يحتاج المرء،
إلى صعود 177 درجة، ليصل إلى قمة برج كنيسة الفادي اللوثرية في بلدة القدس
القديمة، الذي يبلغ ارتفاعه 48م، ويعتبر أعلى برج في القدس المسورة.
ويوفر تصميم
البرج، الذي اقترحه الامبراطور الألماني فيلهيلم الثاني (غليوم)، الذي افتتح
الكنيسة خلال زيارته التاريخية لفلسطين عام 1898م، نظرة بانوراميه دائرية، من جميع
الجهات، لمناطق عدة داخل البلدة القديمة، مثل المسجد الأقصى المبارك، وأجزاء واسعة
من القدس الجديدة، وجبل المشارف (سكوبس)، والجامعة العبرية، وجبل الزيتون، وكنائس
الصعود، ومستشفى اوغستا فكتوريا، وغيرها من معالم.
خلال الصعود
إلى البرج، من خلال الدرج الحلزوني، يمكن التقاط الانفاس، في محاطات للتوقف، خط
الصاعدون على جدرانها، أسماءهم، وشيئا من أمنيات وأحلام، تذكارا لرحلة الصعود.
ويمكن أن يرى الصاعد، وهو يلتقط أنفاسه تعبا، حمامة بقرب بيض وضعته على زاوية إحدى
الدرجات، أو على حافة إحدى النوافذ.
عند الوصول
إلى قمة البرج، ورؤية المدينة المقدسة من علٍ، تنتاب المرء مشاعر دافقة، وهو يحاول
الاستدلال على الأماكن الشهيرة التي يعرفها، وكيف تبدو من هذا المكان المرتفع،
وموقعها ضمن فسيفساء القدس الغنية.
تاريخ متنوع
كنيسة الفادي القريبة
من كنيسة القيامة، أُقيمت على جزء من المورستان (المشفى) الصلاحي، الذي بناه صلاح
الدين الأيوبي، في منطقة المستشفى الذي أقامه فرسان القديس يوحنا (فرسان
الإسبتارية)، خلال الحقبة الصليبية، الذين استخدموا دير مار يوحنا وكنيستين
تابعتين للروم الأرثوذكس، مقرا لهم.
وبعد هزيمة
الصليبيين، أعاد صلاح الدين الدير للأرثوذكس، وفي فترة من العصر العثماني، ومع
توثيق العلاقات بين العثمانيين والألمان (بروسيا)، أهدى السلطان العثماني عبد
العزيز في عام 1869م، القسم الغربي من المورستان، إلى ولي عهد بروسيا الذي أصبح
لاحقا القيصر فردريك الثالث، لبناء كنيسة ألمانية في الموقع، حيث كشفت حفريات
اثرية انه بنيت فيه أيضا، كنيسة باسم القديسة ماري اللاتينية، في الحقبة الصليبية.
بجانب كنيسة
الفادي شارع يحمل الان اسم شارع المورستان الصلاحي، وهو في الواقع يفصل بين الجزء الشرقي
لتلك المنشأة الطبية المهمة التي تُنسب لصلاح الدين التي تعرف الان باسم كنيسة
الفادي، وبين جزءها الآخر، التابع لبطريركية الروم الارثوذكس، ومن بينها الدير
المعروف الان باسم دير مار يوحنا، وسوق افتيموس، في المنطقة المعروفة باسم
الدباغة، ولهذا يطلق على كنيسة الفادي، أيضا اسم كنيسة الدباغة.
وتعتبر مساحة
منطقة المورستان نحو 17 دونما، في موقع استراتيجي وهام في قلب القدس القديمة،
يرتادها الحجاج والزوار باستمرار.
بدايات
وضع التصميم
الاولي للكنيسة المهندس فريدريك أدلر (1827-1908)، الذي وصل القدس في عام 1871م،
ولكن لم يتم بناء الكنيسة، لأسباب مالية، وعندما وصل إلى العرش فيلهيلم الثاني،
وفر كل الدعم المالي، والفني، من خلال فريق عمل أرسله برفقة أدلر، إلى القدس، لتبدأ
ورشة عمل كبيرة استمرت بين الأعوام (1893-1898م)، لكي يتم افتتاح الكنيسة خلال
زيارة القيصر وزوجته اوغستا فكتوريا إلى فلسطين، وهو ما تم في عيد الاصلاح
اللوثري، الذي أطلق شرارته مارتن لوثر.
أدلر صمم
الكنيسة على النمط المسمى النيو رومانسي، وهو مذهب فني شمل الاداب والموسيقى
والهندسة المعمارية وغير ذلك في نهاية القرن التاسع عشر. مع إدراج عناصر من كنيسة ماري
اللاتينية، وعناصر صليبية أخرى وجدت بين الأنقاض، من بينها تضمين قوس من الفترة
الصليبية في المدخل الشمالي للكنيسة.
في مدخل
الكنيسة الغربي، باتجاه شارع المورستان، يظهر أعلى الباب رمز مسيحي لوثري يمثل
الضأن وصليب، بالإضافة الى رموز بروسية على الجانبين، في الجانب الايسر يمكن رؤية أجنحة
نسر مطوية ترمز للقيصر الألماني، ورعابته لجميع الشعوب في إمبراطورتيه. أما في
الجانب الايمن، فيمكن رؤية الصليب المالطي، الذي كان رمزا لفرسان القديس يوحنا.
داخل الكنيسة،
وتحت طاولة المذبح، يوجد نقش يحمل تاريخ 22 أكتوبر 1898، وهذا يعني انه تم تجهيزها
قبل اسبوع من افتتاح القيصر فيلهيلم للكنيسة. وتوجد نافورة المعمودية تحت البلاطة
الشمالية. والتي نحتت من قبل النحات
الألماني هوبيرتوس فون.
وفي الواقع، فان
بناء هذه الكنيسة، كما يصفه مارسيل سير، المسؤول في المعهد الالماني للعلوم
والاثار في البلاد المقدسة (DEI)
ومقره في قصر اوغتسا فكتوريا على جبل الزيتون، تم خلال اندفاع دولي لاستكشاف
الأراضي المقدسة، ويشبه ذلك بسباق الفضاء في خمسينات القرن العشرين.
تعتبر الكنيسة
اليوم، مركزا لرعاية اللوثريين المتحدثين باللغات: الألمانية، والعربية، والانجليزية
في البلدة القديمة.
اكتسبت
الكنيسة شكلها الحالي بعد الترميمات والتجهيزات اللازمة التي اجريت عليها بين عامي
1970-1974، ورغم هذه الترميمات، الا أن الكنيسة لا تزال توحي من خلال زجاج نوافذها
الملون، وميدالية المحراب الرئيس، بطابعها السابق.
المتحف
في رواق بجانب
الكنيسة، يعود للقرون الوسطى، يوجد متحف صغير، يعرض معروضات عن تاريخ كنيسة الفادي
والمورستان المجاور، ويتحدث عن قضايا وتساؤلات وطرق عمل علماء الآثار. محور
الاهتمام في الاهتمام يتمركز في المكتشفات التي تعود لفترات هيرودوس الكبير، والسيد
المسيح، والامبراطور الروماني هادريان،
والامبراطور البيزنطي وقسطنطين. بالاضافة الى محور اخر يتركز في تاريخ المورستان
في العصور الوسطى والاسلامية، وتجارب الحجاج آنذاك، وتنتهي مسيرة الجولة عبر الزمن
للأعمال الكنسية اليومية للوثريين في القدس، وغيرها من الطوائف البروتستانتية في
المكان.
ورغم صغر
المتحف، إلا انه يحوي قطعا اثرية مهمة تم الكشف عنها في الموقع، إضافة إلى عملات
متنوعة، وقطع من الموزاييك، والتماثيل.
حفريات
أسفل صحن
الكنيسة في منطقة الحفريات، موقع زاخر بالآثار، توفر للزائر، جولة عبر الزمن، من
خلال المكتشفات التي تعود لعصر هيرودس الكبير أي قبل الفي عام،. وكذلك يمكن رؤية
اثار سور كبير، وفسيفساء كنيسة القديسة ماري اللاتينية.
لعبت المنطقة
المجاورة لكنيسة القيامة دورا مهما وبدا انه حاسما في أوائل الأبحاث الاثرية، في اثناء
بناء كنيسة الفادي، إذ تم الاعتقاد بان ما تم اكتشافه أسفل صحن الكنيسة الحالية،
يمثل سور القدس القديم الذي يعود لفترة هيرودس الكبير، وأدى هذا الاكتشاف إلى
انهاء الجدل القائم حول صحة موقع الجلجلة في محيط كنيسة القيامة اليوم، حيث قدم
الاكتشاف في حينه البرهان على أن موقع كنيسة القيامة في زمن المسيح كانت تقع خارج أسوار
المدينة، ولكن الحفريات التي نفذها معهد (DEI)
خلال ترميم الكنيسة 1970-1973 أظهرت بان السور الذي تم اكتشافه ما هو إلا سور
خارجي فقط كان يحيط بمعبد افروديت في عهد هادريان، والذي بقي في نفس الموقع اثناء
بناء القيصر قسطنطين كنيسة القيامة، ورغم ذلك الاكتشاف إلا ان التنقيب من خلال
الشق الحفري الامامي العميق (14 مترا) الذي أُقيم في الموقع وبلغ الأرضية الصخرية،
حيث تبين انه وصل إلى محجر استخدم حتى القرن الاول قبل الميلاد، يؤيد قبول الفرضية
القديمة بان موقع كنيسة الفادي والقيامة، كان في فترة المسيح خارج أسوار المدينة.
تجري الان
حفريات في الموقع، ويتوقع اثريو معهد (DEI)،
بانهم سيكتشفون مباني من العصور الوسطى، خصوصا دير البندكتين الذي بنى بجوار كنيسة
القديسة ماري اللاتينية.
جنوب الكنيسة،
وبمحاذاة شارع المورستان، تم وضع نصب تذكاري، تخليدا لذكرى فرسان القديس جون
(يوحنا)، ولبقايا مشفاهم الذي خدم الحجاج خلال الحقبة الصليبية، في القرنين الثاني
والثالث عشر الميلاديين. وليس هناك ذكر لمأثرة صلاح الدين التي وقعت في يوم ما تحت
نفوذ سلطان عثماني فأهداها لقيصر جاء من خلف البحار، ليترك بصمته، مثلما فعل كل من
مرّ بالمدينة أو حلم بها من فاتحين وقادة وغزاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق