة» أم في «مخيّم الدهيشة» أم في «دير الرهبان»، حكايته وثورته وهزيمته وفق ما مرّ معنا، عمد الراوي إلى جعل كلَّ حكاية من حكاياتهم تفتح باب التخييل على الأخرى وتعضدها، ناسجاً بينها روابط شفيفة ساعدت على ضمان وحدة المعنى في الرواية وتوهُّج دَلالاتها. وما كان ليتأتّى له تحقيق ذلك لولا حضورُه في السرد حضورًا يصعب التمييز فيه بينه وبين الكاتب نفسه الذي يصارح قارئه بالقول: «وها أنا، مَن تقمّصتُ شخصية الروائي حيناً، والراوي الكُلّي المعرفة في أحيان أخرى، الذي يعرف كلّ شيء، وقد لا يعرف شيئاً، وتواريتُ خلف شخصيات أخرى، كي لا يكشفني أحدٌ». بل هو يخبرنا بأنه يعيش أحداث روايته مع شخصياته كقوله: «حشرت نفسي مع الحضور لأراقب وأوَثِّق من أجل روايتي هذه». ونزعم أن في هذه المصارحة سعياً من الكاتب إلى توريط القارئ في أحداث الرواية وحَفْزه على أن يكون «مجنوناً» من مجانينها حتى يستطيع أن يفهم اضطرابات التاريخ الفلسطينيّ ويتمثّل تناقضاته وتشعّباته وانفتاحه على اللامعقول والطارئ.

حالةُ وعيٍ

تتحرّك رواية أسامة العيسة وفق ثيمتيْن: الجنون، والمكان. ثيمتان شقيقتان ظلّتا تخترقان نسيجَها أفقياً (على مستوى المغامرة العامة لمجتمع المجانين) وعمودياً (على مستوى مغامرة كلّ فرد منهم)، وتُوَجّهان دَلالات مغامرتها السردية من عنوانها إلى منتهاها. وعلى حبل هاتين الثيمتيْن تنتفض المفاهيم وتثور على سكونية إحالاتها؛ فإذا الجنون ليس إلاّ أحوالاً خاصّة وأفعالاً مُفارِقةً للسَّنَنِ الاجتماعية المألوفة، يُدفع إليها الناسُ دفعاً للتخفُّفِ من حدّة انصباب الواقع على أرواحهم الهشّةِ. هو حالةُ وعي خاصّة وطارئة معًا، وأسلوبُ حياة وأسلوبُ كتابة. وفي هذا الشأن لا نعدمُ انزياحَ الرواية بـ «جنونها» من حيّز اللاعقلانيّ والقَدَريِّ والعُنفيِّ الذي يخشاه أهل العقل من الناس إلى حيّز التخييل والرّمز الباذخ، كما لو أنّها تنتصر لفكرة ميشيل فوكو الداعية إلى اعتبار الجنون «حالة ثقافية» يخترعها المجتمع، أو إحدى فئاته، ويلوذ بها سبيلاً إلى السيطرة على بعض أفراده الخارجين على منظوماته الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وهو ما نجد له في الرواية صُوَرًا ثلاثًا: اجتماعية وسياسية وعقائدية. تتمثّل الصورة الاجتماعية للجنون في ما درج عليه الناس من وصفهم لكلّ مَن يخالف لهم رأياً أو حالاً بالمجنون، من ذلك «يقول الفلسطينيون للشخص الذي تظهر عليه علامات الجنون، أو لِمَن يبغضهم، أو لِمَن يمازحونه، أو لِمَن يتمنّون له شرّاً لا يصل حدّ بلوغ المنيّة، أو لِمَن يشمتون به، أو للشرّير الذي يتمنّون أن يَغرُب عَن محيطهم، ولأسباب أخرى كثيرة: «أنت لازم يرسلوك إلى الدهيشة» في إحالة منهم إلى مستشفى الأمراض النفسية الموجود في تلك المنطقة. وتتجسّد الصورة السياسية للجنون في واقع مجتمع «مخيَّم الدهيشة» الذي تراقب فيه إسرائيل حركةَ أفراده وتُعاقبهم في آنٍ، مانعةً عنهم الحُلمَ بالعودة إلى أراضيهم وبيوتهم وأحبّتهم.

ولئن انصبّ جهدُ الرواية الحَدَثيِّ على التأريخِ لجنون الإنسان، فإنها لم تَغْفل عن كشف جنون المكان، إذْ حوّلت مدينة بيت لحم بمصحتها ومُخَيَّمها ودِيرها من فضاء تأنُّسٍ وتعقُّلٍ وحريّة إلى فضاء سِجنيٍّ مُلوَّث بالجنون ولعناته المزمنة. فهي تصيب سكّانَها وتتبعهم في حلّهم وترحالهم كما هي حال «داهش بك» في بيروت و«غازي جميل» في عمّان. وهو أمرٌ ساعد هذه المدينة على استرداد صوتِها وحكايةِ تاريخها من زمن العثمانيّين إلى زمن الرئيس عرفات وإظهار ما فيه من صحائف سودٍ مسكوتٌ عنها. فإذا بالدولة الفلسطينية الموعودة في اتفاقات سلام الشجعان في أوسلو تصير سجناً صغيراً يخنق أرواح الحالمين بالعودة إلى أرض فلسطين التاريخية ويدفعهم إلى الجنون على حدّ ما تقول الأهزوجة: «سلام الشجعانْ/ سبّبلي إجْنانْ/ يشفي السرطان/ في المشمش». وإذا بالزعيم السياسي يتحوّل بدوره إلى سجين داخل دولته، ليس له من عمل سوى تسيير إدارة سجنه والتلهّي بأقلامه وخُدّامه.


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق