لم يكن يحتاج الشخص أو
الجماعة، لمغادرة ضفة البحر الميت الشرقية، إلى رصيفتها الغربية، سوى قطع مخاضة
اللسان. هكذا فعل أشخاص بلا عدد، وعشائر في رحلتها السنوية إلى الكلأ والماء،
وأخرى هربا أو امتثالا للقوانين العشائرية المتعلقة بالقتل والثأر، أو بالهزيمة في
المعارك التي لا تنتهي بين العشائر شرق البحر.
أمّا من الغرب إلى
الشرق، فلعل، أوّل رحلة للاستقرار، هي التي تولاها الخلايلة إلى الكرك، ليؤسسوا
عائلات رسخت واستمرت لتصبح أبرز عائلات المدينة الآن.
وعلى بعد كيلوات من
الأمتار إلى الشمال، كانت مخاضة دير علا على نهر الأردن، تتولى مهمة التَّرْحَال
اليومي، والموسمي.
تمدنا مدونات
الرحالة، ويوميات مغامرين ودبلوماسيين، بحكايات عن رحلات عرب الشرق، إلى الغرب،
سواء تلك المؤقتة أو التي ستصبح دائمة، وفي أحيانٍ كثيرة سينتفي هذا التقسيم التعسفي
بين المؤقت والدائم، في أرض ترفض التقسيم، من وجهة نظرة أبنائها، والتي يمكن أن
نجد تجليا لها في مفاهيم نخب من الضفتين، كأحمد الشقيري الَّذي لم ير في نهر
الأردن سوى سيل لا يمكن أن يشكل حدودًا بين دولتين، أو كالدباغ صاحب موسوعة بلادنا
فلسطين، الَّذي لم ير في شرق الأردن سوى جزءًا من فلسطين، وعلى المقلب الآخر،
استمر وصفي التل، الَّذي ينظر إليه كثيرون في شرق الأردن كرمز للأردنة، باعتبار
فلسطين جزءًا من الأردن، وعندما ترك العمل في المكاتب العربية أواخر الأربعينات في
القدس تحت رئاسة موسى العلمي، أخذ معه جزءًا من رائحة الغرب، زوجة العلمي، سعدية
الجابري حلبية الأصل وتزوجها، مضيفًا النكهة الشامية الأم لموقفٍ سياسي.
على الأرجح، فانه
لسببٍ ما ستكون رام الله، مرشحة لخلق أسطورة التَّرْحَال بين ضفتي النهر والبحر في
قاع العالم، وتتمثل بالشيخ راشد الحدادين، زعيم عشيرته في الكرك، باللجوء إلى
الغرب، هربًا من بطش التقاليد غير العادلة، فهو الَّذي منح طفلته كلامًا ومزاحًا،
زوجة لشيخ عشيرة مسلمة، لم يكن يتوقع أن يأتي الشيخ الخرف، ليطالب بمنحته، فشد
الرحال، ولكي تأخذ الأسطورة بعدًا دينيًا وحدويًا، فان شيخًا لعشيرة مسلمة رافقه،
واستقرا في البيرة، ولان الأرض كما تفترض كل الأساطير، مراح وبراح، فإنهما قررا
تقاسم كل هذا الخير، فاختار الحدادين البيرة، والآخر خربة رام الله، ولكنهما، وكما
يحدث أيضًا في الأساطير حيث لا يعرف المرء المكتوب له، تبادلا الأدوار، وحطَّ
الحدادين في رام الله، التي تقول حكاية أخرى انه اشتراها من أهل البيرة التي كانت
مدينة مسكونة، واختارها لكثرة الحطب فيها، وهو ما يحتاجه لعمله في الحدادة.
أسس الحدادين رام
الله التي ستصبح مدينة، بأولاده الخمسة، ويمكن ملاحظة عدد الأولاد الفردي، حيث الأرقام
الفردية مقدسة في ثقافة الشرق القديم، وستكون شاهدًا على كثير من محطات التاريخ
الفلسطيني، كالحرب الأهلية الفلسطينية في القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين،
والحرب العالمية الأولى، والنكبة التي غيرت رام الله للأبد، كما لم تغيرها الهجرات
إلى الأميركيتين.
يعيد أهل رام الله أسطورة
قدوم الشيخ راشد، إلى القرن السادس عشر أو السابع عشر، وهذه التأرخة مهمة، لان
فلسطين المعاصرة كما نعرفها الآن، هي في معظمها فلسطين مخاض القرن السادس عشر،
وتاليه السابع عشر، وتفيدنا الوثائق بان الهجرة من الشرق إلى رام الله توالت كما
هو حال عائلات مثل: الدِبّيني، والعجلوني، وحشمة.
تظهر رام الله في
الطابو العثماني الخاص بلواء القدس (الَّذي نشره الدكتور عدنان البخيت ونوفان
السوارية في عدة مجلدات)، في عشرينات القرن السادس عشر، كمزرعة موقوفة على الحرم الإبراهيمي
الشريف في مدينة الخليل، في حين أن شقيقتها البيرة، التي عُرفت باسم البيرة
الكبرى، تمييزا لها عن بيرة أخرى جنوب بيت لحم (هي الآن خربة البيرة)، كان عدد
سكانها 21 خانة (أسرة) و5 مجرد (أعزب).
قد تؤكد هذه
المعلومات، ولو بشكل نسبي حكاية الشيخ راشد، ولكن رام الله ستصبح في نهاية القرن
قرية كبيرة بعدد نفوسها بمقاييس ذلك الزمن، تضم 9 خانات من المسلمين و71 خانة من
المسيحيين، وهي بهذا تجاوزت البيرة التي ستضم مع نهاية القرن 45 خانة من المسلمين
فقط.
ويمكن الإشارة إلى أن
رام الله عندما وصلها الشيخ راشد، كانت تتكيء على تاريخ تليد، ما زالت المهمة
قائمة لكشفه، ويمكن الاستدلال عليه من البقايا الأثرية كالبرج الصليبي وخرب مثل:
الردانا، والطيبة، وعيون الماء كالكرزم، ومصباح، وسمعان، وترفيديا وغيرها.
مجتمع رام الله
بصيغته الأبوية الحدادينية المتعاضدة، سيكف عن أن يكون كذلك ولو نسبيا، ولا نعرف
متى حدث ذلك، ولكن مؤشرًا مهما ظهر في الحرب الأهلية (قيس ويمن) عندما شذت إحدى
العائلات عن الإجماع القيسي، وأصبحت يمنية، ورام الله التي ستصبح مع أسطورة الشيخ
راشد بلدًا منتجًا للأساطير، سنعثر على الكثير من الحكايات التي تعود لتلك الحقبة،
وحقب لاحقة مهمة في تاريخها، ومن أبرزها عندما اكتشفت المدينة نفسها، كبلد تَرْحال،
يُحطّ فيها ويُرحل عنها، (وم يقتصر ذلك على العرب والفلسطينيين بل شمل أيضًا
الإرساليات الأجنبية ودورها المهم في حياة رام الله وبشكل أقل البيرة.
ومثلما حدث مع الشيخ
راشد، وتحميل وزر ترحاله لشيخ أو أمير مسلم، سيحدث ذلك مع الهجرة الأولى التي
دشنها حنّا الصاع، في منتصف القرن التاسع عشر، عندما ذهب بائع التذكارات
هذا برفقة الحجاج اليونانيين إلى اسطنبول، وقبل نهاية القرن، دشّن بوسف الدِبّيني
الهجرة إلى الأميركيتين، وسيتحمل وزر ذلك بناؤوا الحجارة من بيت لحم وبيت جالا، الَّذين
بنوا دورًا وكنائس في رام الله، وسمع منهم الدِبّيني عن الهجرة، حيث كان لأهل
المدينتين السبق للتّرْحَال البعيد إلى الشمال.
تَرْحال
الدِبّيني، سيصبح عدوى تضرب رام الله وجارتها المتداخلة معها البيرة، وقرى في
ريفهما، ولكن الحدث الأهم، والَّذي قد يكون المحوري في مسألة الهجرة، على عُهدة
يوسف جريس قدورة، الَّذي شغل قديمًا رئاسة بلدية رام الله، وصول مئة جنيه ذهبًا،
مع ولادة القرن العشرين، مِن عيسى عيدة المهاجر إلى البرازيل إلى والده، والتي
يقال بأنها أَوَّل تحويلة مِن نوعها تصل رام الله، وكان الاحتفاء بها حديث النَّاس
فترة طويلة، ومصدر إلهامٍ لناس رام الله والبيرة، الَّذين توافدوا على منزل عيدة
لتقديم التهاني والتبريكات.
لفترة
طويلة، كانت نساء رام الله يدعينَ على حنّا الصاع، وعلى يوسف الدِبّيني، لفتحهما
باب الهجرة الواسعة لرجالهن، وترددت في جنبات المنازل أُغنيتهنَّ الحزينة:
سافر
وَخُذني معك بَفْطِر على دُكة
بَصْبِر
على الجوع ما بَصْبِر على الفُرقة
وفي
استقبال العائدين، تُنشد نساء رام الله:
يا
مرحبا يا جاي مِن دَرّب القُدْس/ يابو ساعة ذهب ولها يرغول
يا
مرحبا يا جاي مِن دَرْب القُدْس/ لابس
ساعة ذهب ومغاوي في اللبِسْ
ولكن
رام الله لم تكف عن الاستقبال والتوديع، فعائلات رام الله المسيحية القيسية، ستلجأ
مثلما فعلت قبلها بيت جالا، إلى جبل القيسيين (جبل الخليل) لاستقدام قيسيين مسلمين
ليقطنوا في المنازل الحجرية المتروكة، ويمكن في رام الله التحتا سماع لهجتهم التي لم
تتغير كثيرًا، ويشكلون الآن كتلة تصويتية (في انتخابات البلدية) لا يستهان بها.
في
عام النكبة، استقبلت رام الله (والبيرة وقراهما) قسرًا اللاجئين من الرملة واللد
(ومن غيرهما بالطبع)، ليتغير وجهها وتنهض لتصبح مصيف فلسطين (الرسمي) ومقر الإذاعة
الرسمية والفنادق (كالجراند والأنكل سام) والسينمات، وفي النكسة ستنتكس، عندما نزلها جنود الاحتلال غير
مصدقين كيف أصبحت مدينة منازل القرميد الأحمر بقبضتهم بكل هذه السهولة، سيقاوم
رئيس بلديتها نديم الزرو ويبعد، وستفك البلدية أسود رام الله الخمسة في ميدان
المنارة الذي أُقيم بعد النكبة، والتي نحتها النحات أبو الصادق، الَّذي لم يحل
انتماؤه لجماعة مسيحية منشقة هي شهود يهوه من تكليفه بنحتها، وتضعها في المخازن،
وستنشط النقابات والأحزاب وسيبرز دور جامعة بير زيت، ومؤسسات المرأة.
وستستهدف
أدوات الاحتلال رئيس بلديتها كريم خلف، الَّذي وصل إلى موقعه مثل آخرين على قوائم
أعلنت أن منظمة التحرير مرجعيتها، بتفجير سيارته، وسينجو ليعاني من إصابته حتى
وفاته لاحقا في أريحا.
وسيحط
ياسر عرفات، أول رئيس للسلطة الفلسطينية، في المدينة على الأقل اسميا (مقره الرسمي
ضمن حدود بلدية البيرة)، وستنفتح شهية المدينة على شهوة البناء التي امتدت على
حساب الأراضي الزراعية، وستظهر مدينة أخرى غير رام الله التي عرفها النَّاس، وإنما
ما يشبه النموذج المشوه لمدن عربية مثل عمّان، والقاهرة، وبيروت، بالطبع مع مراعاة
فروق التشابه، وستبنى مشاريع على مواقعٍ أثرية، وستهدم البلدية نفسها عيون ماء
تاريخية، وستخرج من مخازنها تماثيل الأسود وتضعها في ميدان الساعة، وستحل أسود
أكبر على ميدان المنارة.
تناسخت
رام الله، وسيصفها البعض بالفقاعة، والقشرة، وسيجد كثيرون ممن حطوا فيها أنفسخ
غرباء، سيذكر مثل هذه المشاعر لكاتب السطور، وزراء وغفراء، وستظهر كنيات عنصرية أو
شبيهة بها، مثل وصف العمال الوفدين بالتايلنديين، وسيُعرف البعض بأنهم من الجنوب أو
من الشمال، وسيظهر دائمًا مِن أهل المدينة، مَن يعلنون فخرهم بأنهم من أحفاد الشيخ
راشد، ويؤكدون على تاريخهم التليد، وسيعبر عن ذلك في الأدب كما لدى الكاتبة ياسمين
زهران.
وما
حدث لعرفات، من حصار وقتل، هو من التاريخ القريب المعروف، ومن سمات مدينة الحط
والترحال، التي تعيش على قلق، ولأول مرة من الصعب استشراف قادمها، وربما لهذا
السبب، أو لغيره، تلقي المدينة الآن نظرة إلى أسطورة الشيخ راشد، وتنصب له نصبًا
يمثله وزوجته وأولاده الخمسة، بتصميم اثنين من فنانين حطوا في المدينة: سليمان
منصور، ونبيل عناني، وبتمويل من أحفاد الشيخ راشد، عن أرواح أحبائهم: حنا،
ووردة غانم، وشكري وفكتوريا غانم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق