أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الجمعة، 3 يوليو 2015

فلسطين مهد الوعي أم بؤرة الجنون/بطرس حلاق


المراجعات الثلاث التي نشرتها (السفير) البيروتية منذ صدور المجانين، كانت أكثر من إغناء للنص، إنها رؤى، شكرا محمود شريتح، وثائر ديب، واليوم بطرس حلاق:

نص فذّ بكل معنى الكلمة يذهب بمفهوم الرواية بوصفها جنسا أدبيا طليقا إلى أقصى حدوده، متماشيا مع نمط سردي يكاد يكون من ميزات الرواية الفلسطينية بدءًا بإميل حبيبي. نعم، نص فذّ يستفزك منذ صفحاته الأولى: تتوقع نصا تخييليا يصرح به التجنيس المعلن على الغلاف، «رواية»، فإذا بك أمام حكايا متتالية متداخلة هي مزيج من وقائع تاريخية محددة الزمان والمكان ومن مذكرات شخصية منشورة ومن مقتبسات صحافية...؛ فتتساءل إن كانت نسبتها إلى الرواية خدعة أم تجاهلا وربما شيئا من التذاكي. ولكنك تنساق لمتعة السرد وطرافة الأخبار وروح دعابة مشبعة بشعور حاد بالمأساة إلى أن يتكشف لك منطق السرد. فتغبط لجنة جائزة الشيخ زايد للكتاب، ليس فقط لحسن اختيارها بل لشجاعتها في الخروج عن المألوف. والواقع أن جدّة هذه الرواية لا تتأتّى من طرافة تتوخّاها في أسلوبها السردي، كما هي الحال في كثير من الكتابات الحديثة، بل من تآلف الحكاية (ما هو مرويّ) مع تقنية الروي بغية التعبير عن وعي آخر للحالة الفلسطينية. يتجلى هذا الوعي على مستويات ثلاثة: أولا، مقاربة «ديموقراطية» تركّز على الشعب بثقافته الحية، عوضا عن النخب المطمئنة إلى ثقافتها المتعالية؛ الارتقاء بحالة خاصة، هي الحالة الفلسطينية، إلى الشرط الإنساني الجامع، بحيث تغدو تلك المأساة العبثية صورةً إليغورية تفضح وحشية العالم المتلبس بقيم إنسانية حداثية كاذبة؛ وأخيرا لا آخرا التأسيس لثقافة فلسطينية واعية تقوم على ذوات فردية مستقلة تكتمل ببناء مصير مشترك.

إنها سيرة مكان، بؤرته بيت لحم وبوجه أدق مخيم الدهيشة، ولكن ساحته فلسطين بأكملها، بتاريخها الحديث الممتد من حملة إبراهيم باشا حتى اجتياح غزة عام 2008. إنها سيرة مجتمع بهشاشته وقدراته، مسكوبة في صيغة «سيرة روائية» ذاتية وجماعية، تؤالف ما بين الواقع والمتخيل في آن. يحكي الراوي عن نفسه وعائلته وعن شعبه ممن عاصره أو سبقه بجيلين أو ثلاثة. فهو والحالة هذه راو فردي يستبطن «نحن»، لذا يضطلع بعدة أدوار يلمح إليها تلميحا ملتبسا منذ الافتتاحية. فالراوي يتوجه إلى مخاطب هو عجيل الذي يتجلى في نهاية المطاف وكأنه «أناه» الاخرى، «أنا» تتماهى مع أنوات أخرى تشكّل «نحن». تتجلّى هذه النحن من خلال أحداث واقعية يقرها التاريخ والوثائق المكتوبة (مراجع تاريخية، مذكرات، مقالات صحافية) وأخرى مستقاة من المتوارث الشفوي إلى جانب ما يقتبسه الراوي من تجربة المؤلف الشخصية. لذلك يموّه النص الحدود بين مَعيش الراوي ومَعيش المؤلف الحقيقي تأكيدا على واقعية ما يسرده، وعلى انخراطه الشخصي في الحالة العامة. وينضاف إلى دور الراوي - المؤرخ الملتبس بدور المؤلف دورُ الراوي المتخيل العليم؛ مما يخوله أن يشطح في الخيال إلى حدود الفانتازيا، بحيث إنه يتقمص صورة الحكواتي الشعبي مخاطبا جمهوره بأسلوبه المعهود: أسلوب يعتمد التشويق والمراوغة، ويتصرف بالأحداث بحيث تتلاءم مع سياق جمهوره بهمومه اليومية وآماله. إنه راو فردي لا يطل على قارئه من عل، بل يتماهى مع جمهوره ليحدثه عن واقع يومي يعيشه هو أيضا. صيغة الحكاية تحيل إلى سياق شعبي يمور بالحياة، ويفرض مادته الخاصة.

لذلك لا يخضع اختيار الأحداث المسرودة لمنطق التأريخ الرسمي، بل لمنهج «تاريخ الحوليات»، الذي أرسى دعائمه الفرنسي فرنان بروديل. منهج يركّز على وجوه الحياة اليومية ، لا سيما لدى الفئات الشعبية، بما فيه ارتباطها بالأحداث السياسية ومؤسسات السلطة. فيتناول الأعراف والعلاقات العائلية (جرائم العرض)، وتعددية الفئات البشرية من مقيمين أصيلين، ووافدين هم بقايا جيوش مهزومة أو ناجون من مجازر سابقة كالتي تعرّض لها الأرمن والسريان، ومن مبشرين ومغامرين ويتحدث عن الثقافة الشعبية التي تكوّنت في ذلك الحيز الجغرافي: الثقافة الدينية بمصادرها المتعددة، والثقافة السياسية بما تفرزه من قمع أعمى ومقاومة وسلوك رجال السياسة والمثقفين، والثقافة الاجتماعية بمظاهرها الحضارية الشائعة: غطاء رأس العروس، وسائل النقل الطارئة حديثا (الطنبر)، نشأة المقاهي... كما يشير إلى تعاقب حضارات عريقة تشهد عليها منشآت عمرانية صمدت أمام صروف الدهر. هكذا تأتي هذه السيرة تعبيرا عن واقع حي ملموس يتجلّى في المؤسسات المادية والرمزية والسلوك كما في تصوّر العالم كما انطبع في الذاكرة الشعبية، الواعية واللاوعية، فشكل مخيلتها الفاعلة في السلوك اليومي. أما الأحداث المتخيلة فتُسكب هي أيضا في أسلوب شعبي يختلط فيها «الواقعي» بالشائعات والقصص والحكايا، والمأساوي بالهزلي، والأهازيج بالغرائب... فينشأ من ذلك سرد سمته العامة تمازج الأصوات والأجناس الأدبية، التي تتمثل في أنواع السرد المذكورة. إنه عالم المجتمع الشعبي بثقافته المتعددة الوجوه وبمصيره المشترك.

الفانتازيا

 غير أن هناك عنصرا فنيا يضفي على هذا المشهد فرادة خاصة، هو الفانتازيا التي تلفّ الأجناس الأدبية المتمازجة وتعصف بالأصوات المتداخلة وتسم الشخصيات والفئات على اختلافها. تتجلّى هذه الفانتازيا من خلال اليغوريا مأساوية - هزلية، تجعل من مشفى الأمراض العقلية في الدهيشة صورة عن فلسطين بأكملها. فإذا بالجنون يطال كل من نشأ في هذا الحيّز الجغرافي المكان أو طرأه، حتى بصورة المجتاح أو المستوطن أو الغازي أو المبشر والمغامر. بل يطال على نحو خاص النخب الاجتماعية والثقافية والسياسية (السلطة الوطنية)، وحتى المرجعيات الروائية نفسها (الراوي/المؤلف، وعُنجيل المُخاطَب ويوسف علآن الوسيط). فكأن الجنون قدر كل من يلامس أرض فلسطين. إنها المأساة بكل ثقلها تستعصي على الوصف العقلاني، فلا تُدرك إلا من خلال المغالاة في الخيال والمفارقة الساخرة المرّة. جنون العالم بأسره بل جنون التاريخ يتفجر في فلسطين. فمأساتها هي مأساة البشرية، تنبع من هشاشة المجتمع الفلسطيني بعامته وخاصته، بقدر ما تنبع من وحشية البشر. هكذا تسمو هذه الحالة الخاصة إلى مستوى إنساني جامع يكاد يكون «انطولوجيا». ويتفاقم البعد الانطولوجي من خلال اختيار الراوي بؤرة مكانية فذّة، هي مدينة بيت لحم. فالموقع مكان تأسيسي في السرديات التوحيدية الكبرى. فهو في المسيحية مسقط رأس يسوع الناصري، ولكنه بامتداده إلى القدس يشمل رمز اليهودية (هيكل سليمان)، كما يشمل قبة الصخرة، ممر الرسول إلى السماء في معراجه. ذلك المكان التأسيسي يحيل إلى فعل تكوين مطلق. لذا يلجأ النص إلى تعابير معتمدة في تلك السرديات. منها يستقي الراوي/المؤلف عناوينه الثانوية، فيطلق على القسم الأول عنوان «سفر التكوين»، وهو حكاية الخلق كما وردت في الكتاب المقدس وسرت عبر الإنجيل والقرآن. ثم يردفه في القسم الثاني بعنوان يمعن في السخرية المرّة التي تعبر عن المأساة، «سفر من لا سفر لهم». وينتهي بعنوان ذي نبرة هزلية شعبوية مشبعة بالمأساوية، هو «سفر مشمشي». هكذا تصبح مأساة فلسطين صورة جليّة عن الشرط الإنساني برمّته.

يرشح من هذا النص، الطريف بعالمه وفنيته على السواء، قصد يلمسه القارئ وإن لم يأت بصيغة صريحة؛ وفي تلك المواربة أيضا تتجلى قدرة النص الإبداعية. يشير هذا القصد إلى أن الخروج من هذه المأساة - القدر يقتضي وعيا مغايرا، عند الأفراد قبل الجماعة، لدى الفلسطيني كما لدى خصمه ولدى الطرف الخارجي - أي العالم بأسره - المهتم بأمر فلسطين عن طمع أو تعاطف، بعدوانية أو ببراءة. فالوعي الفلسطيني نجم عن صدمة مدوّخة زلزلت عالمه، فاحتمى تارة بـ «ضمير عالمي»، وطورا بعصبية قومية أو دينية لم تسعفه، وتحوّل أحيانا إلى نظرة إيديولوجية ذات وجهين: بأحدهما يضفي الفلسطيني على نفسه صفة البطولة ويرفع رموزه السياسية والثقافية إلى مستوى النبوّة، وبوجهها الآخر يسِفّ بنفسه إلى منزلة الضحية العزلاء. بذا خلق لنفسه صورتين غير مطابقتين: صورة «الفادي / الشهيد» من جهة، وصورة «الضحية الراضية / كبش الفداء البريء» من جهة أخرى. جُنّت عاقلته فوقع في «الجنون». ولا يتسنّى للفلسطيني أن يفلت من هذا الجنون إلا بمواجهة الواقع، ليبادر إلى بناء ذاته، بدءا بالذات الفردية، فيكتسب القدرة على التحكم بمصيره وعلى مجابهة خصم مزهوّ بقدرته على البطش. أما الوعي الإسرائيلي، المترسّخ في قدرته على البطش مدعومة بإيديولوجية غيبيّة، فقد مسخ قيمه وزين له شهوة الثأر من مستضعف لم يُسئ إليه، فحفر لذاته فخّا مطبقا ظنّ أنه نصبه لخصمه وحده. هو أيضا جُنت عاقلتــه فاستوحش؛ ولا خلاص له إلا بمواجــهة واقعــه بإعادة بناء ذاته من خلال قراءة إنسانية لتــاريخه، بدل أن يتدثّر أبدا بدثار «الضحية الأبدية» البريئة. وهناك أخيرا وعي العالم، المتحصن وراء قيم سامية مفرغة من مضمونها. فلا بد له من مواجهــة وحشية عنفه الذي أنــتج الظــروف الملائــمة لقيام ذلك الفخ الذي يتــردّى فــيه هو بــدوره، ذلك الفخ الذي يُعــميه عن تحــمل مســؤولياته، من باب الجبن الأخلاقي أو الطمع المادي.

لا مفرّ للجميع من وعي آخر يخرجهم من حالة الجنون المطبق، ويفتح أمامهم آفاقا جديدة ترتكز على القيم الإنسانية المشتركة، وعلى رأسها أولوية الإنسان الفرد؛ فهو المعيار الأساسي في بناء المجتمع وقيام عالم إنساني جدير باسمه.
إن هذا العمل الأدبي الجليل يمثّل، بالرغم من بعض هفواته، خطوة متقدمة في الإبداع الروائي العربي، ويبرهن على قدرة الإنسان الفلسطيني - وبالتالي، العربي - على الارتقاء إلى مستوى إنساني جامع، يخوّله التعبير عن الهواجس الإنسانية في كل زمان ومكان.
http://assafir.com/Article/428720

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق