أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

السبت، 3 أغسطس 2019

الصفّيف..!










يقف بشارة صليبا نور، أمام أكوام مرتبة من أحرف الرصاص، وبجانبه مكانة طباعة يعود تاريخها إلى عام 1919م، متذكرا كيف كانت أصابعه تعرف مكان كل حرف، عندما بدأ حياته المهنية في مجال الطباعة كمنضد أحرف، وما زال الشغف بالحروف يتملكه، رغم التطورات التي طرأت على المطبعة التي أسسها، ويديرها الآن ابنه دافيد، الذي يعتبر والده من رواد الطباعة فيما عرف بعد النكبة بالضفة الغربية.
ولد نور في مدينة بيت جالا عام 1937م، وعندما أنهى دراسة الصف السادس الابتدائي، وعمره 14 عاما، ترك المدرسة بسبب الأوضاع الاقتصادية، وكان ذلك في عام 1951م.
يعود نور بالذاكرة إلى ذلك العالم، الذي سيشكل مفصلاً في حياته: "معظم الناس في ذلك الوقت كانوا يعانون من ثقل الأوضاع الاقتصادية، بعد سنوات قليلة من النكبة".
توجه نور لتعلم مهنة الطباعة، ولم يكن يوجد في مدينة بيت لحم، سوى مطبعة واحدة خاصة هي المطبعة الحديثة، ويصفها بأنها مطبعة بدائية جدا، فلم يكن فيها سوى ماكينة طباعة وحيدة، وقليلاً من أحرف الرصاص. إضافة إلى مطبعة أحدث في مدرسة السالزيان الصناعية.
أمضى نور عامين في المطبعة، تعلم خلالها مهنة تنضيد الأحرف، وهي مهنة صعبة، تحتاج إلى صبر، وقوة احتمال، وعمل على ماكينة الطباعة الوحيدة في المطبعة التي تُشغّل بواسطة التحريك والضغط بالأرجل.
ويتذكر بأنهم في المطبعة، كانوا يستعينون بمطبعة السالزيان، المتخصصة بطباعة أشغال الدير، لأنها كانت أكثر تطورا من المطبعة الحديثة، حيث توفر فيها، كما يتذكر نور: "جميع الأجهزة الحديثة".
يؤكد نور بان مهنة تنضيد الأحرف، صعبة جدا، وكثير من الذين حاولوا تعلمها، كانوا يتركونها بسرعة إلى مهن أخرى، ويتذكر، واحدا من معلمي المهنة الكبار، وهو محمد الغول، من قرية لفتا المدمرة، الذي تخرج من مدرسة الأيتام السورية (شنلر)، وعمل في المطبعة الحديثة، وتعمل منه نور الكثير، وكان لدى الغول الاستعداد لنقل المهنة للفتى الشغوف والمثابر.
اقتصر عمل المطبعة الحديثة على أعمال متواضعة، كطباعة المناشير الترويجية للأفلام، حيث تأتي الكليشهات مع الأفلام من مصر، ويمضي نور، نحو نصف يوم في اختيار وتنضيد الأحرف المناسبة، ثم إعادة الأحرف إلى أماكنها.
ولكنه تمكن مع زملائه، ورغم قلة الإمكانيات كما يقول من طباعة أول كتاب في المطبعة الحديثة، وهو كتاب فلسطينيات للأديب الراحل يعقوب الشوملي.
يتذكر نور نسخ الكتاب الأولى وهي بين يديه، وكأنه يعيش واقعة حدثت معه بالأمس: "كانت طباعة فلسطينيات، أول تجربة حقيقية لي في مهنة الطباعة".
بعد عامين شد نور، الرحال، وقد أصبح "صفيفا" مشهودا له، إلى العاصمة الأردنية عمّان، ليعمل في مطبعة دار الطباعة العربية براتب قدره أربعة دنانير في الشهر، وظل في هذه المطبعة مدة أربعة أشهر، ولكن شهرته كمنضد أحرف، مكنته من العمل في مطابع أخرى، فانتقل إلى المطبعة الوطنية، ومطبعة الأردن، ومطبعة العاصمة، براتب أفضل.
يعتز نور، بتجربته في عمّان، خصوصا عمله في مطبعة الأردن، التي كانت تصدر جريدة بنفس الاسم، ويتذكر العمل الصعب في جريدة يومية، كانت تصدر بأربع صفحات فقط، وكان يستغرقه صف أحرف مقال من 500 كلمة مثلا، ساعات من الجهد والصبر والتدبر.
ومن الطرائف التي يذكرها، أن الجريدة نشرت في احد أعدادها بالخطأ صورة الملك فيصل الثاني، ملك العراق، بدلاً من صورة العاهل الأردني الملك حسين، مما استتبع تدخل الأمن وجمع الجريدة من السوق، بعد اكتشاف الخطأ غير المقصود.
عاد نور إلى القدس وعمل في المطبعة العصرية في باب الخليل المتخصصة في مجال الكتب المدرسية الحكومية، وأضافت له هذه التجربة الكثير في تطوير مهنته، ثم انتقل إلى مدينة الخليل، ليؤسس، كما يقول أول مطبعة فيها تحت اسم مطبعة المحتسب: "لم يكن لدى أصحابها أي خبرة في مجال الطباعة، وبسبب الثقة التي أولوني إياها، فإنني بذلت كل جهدي، وما زالت المطبعة تعمل حتى الآن".
وعندما لم يعد الراتب الذي كان يتقاضاه في الخليل، غير مناسب له، تقدم للعمل في مطبعة الجيش الأردني في منطقة العبدلي في عمّان، وقبلوه، ليراكم خبرات على خبرات.
وخلال عمله في مطبعة الجيش، تقدم بطلب للعمل في مطبعة في إمارة قطر، وسافر إلى الدوحة ليعمل في مطبعة حديثة، واحتك هناك بخبرات من دول مختلفة، وبعد سبعة أعوام من العمل، كان الحلم الذي رافقه، طوال مسيرته، يقترب من التحقق، فترك قطر، وعاد إلى فلسطين، ليحقق حلمه.
يؤمن نور، وهو من مدينة عانت من نزيف هجرة كبير، أن على ما يتغرب للعمل أو الدراسة، عليه أن يعود إلى وطنه، وهو ما فعله. وصل بيت لحم في عام 1966م، ولم يكن في ذهنه إلا تأسيس مطبعة، رغم علمه بالمصاعب التي ستواجهه.
يتذكر نور: "أسست مطبعة في مدينة بيت لحم باسم مطبعة بيت لحم، واستوردت من لبنان نحو 500 كيلو من أحرف الرصاص، وهي كمية مريحة للبدء في العمل، وخلال التأسيس، ولحسن الحظ علمت بان دير السالزيان، ينوي بيع مطبعته التي كنت أتردد عليها خلال تعلمي المهنة، فاشتريتها بمبلغ ألف دينار أردني، واود ان اذكر، أن كل المطابع التي عملت بها، والمطبعة التي أسستها، كنا نستخدم فيها تقنية تنضيد الحروف يدويا، أي أن كل ما كان يطلب منا من مطبوعات وأشكال، كنا نجهزها بواسطة أحرف الرصاص، أما الأسطر، فكانت بواسطة النحاس، وكل ما كنا ننتجه يخضع لقياسات متعارف عليها دوليا، وهي المسماة قياسات البنط، أي أقل من قياس ملم مرتين، وهذه القياسات تسمى: بنط، وسيسرر، واجرايف".
ويضيف: "عندما كنا نحضير الفورمات أو الأشكال المطلوبة للطباعة، نعيد كل قطعة استعملت إلى مكانها، وظل الوضع المرهق هذا على حاله، حتى اختراع جهاز الانترتايب والمونوتايب، التي بدلت تقنية تنضيد الأحرف".
تابع نور في مطبعته كل هذه التطورات على مهنته حتى اختراع الحاسوب، ويتذكر بأنه اشترى أول جهاز حاسوب بنحو خمسة آلاف دولار، الذي حل بدلاً من العمل اليدوي المرهق.
يتذكر نور: "في عام 1992 انتقلنا إلى طباعة الاوفست، وبقينا على ذلك حتى عام 1999م، حيث تسلم ولدي دافيد إدارة المطبعة، واستطاع خلال فترة قصيرة تجهيز المطبعة بأحدث الماكينات على جميع الأحجام، وعلى اختلاف أنواعها، مثل ماكينات الاوفست والديجتال، ونعتمد على موظفين أكفاء في التصميم، وننجز أنواع الطباعة كافة كالملونة والعادية".
يشعر دافيد نور بالفخر بوالده، ويفلسف مسيرته الحياتية، وسيرته المهنية، كمغترب قرر العودة، وتأسيس عملاً مستقلاً يعرفه جيدا، وواجه ظروف الاحتلال، بعد أشهر فقط من تأسيس المطبعة، ورفض المغادرة، وينظر إلى مهنة والده، كجزء من التاريخ الاجتماعي لبيت لحم، حيث طبع كل ما يخص دور السينما، والشركات، ومحاجر الحجر، ودعايات مرشحي البلديات، وغيرها من مظاهر نشاط اجتماعي واقتصادي.
ويحتفظ دافيد، بماكينات قديمة عمل عليها والده، ومنها ما يستخدمها حتى اليوم، إضافة إلى كل ما يتعلق بأرشيف المطبعة، وما كانت تستخدمه كأحرف الرصاص. هي إثبات على جهد صفّيف الأحرف الذي حالت ظروفه الاقتصادية، من إكمال تعليمه، فخط لنفسه سيرة عصامية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق