أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الاثنين، 21 سبتمبر 2015

الموت على حدود الآخرين/رامي أبو شهاب

مقالة مُهداة إلى روح الطفل «إيلان»
■ تعدّ ثيمة الجنون مبحثاً خطابياً في الكثير من الدراسات والكتابة الإبداعية، فالجنون يمتلك تلك الميزة التي تنهض على جاذبية نفي المنطق، والجنوح إلى أبعد مدى، فالعقل يرى في الجنون ثغرة تتيح له التخلص من فائض العبث، وتحديداً حين ندرك أن المثالية لهذا العالم، لا يمكن أن تكون إلا وهماً، فالجنون يبقى مثالية معاكسة للواقع، ولهذا نعمل على إقصاء المجانين عن واقعنا، ولكننا في الحقيقة نقوم بتحييد وجهنا الآخر، أو ملامحنا النقية، وبعبارة أخرى هي حقيقتنا التي تتبدى في التّداعي الحر الذي يتقنه المجانين. فالجنون الذي بحث فيه ميشيل فوكو كاشفاً عن طبقات من الممارسات التي نظرت له بوصفه جريمة، ولاسيما في أوروبا التي كانت ترسل أعداداً كبيرة منهم في سفن إلى مستعمراتها الجديدة، ومن هنا بالتحديد نتخذ من فعل الإقصاء مدخلاً للحديث عن رواية الروائي الفلسطيني أسامة العيسة بعنوان «مجانين بيت لحم» والحاصلة مؤخراً جائزة الشيخ زايد للكتاب لعام 2015.
الجنون يتجاوز أن يكون حالة مرضية فردية، وخاصة عندما يتحول إلى مسلك بشري عندما تُفقد القيم، حيث يتحول الواقع إلى حلم سوداوي عميق، الجنون يطغى ليصبح مرضاً على مستوى المكان، أو على مستوى الدولة، وشعبها، كما نراه ماثلاً في عالمنا العربي، فالكل مجنون، يمارس جنونه بطريقة، أو بأخرى. يحضر الجنون ملتصقاً بالمكان، ولعل ضغط الواقع قد أفضى إلى استعادة الجنون بوصفه ملاذاً نستطيع من خلاله استعادة توازننا، أو الهرب والاستتار. لقد اختار أسامة العيسة صيغة الجمع للتعبير عن إحالة المجانين إلى مدينة بيت لحم الفلسطينية، والتي تشكل في الوعي الفلسطيني باعتبارها المكان الذي يرسل له المجانين، ولهذا نجد أن كثيراً من أسماء الأمكنة، أو المناطق تتحول في بعض الثقافات إلى كناية عن الجنون، مع أنها ربما تكون حاملة دلالة مناقضة لذلك:
«إنها لوثة الجنون التي أصابت هذه البقعة من العالم، البقعة التي تفخر بأنها حملت رسالة السلام إلى العالم، ولن تستطيع صنع سلامها الخاص، ولعلك أكثر واحد في العالمين، عالمنا وعالمكم، خَبرَ ذلك يا عجيل» (ص 26) وهكذا فلا عجب أن يفتتح العيسة روايته بذكر الفلسطينيين بوصفهم مجموعة، تتفق على أن التخلص من شخص غير مرغوب، أو شرير لن يتحقق إلا عبر إرساله إلى الدهيشة …(المخيم).
تُبنى الرواية على ثلاثة أسفار هي سفر «التكوين»، و»سفر من لا سفر له»، و»سفر المشمشي». تُعنى الرواية بشكل مركزي بالجنون، والذي ينشأ في سياقات محددة، وهنا يحيل الروائي إلى الدهيشة المخيم، ولكن لماذا انبثق هذا الجنون فجأة، وبهذا القدر؟ وكي نجد الإجابة ينبغي أن نعيد تحليل الجنون الذي جاء نتاج ذلك التنافر، أو التضافر بين عدة عناصر، هي المكان، والتاريخ والإنسان، وفلسطين، وبيت لحم ـ الدهيشة تمتلك مجتمعة عمقاً في بيان الجنون الذي نتج بفعل الاحتلال والذي تجلى بممارسة الاحتلال، والاستيطان، والنفي، والاقتلاع، ما أدى إلى جعل الجنون حالة، أو وباء، ومع ذلك فإن لدى المجانين الكثير من الصدق، والجاذبية والنقاء.
تنفتح الرواية على عبارة «أنهم يقتلعون الأشجار» وهي تأتي بالتوازي مع زيارة إبراهيم باشا إلى أرض فلسطين والتي تحمل هي الأخرى سمة من سمات الاقتلاع الذي يعني بعداً من أبعاد الإحالة لفعل التغير، والإقصاء، وهنا يحيل الراوي ذاته إلى المخيم، أي أنه نتاج الطارئ في المكان، أو بعد النفي، والتشرد الذي يبدو طارئا على جنود إبراهيم باشا الذين استوطنوا فلسطين بعد الحملة المصرية، وهنا إعلان واضح عن هذه النوايا السردية لتثمين العائم من الوجود البشري في غمرة المكان الذي طُبع في بعض جوانبه بطابع القادمين مع الحملة المصرية، وخاصة من المقتلعين، والمشتتين، وهكذا كانت الهوية الفلسطينية عامة، أو التلحمية مزيجاً من عابرين، وساكنين، حيث جاء «قد تقف يا جدنا عجيل، متعجباً، إزاء القمع الشديد الذي مارسه الباشا المصري، ولكن، للحق، إن مغامرته قد تكون قد شكلت الهوية الفلسطينية كما تعرفها الآن، بما في مصريتها (16).
يتخذ البُعد السردي بشكله التاريخي مجالاً حيوياً في خلق جاذبية العمل حيث تُدغدغ توقعات القارئ في أفق القراءة، فنواجه نسق التعليل لخلق بنية المكان الفلسطيني، أو الدهيشة، وتعليل سبب التسمية «الدهيشة» التي نقرأ لها أكثر من قصة، بالتوازي مع الحضور المصري، والعثماني، والروسي، والإنكليزي والفرنسي، وغيره في تشكيل المكان، وهكذا نجد فعلاً من الاختلاط، وبناء صورة هجينة للمكان الذي يتخذ ألوانه ثقافياً في ضوء الحدث التاريخي السياسي.
تنفر من الدهيشة حكايات كثيرة لمجانين فلسطينيين، فنتلمس عبرهم ذلك النأي، والنفي، والشتات الذي يحيط بهذه الشخصيات، ومنهم إبراهيم العشي الذي عرف بلقب «داهش بك» لتميزه بالسحر إلى حد الإدهاش. يموت داهش بك في أرض غير أرض فلسطين، وتحديداً في بيروت سنة 1942(24). ومن خلال شخصية داهش نتوصل إلى ماجدة الحداد، وهي إحدى الشخصيات التي تأثرت بداهش الذي أوصلها بدوره إلى الجنون، بل إلى الانتحار حيث أطلقت النار على نفسها حزناً على داهش بك.
تقوم الرواية على بيان ضغط النفي، والاحتلال، ولهذا نجد أن التكوين المبدئي للفعل السردي ينهض على قيمة دلالية، تتمثل باقتلاع الأشجار- كما سبق وأن ذكرنا- ففعل الاقتلاع حالة من القضاء على تلك المرجعيات والجذور، إنه إقصاء بلا حدود، وهذا مما يعني احتفاء سوداوياً بهذا الجنون القائم على الانزياح في الجغرافيا المثقلة بالحكايات حول المرتحلين.
إن القلق حول إدراك حدود المكان، أو مخيم الدهيشة، يتخذ طابعا أسطورياً ، كما في رسالة ترسل إلى عجيلي، والتي يعقبها قصة «قصر» أو مكان بُني في تلك المنطقة، والذي يعود في ملكيته لشخص يدعى سليمان جاسر حيث عرف وعائلته، بالكرم والجود، هذه العائلة استحصلت على أموالها نتيجة العمل في المهجر، وهنا نقرأ تلمساً لطبيعة التكوين المختلط، والعابر للقيمة التاريخية للمكان الذي يختط لنفسه نمطاً من التشويش والتشتت، حيث هنالك حكايات شفاهية، تتمحور حول مميزات هذه العائلة، وكرمها، ولكن القصر يتعرض لتغيرات حيث تحول في أزمنة إلى سجن، ولاسيما في زمن الاحتلال، وتحول في أزمنة أخرى إلى مدرسة، وفندق ومعسكر، علاوة على تلك التقاطعات التي تتخذ طابعاً دينياً حول المكان، ومرجعياته سواء كانت مسيحية أو يهودية، أو إسلامية. إن التأكيد على الطابع المختلط، للدهيشة، بوصفها مكاناً للجوء والشتات، قائم على المرجعية عينها، ولهذا فهي تحمل خصوصية محددة كما يشير العيّسة «كنا نحاول التفريق بين دهيشتنا ودهيشة أخرى بجوارنا، فدهيشتنا، التي بناها المشردون والأميون الذين أتوا من الساحل، والسهل الساحلي، والهضاب الوسطى، وجبال القدس والخليل، هي المخيم، الذي تحول إلى رمز لقضية اللجوء، أو هكذا أحب سكانه أن يقدموه. (ص47)
يشار إلى الدهشية المخيم قد تأسست بعد 1948، وهنا نؤكد على حدود التكوين التاريخي لمعنى اللجوء والنفي، فالقيمة الدلالية المُتعالية، تنشأ من أثر الاحتلال، وما صحبه من تهجير، وإقامة طارئة في المكان الذي نتج مشوهاً، أو لأنه نتيجة خطأ تاريخي، كما الأشخاص الذين استوطنوه، ولهذا نستمر في تتبع تلك الثيمة حول استعادة رحلة الخروج، والنفي في الرواية، أي الإقامة في «بلاد الآخرين» كما جاء في الرواية (ص47). وهذا يأتي بالتجاور مع استعادة سرديات اللجوء، والقتل، والجوع، وما إلى ذلك من التأريخ الذي تحتفي به الرواية الفلسطينية عامة، والتي تنتهج نسقاً خطابياً فيما يتعلق بهذا الجانب، وهكذا يتحول المخيم إلى كابوس طويل، ومقيت، ولكن الفلسطينيين استطاعوا أن يقاوموا المخيم بأن سعوا لتأسيس معنى الحياة، ومن ذلك تأسيس مدرسة على يد خليل زقطان الشاعر الفلسطيني، وهنا نقرأ تكراراً لهذا النهج الذي يسعى إلى نفي المخيم، والشتات بالتعليم الذي يتبدى ثيمة منتشرة في الرواية الفلسطينية، وكأن هنالك رغبة بالتعالي على هذا الواقع، وهنا نأتي على تتبع لبعض أسماء الشعراء الفلسطينيين الذين ماتوا في المنافي، وبلدان الآخرين، كما مع الشاعر عبد الفتاح الكواملة الذي توفي لاجئاً في مدينة إربد بالأردن، وغيره الكثير. يمضي الكاتب في تتبع شخصيات من المخيم بما تتسم به من ملامح الجنون، ويبقى المخيم، والشتات دافعاً للبحث والخروج عن عالم أفضل، ولكن في بعض الأحيان، يكون المنفى ربما أفضل من منفى آخر، ولكن الأهم أنه يبقى فاعلا في أكل، وقضم حيوات اللاجئين «فالحروب لا تقسم الأوطان وتلتهمها فحسب، بل أيضا تلتهم حيوات المهزومين» (ص 55)
المخيم يتحول إلى سجن يعيشه فيه البشر، أو ربما هم حيوانات مهددة بالانقراض، كونها تعيش خارج المكان والزمان (59)، اللجوء كابوس ثقيل، ولاسيما حين يحمل معه وجه الهزيمة؛ ولهذا تنتج عنه هستيريا جمعية، تصبح فعلاً مائزاً على مستوى الشخصية، فالشخصية الفلسطينية هي حصيلة عقود من الشتات، والقتل، والهروب، والارتحال، ومحاولة التآلف مع الأمكنة الطارئة، ومحاولة التودد لها.
في الجزء الثاني «سفر من لا سفر لهم» نتلمس القيمة العملية لفعل التدوين الكتابي للمخيم، ولفعل اللجوء الذي تشكل منه، فالموت في المخيم، والجنون هو نتيجة حتمية، فلا عجب أن يفتتح الفصل بعبارة تقول «نموت في مخيم اللاجئين في ارتباط غريب مع مستشفى الأمراض النفسية والعقلية والصبية (ص 75). ومن تلك الشخصيات التي يضطلع الكاتب برصد حكاياتها المجنون أبو عصري والذي يقطن في المخيم لعقود، فلا جرم أن يحاور أجيالاً وأجيالا من اللاجئين، ينزح أبو عصري إلى الأردن، لكن ينتهي به المطاف في مستشفى الأمراض العقلية، وذلك بعد أن تعرض للتعذيب في سجون الاحتلال نتيجة التحاقه بالفدائيين، وهنا نرى كيف تقود كل المسالك إلى مستشفى المجانين، وهذا يبدو كأنه نتاج الاقتلاع، الذي يقود أبا عصري فيما بعد إلى الموت منتحراً على ذمة سلطات الاحتلال.
نمضي فيما بعد إلى حكاية سلوم في سياق النأي، وثقل المكان حيث يموت الرجل في مستشفى المجانين، وتستمر الرواية في سرد حكايات المجانين الذين احتواهم المخيم، ومستشفى المجانين، فاللجوء كان قادراً على تبديد معنى الحياة، والألفة، وما هو مألوف في حياة البشر، وهنا نقرأ عبارة تنمّ عن مدى ما يمارسه الشتات والنفي على البشر حيث جاء فيما يتعلق بشخصية العبد علوي اليساري الوجودي:»كان الخال علوي هادئاً، مكسوراً، انطفأ البريق عينيه منذ زمن، مثل جميع اللاجئين أمثاله الذين فقدوا أراضيهم، ووجدوا أنفسهم في مخيمات اللجوء يعملون عند الناس بعدما كان يعملون في أرضهم ويأكلون من خيرها» ( ص87).
نستكمل سيرة الانتحار لنعود إلى العبد العلوي الذي يموت منتحراً أيضاً، وكأن هذا المخيم يقود إلى الموت بوصف الثاني مصيراً حتميا، وهذا نتيجة الرفض اللاواعي للجوء، ولقيم سادت في زمن الانكسارات، وهنا يستدعي العيسة في نسق سردي متواتر، وبإيقاع سريع، قصة الطالب الذي انتحر لعدم تحقيقه درجات عالية حيث تتبدد أحلامه ليتحول إلى لاجئ طريد في أوطان الآخرين، أو للموت على حدود أوطان الآخرين، كما نجد في كثير من شخصيات الرواية: «بعد انتحار العبد لم يعد يذكره أحد، كأن مصيره هذا كان محسوماً سلفاً، وكأن موته أمر متوقع، ولا أعرف سبب ذلك، ربما لأن العائلة فقدت العديد من رجالها ماتوا شباباً، إما غرقاً في المحيط الأطلسي، أو بجرثومة في الصحراء العربية، أو مرضاً، أو انتحاراً كما هي حال إلياس الذي حرق نفسه بسبب العشق» (ص94).
هنالك شخصية يوسف علان التي تتبدى بوصفها نتاج المخيم الذي جاءه لاجئاً، ومن ثم اعتقل وعذب، كما الأسطة الذي قدم من غزة، ليقضي عمره يعاقر الخمر في أزقة المخيم. تستمر سلسلة الشخصيات التي أفرزها اللجوء والشتات، وعلى ما يبدو، فإن هنالك قيمة من المبالغة في تعداد، وسبر أغوار الجنون عبر حلقات، ربما تتسم بشيء من التكرار الممل، ولاسيما في بعض المواقع، ما يحتاج إلى معالجة سردية، تنهض على تفعيل التأمل السردي.
نصل إلى السفر الأخير الموسوم بالمشمشي حيث ينتقل بنا، إلى حالة من التحولات التي طرأت على مستشفى المجانين، ولاسيما بوصول السلطة الفلسطينية بعد اتفاقية أوسلو، وغير ذلك من أحداث، كالانتفاضة الفلسطينية، وغيرها، وكأن الكاتب يتخذ جانباً من التأريخ المعاصر على هامش قيم الجنون، وتسيّدها المشهد، إذ نتلمس الحالة الفلسطينية باعتبارها حالات من الجنون المتداخلة، حيث نقرأ إحالات إلى شخصيات فلسطينية واقعية إلى أن تنتهي الرواية على الإتيان بالأثر الروسي، وحضوره على الأرض الفلسطينية، في حين أن الأوراق الأخيرة تحمل بياناً عن كم المجانين، والجنون الذي لم يأت الكاتب على ذكرهما، في حين تتوج الرواية بالجنون، أو الحدث الأكثر قسوة، ونعني الحرب الأخيرة على غزة، وعلى ما يبدو فإن فلسطين أرض السلام، بدأت تتحول إلى أرض للمجانين، إذ لا بد لها من الجنون حتى يكون نوعاً من الاستتار كما يقول أسامة العيسة في تعريف الجنون معجمياً كما جاء في الصفحات الأخيرة من الرواية .
http://www.alquds.co.uk/?p=403803

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق