أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 24 فبراير 2011

عماد أبو زهرة: اتذكرك..!


في احد أيام خريف 1999، نزلت، من جبل الكرمل، الذي قضيت عليه ليلة في ضيافة الجماعة الاحمدية، سيرًا على الأقدام، في شارع الجبل، الذي كان عرضة لرضى إسرائيل ونقمتها، فغيرت اسمه، إلى شارع الأمم تقديرا للأمم المتحدة، التي أصدرت قرار تقسيم فلسطين، وجعلت حيفا ضمن الدولة العبرية، وعندما اتخذت الأمم المتحدة عام 1974، قرارا اعتبرت فيه الصهيونية، شكلا من أشكال العنصرية، جُنت إسرائيل، وغيرت اسم الشارع، ليصبح شارع الصهيونية، وبعد انتهاء الحرب الباردة، وسقوط المعسكر الشرقي، غيرت الأمم المتحدة رأيها، وألغت القرار، ولكن إسرائيل لم تغير موقفها الرسمي من الشارع، الذي ظل معروفا لدى من تبقى من عرب حيفا بشارع الجبل.

في منتصف الشارع، دخلت إلى بيت قديم، في ضيافة صديقة كاتبة وعائلتها الجميلة، وأمضينا، نحو ثلاث ساعات، تحدثنا خلالها في أشياء كثيرة، ثم نزلت إلى البحر.
على شاطيء البحر، رأيت الروسيات اللواتي حدثتني عنهن الصديقة باعتبارهن حديث حيفا آنذاك، واللواتي بدون متحررات جدا، بألبسة البحر، حتى بالنسبة لنظيراتهن اليهوديات، وكثيرات منهنَّ، تجمعن في حلقات بدت عائلية، وكثيرات منهنَّ أيضا، اضطجعن على الرمال، وكل منهنَّ تحمل كتابا، تقرؤه، غير آبهات بعيون بعض الشباب اليهود، الذين بدؤوا بإثارة جلبة لإثارة انتباه جنيات البحر الروسيات.
نظرت حولي، وشعرت بالغربة وأنا اخلع ملابسي، وانزل إلى البحر، حتّى تقدم إلى شاب، بدا مفعما بالحيوية. رايته يسبح بجانب بعض الروسيات، ويحادثهن، عرفني على نفسه: عماد أبو زهرة.
كان عماد قد أصدر في مدينته جنين، صحيفة باسم (جنين) أغلقتها السلطة الفلسطينية، في شهر أيلول 1996، بعد شهر من صدورها، وأصبحت، لفترة، إحدى قضايا انتهاك حرية الرأي في ظل السلطة.
قال لي إنه يأتي من جنين، إلى حيفا، كلما سنحت له الفرصة، وغالبا ما تسنح كل أسبوع تقريبا، ليسبح ويتمتع، وبدا فرحا بطريقة غير عادية، ومتصالحا مع نفسه إلى حد كبير، بعيدا عن الظلم الذي تعرض له في مدينته.
وروى لي بينما كان يرنو إلى أفق البحر المتوسط كيف اصطدم مع بعض أجهزة السلطة، الأمر الذي أدى إلى إغلاق جريدته، واعتقاله، فترك الصحافة وقرر أن لا يعود إليها ثانية.
قلت له، ممازحا، ومماحكا، وأنا انظر نحو الروسيات المستلقيات على الشاطيء:
-يبدو أن هذا أفضل لك..، سيحسدك صحفيو فلسطين..!

ولم يعجب أجهزة السلطة الأمنية، التي وجهت لها، المنظمات الحقوقية، انتقادات كثيرة في تلك الفترة الأولى من عمر السلطة، بارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان، أن أبا زهرة كتب في صحيفته، بأن مذاق السجائر التي تستوردها إسرائيل من الولايات المتحدة أفضل من مذاق السجائر التي تستوردها السلطة الوطنية، وتساؤله لماذا لا يُمول أصحاب اقتراح بناء بيت للرئيس ياسر عرفات في جنين هذا المشروع بأنفسهم، ولانتقاده بلدية جنين على قرارها بناء طرق جديدة بدل تصليح القديم منها، ولانتقاده، أيضا، الاتحاد العام للنقابات.
واتهم المدعي العام أبو زهرة، بالجنون، ومع ذلك أغلق صحيفته واعتقله، رغم أن المجانين يجب إرسالهم إلى دير المجانين، وجدد المدعي اعتقاله، لأنه كتب على باب غرفة السجن، المليء بكتابات السجناء، اسم صحيفته جنين، مما أضاف تهمة أخرى لسجله: إتلاف الممتلكات العامة.
سألني عماد عن أخباري، ووجودي في حيفا، تحدثنا كثيرا، ونحن في البحر، نلعب بالماء، وسألت عماد عن الأجواء المخيمة على الشاطي، وعن حرية التحرك بالنسبة لأمثالنا من العرب، ثمّ تركني وأسرع نحو حورية بحر مبتعدا عن الشاطئ.
كان عماد جريئًا مع الروسيات، ينافس، شبانا من الروس، مفتولي العضلات، تضفي النظارات الشمسية الغامقة، غموضا عليهم، وكان يسري همس بين الشاطئيين، بان هؤلاء من المافيا الروسية.
قلت لعماد: أنت مجنون، ولكنه ضحك، وهو يعرفني على مجموعة من صديقاته الروسيات.
كان ذلك لقائي الأوّل والأخير مع عماد، الذي عاد إلى الصحافة، مع انتفاضة الأقصى التي لم نكن ندري أنها على الأبواب، ولتكتب نهاية حكايته بطريقة مأساوية.
كان أبو زهرة يُغطي أحداث الانتفاضة في جنين التي تعرضت لاجتياحات عديدة وكثيرة، وخضعت لحظر تجوال لأيام طويلة، وعندما رفع حظر التجوال، في 12 تموز 2002، لعدة ساعات خرج مرتديا سترة كتب عليها (صحافة) بصحبة زميله المصور سعيد الدحلة، ولم يُقدر الاثنان بان رفع حظر التجوال لم يكن سوى فخ نصبته قوات الاحتلال، فاجتاحت الدبابات الإسرائيلية المنطقة فجأة، فهرب المواطنون ولم يبق إلا أبو زهرة ودحلة، فصوبت إحدى الدبابات رشاشاتها نحوهما وأصيب أبو زهرة في شريان رئيسي في رجله، وتمكن من التراجع، وهو ينزف، ووصل المستشفى فاقدا الوعي، بسبب النزيف الحاد وما لبث أن توفي.
وكان شاهدا على حادث قتله ناشط أجنبي في حركة التضامن مع الشعب الفلسطيني، هو البريطاني بيت بليكر الذي أسرع إلى المكان وصور الحادث، وقال إن الجيش الإسرائيلي قتل عمدا عماد أبو زهرة وأصاب زميله، ورأى العالم كله، على الفضائيات، صحافيا وهو ينزف، أما أنا فكنت أرى عاشقًا للحياة، يذوى بطريقة دراماتيكية، في بلاد تصعب الحياة الطبيعية فيها.
كثيرون كتبوا عن عماد، بعد مصرعه، فأصبح بطلا "دافع عن مدينته بالكاميرا"، تلك المدينة التي نبذته، إلى روسيات حيفا.
مع اشتداد العنف خلال انتفاضة الأقصى، فقد الموت في فلسطين هيبته، وأصبح عاديًا، وأصبحت، أيضا قصة استشهاد عماد المأساوية، واحدة من سلسلة حوادث مشابهة كان ضحاياها من أصدقائي أو معارفي، ومنهم، ويا للمصادفة، حملوا اسم عماد.
بعد نحو عشر سنوات، من لقائي بابي زهرة، في خريف 2010، قُدر لي معاينة المكان الذي أصيب فيه، بمدينة جنين.
شعرت بتأثر، وسالت، كيف يمكن الاحتفاظ، بطزاجة حكايات شهدائنا؟، وكيف يمكن أن تكون مؤثرة فعلا، في الواقع السياسي، والاجتماعي، والثقافي؟
في هذا الشهر، حضرت عرضا لفيلم (روايتنا) للدكتور مصطفى البرغوثي، وفرحت لأنه ذكر قصة عماد أبو زهرة، الذي أصبح في الفيلم صبحي أبو زهرة، ومكان الاستشهاد: نابلس.
قد يعتبر البعض مثل هذه الأخطاء هفوات صغيرة، حتى بالنسبة لفيلم، تم إعداده خلال عام ونصف، ورغم امتعاضي من هذه الهفوات، إلا أنني لم أُكَوّن موقفًا منها، وفقط أردت أن أقول لذلك الشاب، المقبل على الحياة، عندما التقينا كغريبين، على شاطيء حيفا، بأنني أتذكرك يا عماد أبو زهرة.
http://radioalif.com/atemplate.php?id=3146

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق