يظهر رهبان دير مار سابا اليونان، في برية القدس، الود للزوار، رغم وحشة
المكان الذي بني فيه الدير، على ضفة وادي النار الغربية.
يستقبل الرهبان الزوار، في الأوقات التي لا يكونون مشغولين فيها بالصلوات،
ويقتصر دخول الدير على الذكور، اما النساء، فيجلسن خارج الدير، في محيط بوابته
الرئيسة، حيث يتشدد الرهبان في تنفيذ وصية مؤسس الدير مار سابا، بحظر دخول النساء
الى الدير. وثمة اسطورة شعبية، تشير الى انه في حالة دخلت امرأة الدير، فانه
سيهتز، وينهار.
يعود تاريخ هذا الدير المنحوت جزء منه في الصخور، إلى نحو عام 478م، وهو
مبني بشكل فني لافت ويطل على جبال ووديان وكهوف توحي بالتفرد والشموخ والقسوة
والوحشة.
حياة بدائية
ويعتمد رهبان الدير في معيشتهم على
الأدوات البدائية ولا يستخدمون أية أدوات حديثة كالتي تعمل بالكهرباء. وتتم في
الحالات القصوى فقط، الاستعانة بمولدات كهربائية، من اجل الاعمال الانشائية
والصيانة.
يقول أحد الرهبان: "ان الحياة الرهباينة هنا قاسية بعض الشيء، فهنا
نسير بحسب الساعة البيزنطية، أي 12 ساعة من الليل، تبدأ مع غروب الشمس، والطقوس
تبدأ بعد ساعة او ساعتين من منتصف الليل، بحسب الساعة العلمانية، وتستمر من 6-7
ساعات كل يوم، وحتى 9-10 ساعات في فترة الصوم الأربعيني الكبير".
واضاف: مائدة الغذاء تنصب فقط مرة واحدة في اليوم، ما عدا ايام السبوت
والآحاد والاعياد الكبيرة، فعندها تصبح مائدة الغذاء مرتين في اليوم. اما الطعام
في ايام الصوم الاربعيني الكبير فهو عبارة عن نواشف. لم يرد القديس سابا للرهبان
في ديره الانشغال بمختلف انواع الاطعمة او الانشغال بالحقول، لذلك فإنه داخل اسوار
الدير، لا تنمو الا بعض النباتات مثل اشجار الزيتون والليمون".
تتراوح درجة الحرارة في المكان، ما بين صفر مئوية وحتى 50 مئوية، اما
الامطار، فتمطر ثلاث او اربع مرات في السنة، ويتم تجميع المياه في احواض يستخدمها
الرهبان، طوال العام.
القديس سابا
ولد القديس سابا في بلدة صغيرة في
كابوديكا في آسيا الصغرى، وحسب سيرة رسمية له اصبح راهبا وعمره 8 سنوات، ووصل
فلسطين وعمره 18 عاما، ليبدأ مسيرة رهبنة ما زالت تحظى بالاهتمام حتى الان.
توجد في الدير مومياء القديس سابا، الذي دفن بعد وفاته عام 532م، في ديره،
وأقدم الصليبيون على نقل رفاته إلى كنيسة القديس مرقص بإيطاليا، وبتاريخ 20-11-1965
تمت استعادة المومياء ونقلها إلى الدير في احتفال مهيب، وتم ذلك بعد الاتفاق بين
البابا بولس السادس والبطريرك المسكوني لدى التقائهما في الأراضي المقدسة عام
1964، وتوجد المومياء في مكان مظلم في الدير ويمكن رؤيتها من خلف زجاج. ويمنع
رهبان الدير، الزوار من التقاط صور لها.
يحوي الدير أقدم الترجمات العربية للأناجيل، وتعود هذه الترجمات إلى عام
885 م، وهي بهذا اقدم من المخطوطة العربية للأناجيل الموجودة في دير سانت كاترينا
في سيناء التي تعود إلى عام 897م، والتي يتم تقديمها باعتبارها الأقدم.
رجل الدين الروسي دانيال الراهب زار فلسطين عامي 1106-1107 وحضر الى الدير
وكتب عنه: "يقع في وادي جهنم، وهذا الوادي يرتفع من بيت المقدس ويمر
بالجسمانية، ويقطع الدير وينتهي إلى بحر سدوم (البحر الميت). إن موقع دير القديس
سابا رائع ولا يمكن وصفه. ويوجد هناك قاع سيل جاف، من الفظاعة رؤيته، وهو عميق
وتحيط به جدران عالية من الصخور، حيث ثبتت حجرات الدير بطريقة مدهشة ومخيفة"
يوحنا الدمشقي
وبالإضافة إلى القديس سابا، فإن من
أشهر من نزلوا في الدير ولا يزال يقام له عيد يستقطب أعدادا من المؤمنين كل عام،
منصور بن سرجون المعروف باسم (يوحنا الدمشقي) المولود في دمشق في عام 675م، الذين
كان وزيرا للأمويين، مشرفا على تحصيل الضرائب، مثلما كان جده منصور ووالده سرجون
يخدمان في هذا المجال الفرس والبيزنطيين والمسلمين.
ورغم عروبة الدمشقي المعروفة، الا أن رهبان الدير، يقدمونه باعتباره من اصل
تركي، رغم مولده في دمشق، وهو ما يثير حفيظة الزوار العرب للدير.
وفي سنة 720م قرر الخليفة الجديد عمر بن عبد العزيز، إعفاء المسيحيين من
المناصب الإدارية العليا، وكان ذلك تحولا كبيرا في حياة يوحنا الدمشقي العارف
بالقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، فحضر إلى دير مار سابا، وكان سبقه إليه
أخوه بالتبني (قزما)، وحيث عاش في الدير معلمه قزما الراهب الذي علمه في فترة
الصبا. وبعد فترة من مكوثه في الدير رسمه البطريرك الأورشليمي يوحنا الخامس كاهنا،
واصبح مستشاره المؤتمن، وفي تلك الفترة تزعم محاربة من يدعون لنبذ الأيقونات
المقدسة، وهو صراع شهدته الكنيسة في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين خصوصا في
آسيا الصغرى، بتأثير من الديانتين اليهودية والإسلامية.
وكتب يوحنا الدمشقي في هذا الشأن مفندا المزاعم المناهضة للأيقونات، وعُرف
يوحنا الدمشقي أيضا بصفته واحدا من مشاهير كتاب الأناشيد الدينية التي ما زالت
تتلى حتى اليوم في الكنائس. وعندما توفي دفن في دير مار سابا، ثم تم نقل رفاته إلى
القسطنطينية، ويصفه المفكر روجيه غارودي بالشخصية المرموقة الذي أمضى في دير مار
سابا "ثلث القرن وكتب فيه كل أعماله التي تعتبر نقطة انطلاق لحوار بين
المسيحيين والمسلمين ولكن بصيغة جدلية هجومية".
وصدر بحق يوحنا الدمشقي، حرمان كنسي قاسي، بإيعاز من الإمبراطور البيزنطي
–كونستانتينكوبرونيم- الذي عقد مجمعا من 338 أسقفا، اعتبروا أن الدمشقي
"المعظم للأيقونات"، يميل قلبه إلى المسلمين، وهو غير صحيح، لأن الدمشقي
جادل الإسلام ودافع عن العقيدة المسيحية، من صومعته في دير مار سابا، الذي كان
عندئذ تحت سيطرة الحكم الإسلامي، وهو ما جعل غارودي، يعتبر ذلك نموذجا على ما سماه
التسامح الذي كان من سمات الخلفاء الأمويين الأوائل، وحتى عندما اعتزل يوحنا
الدمشقي في دير مار سابا بعد إعفائه من منصبه بسبب قرار الخليفة الجديد فانه
"عاش حتى موته دون ان يعاني من أي ضغط من جانب المسلمين"-كما يقول
غارودي.
وقارن غارودي، بين الحرمان البيزنطي الذي صدر بحق الدمشقي وجاء فيه:
"اللعنة والحرمان لعدو الإمبراطورية يوحنا الدمشقي المبشر بالجحود والمعظم
للأيقونات"، وبين حقيقة "ان يوحنا الدمشقي في صومعته بدير القديس سابا
في فلسطين التي أصبحت مسلمة كان يناظر بحرية ويجادل مبادئ الإسلام نفسه ويدافع عن
العقيدة المسيحية الرسمية".
ترجمات الاناجيل العربية الاولى
وتحول الدير منذ القرن الثامن
الميلادي مصدرا لأعمال الترجمة العربية للأدبيات المسيحية، ووجدت فيه مكتبة كبيرة
ومدرسة لنسخ المخطوطات تلبي حاجات الأديرة الأخرى الواقعة بين انطاكيا وسيناء، وفي
دير مار سابا كتبت اقدم مخطوطة يونانية استعمل فيها الخط المعروف باسم الـ
"ميونسكل" ويعود تاريخها إلى عام 835م، وحروف هذا الخط صغيرة ومتصلة
طورها الرهبان من الحروف الكبيرة بين القرنين السابع والتاسع الميلاديين، وكتبت في
هذا الدير أيضا ثاني اقدم مخطوطة جورجية تعود إلى عام 864م، وهي محفوظة الآن في
دير سانت كاترينا.
وتكتسب اليوميات والتقارير التي كتبها رهبان دير مار سابا عن المسيحيين
المحليين الفلسطينيين أهمية كبيرة، وكذلك أعمال أحد رهبان الدير ثيودور أبو قورة،
الذي كان رائدا لجيل رهباني مسيحي فلسطيني وهو أول من نقل اللاهوت إلى العربية،
بعد أن كان مقتصرا على اللغتين اليونانية والسريانية. ونشط في الدير رهبان أتوا من
جنوب العراق في القرن التاسع، الذين نقلوا إلى العربية كتابات لاهوتية مهمة،
محفوظة الآن في ليننغراد، وستراسبورغ، ودير سانت كاترينا.
ومن أبرز رهبان دير مار سابا، ودير خريطون إلى الجنوب منه، والذي لم يبق
منه الآن شيء حتى الأطلال، الراهب اسطفان الرملي، الذي تعد ترجماته للأناجيل إلى
العربية، اقدم الترجمات في هذا المجال.
والرملي هذا، ولد ونشأ في مدينة الرملة الفلسطينية، التي أسسها الأمويون،
وتحولت إلى عاصمة لفلسطين اكثر من ثلاثة قرون. ومكنته نشأته في مدينة الرملة
الاطلاع على الثقافة الإسلامية، وعلى الآراء الفقهية الإسلامية في اللاهوت
المسيحي.
وتدل محاولات التصحيح والتنقيح التي كان يجريها الرملي بشكل دائم على
ترجماته، إلى محاولته الخروج بترجمات ترضي نبوغه العلمي واللغوي. ولم تقتصر أعمال
الرملي على ترجمة الأناجيل إلى العربية، ولكنها شملت مؤلفات لاهوتية، ومن اشهرها
كتابه (الشامل) الذي تضمن قضايا لاهوتية كانت مطروحة في زمنه مثل الأيقونات.
يغادر الزوار الدير، المكان الذي يلفه صمت، تاركا الرهبان، يعيشون حياتهم
التي رضوا بها، منقطعين للعبادة، على خطى تعاليم القديس سابا الذي يروي عنه
الرهبان اساطير عديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق