عزازيل التائه في القدس

تسترجع رواية "عزازيل" ليوسف زيدان ، فترة إنتشار المسيحية في العصر البيزنطي، واضطهاد الوثنيين مِن قبل أتباع الديانة الجديدة للإمبراطورية، والصراعات بين رجال الدين المسيحيين، وهو موضوع طرح من قبل باحثين غربيين، وبقي مِن المحظورات أمام الباحثين العرب.

يبدي هذا العرض الموجز ملاحظات على ما ورد في الرواية، بما يخص علاقة بطلها هيبا بمدينة القدس التي كانت إحدى المحطات التي مكث فيها، والتقى خلالها برجل الدين نسطور، وذلك من دون التطرق لمضمون الرواية.

إيلياء

تدور أحداث الرواية في القرن الخامس الميلادي ( 424 م)، في العصر البيزنطي (يطلق عليه الكاتب: الروماني)، ويجيء ذكر القدس على لسان بطل الرواية ويُطلق عليها عدة أسماء من بينها اسم "إيلياء"، وهو الاسم أُطلق لاحقاً على المدينة مِن قبل العرب، وهو تحوير لاسمها "إيليا كابتولينا" الذي أطلقه عليها الإمبراطور الروماني هادريان الذي هدم القدس، وأعاد بناءها لمناسبة مرور 21 عاماً على اعتلائه سدة الحكم ( 135 م)، وما زالت معالم هذه المدينة قائمة، وتكشف الحفريات عن الكثير منها، وأبرزها الآن "باب العمود" نسبة للعمود الذي كان يحمل تمثال هادريان، وهو أسفل باب العمود العثماني الحالي.

 واجه العرب كما يبدو صعوبة في إدراك معنى هذا الاسم (إيليا مشتقة من ايليانوس اسم عائلة هدريان وأما كابيتولينا فمن اسم الإله الروماني جوبيتر كابيتولينوس)، فعربوه إلى "إيلياء" كما ظهر في الكتابات الإسلامية المبكرة عن الفتح العمري للمدينة (636 م)، ووثيقة استسلام المدينة التي تسمى العهدة العمرية، وتظهر هذه الإشكالية أكثر عند ياقوت الحموي الذي يفسر الاسم، وكأنه "بيت إيل" قائلاً: "ايلياء اسم بيت المقدس. قيل معناه بيت الله"، وهو ما يمكن وصفه بخطأ علمي، وهو ليس الخطأ الوحيد لدى مَنّ وصف بأنه أعظم بلدانيي المسلمين. لقد تم تبني روايات العهد القديم عن القدس وفلسطين، التي يجري الآن على نطاق واسع دحضها.

ولأسباب غير مبررة لم يتغير حتى الآن تعامل جل الباحثين العرب والمسلمين مع القدس، عن هذا التبسيط الياقوتي المخل، ومثله الأبرز في رواية باحث مُطّلع مثل يوسف زيدان.

مِن المستبعد أن تكون القدس حملت اسم "إيلياء" في الزمن الذي تدور فيه الرواية، فما وصلنا من نصوص حول هذا الاسم يعود إلى ما بعد 200 سنة من وقوع أحداثها.

مغارة خريطون

تتحدث الرواية عن القديس خريطون، أحد أشهر الرهبان في صحراء البحر الميت في العصر البيزنطي، وعن اعتصامه في: "مغارته الموحشة قرب البحر الميت"، وكيف أن بطل الرواية جلس أياماً خارج المغارة حتى خرج له خريطون ليحدثه.

هناك الكثير مما يمكن التطرق له عن خريطون هذا وعن دوره في حياة الرهبنة، وبنائه لعدة مؤسسات رهبانية في برية القدس، أولها في منطقة عين فارة قبل استقراره الأخير في ما يطلق عليه الآن مغارة خريطون، وهي إحدى المغارات العظيمة في فلسطين، وغير مكتشفة بشكل كامل، وتخضع الآن لسيطرة الاحتلال والمستوطنين.

وتكتسب أهميتها من كونها تقع في منطقة تبين أنها من أولى المناطق التي سكنها الإنسان في العالم، وتشير الدلائل إلى اكتشاف الإنسان للنار فيها.

لكنّ الصورة التي تقدمها الرواية لخريطون المعتكف وحيداً بعيدا عن العالم، تبدو بعيدة تماما عن الواقع، فخريطون في مكانه هذا بنى مؤسسة ضخمة وديراً كبيراً، ما زال أحد أبراجه قائماً ويطلق عليه محليا اسم "قصر ودادة" نسبة لأسطورة محلية، وكشفت الحفريات الأثرية  في المكان عن عشرات الصوامع، الآبار، البرك، أرضيات الفسيفساء، القنوات وغيرها من مكونات الدير، الذي يُعتقد أنه يشبه ديراً أخر ما زال قائما في برية القدس هو دير مار سابا، وفي هذين الديرين (دير خريطون ودير مار سابا) وضعت الترجمات الأولى للكتاب المقدس باللغة العربية، في أثناء الحكم الأموي.

لم يكن خريطون مجرد ناسك في مغارة، بل إدارياً، وبانٍ عظيم لمؤسسات دينية واجتماعية لعبت دوراً في تاريخ فلسطين.

أسوار القيامة

تقع الرواية في خطأ آخر عندما تصرّ على أن كنيسة القيامة محاطة بالأسوار، والتي يتم ذكرها مراراً وتكراراً في الرواية، وكيف أثرت في مشاعر بطل الرواية وهو يراها من بعيد. ويشير الراوي غير مرة إلى موقعها البعيد عن صخب الناس في المدينة، وسير البطل هيبا بمحاذاة أسوارها، بصورة يومية في أثناء مكوثه في القدس.

يتوفر لنا تخطيط لمدينة القدس في العصر البيزنطي، من خلال خارطة مادبا الفسيفسائية تظهر فيه كنيسة القيامة وهي داخل أسوار القدس، كما هو حالها الآن  من دون أن تحيط بها أسوار، لأنها ببساطة لم تكن بحاجة لها مع توسع المدينة في العصر البيزنطي، لتضم الأسوار منطقة واسعة غرب المدينة بما فيها قلعة باب الخليل، مما جعل موقع كنيسة القيامة الذي كان معبداً لأفروديت إبان عهد هادريان، في وسط المدينة وصخب الناس فيها.

يتحدث هيبا عن حسن طالعه في إقامته داخل أسوار كنيسة القيامة قائلاً: "لو أقمت في المدينة لقتلني صخب الناس"، وواقع الحال أنه كان وسط الناس وصخبهم، وليس بعيداً عن أسواقهم، فبلدة القدس داخل الأسوار مساحتها كيلو متر مربع يضم المساجد والكنائس، والشوارع، والمباني، والأقواس، والأسبلة، وكل شيء.

فلسطين العربية

يتحدث بطل الرواية وهو في القدس عام 424م عن الأناجيل بأنها: "لم تترجم فيما نعلم إلى لغة العرب، الذين صرنا اليوم نعيش بينهم ونتكلم لغتهم". هذه إشارة غريبة، ولا نعرف عن كثافة عربية عاشت في القدس في تلك الفترة، فرغم تعرّب فلسطين سياسياً (وليس لغوياً) مع الفتح العمري بعد هذا التاريخ بمئتي عام ( 637 م)، وقد تم ذلك عبر عملية تدريجية طويلة ومعقدة خيضت فيها صراعات دموية، إلا أن اللغة العربية لم تسد في فلسطين آنذاك، أو تتجاور مع الآرامية، وذلك حتى التعرض للغزوات الصليبية، عندما بدأ السكان المحليون استخدام العربية بتوسع وبصورة مقصودة، كوسيلة لمقاومة الغزو الإفرنجي.

الاستسهال في كتابة التاريخ يظهر في الصورة التي تقدم عادةً للخليفة عمر، الذي قاتل أكبر إمبراطوريتين في عصره، عندما جاء لتسلم مفاتيح القدس المحاصرة والمنهكة، وهو يتسنم جملاً يتناوب عليه مع خادمه، وكأن لا أخطار تتربص به في الطريق الطويلة من الجزيرة العربية إلى القدس، وكأن خليفة المسلمين الثاني وهو بصدد وضع  أسس إمبراطورية عربية ناشئة سريعة التمدد، لا يحتاج إلى مستشارين، ومساعدين، وعسس وجنود يتقدمون عليه لكشف الطريق، ولعمال بريد ليتواصل مع عاصمته التي تركها، ومع جيوشه المنتشرة في بلاد الشام.

http://www.qabaqaosayn.com/node/614