أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 22 أغسطس 2019

آخر من تبقى من (خلية القيامة) يتحدث






كان عمر اسحق مصطفى قُنيص، 14 عاما، عندما وقعت النكبة، فانضم إلى قوافل اللاجئين، تاركا قريته عين كارم غرب القدس، إلى مدينة بيت جالا.
ولم يكن أمامه إلا الانضمام لسوق العمل الرائج آنذاك في المدينة، وهو ما يتعلق بتشذيب الحجارة، المستخرج من المحاجر، وتجهيزها للبناء، فأصبح دقّيقا، بلغة أهل المهنة.
وبدأ عمله في محاجر الدهيشة، المعروفة بصخرها القاسي، الذي أُطلق عليه اسم مزي يهودي، ويميل هذا النوع من الحجارة إلى اللون الأزرق، وكان مرغوبا لتحمله الظروف البيئية المختلفة.
ويتذكر قُنيص، الذي قابله مراسلنا في منزله في مدينة بيت جالا، ما يصفه الإقبال الشديد على حجر الدهيشة، وتصديره خصوصا إلى العاصمة الأردنية عمّان، حيث كان يعمل مع زملائه في الورش المحلية هنا، لتجهيز حجارة البناء، لنقلها إلى عمّان، وكان ذلك خلال عامي 1953-1954م. ومن المباني التي شيدت بحجر الدهيشة، كما يذكر قُنيص، مبنى قيادة الجيش الأردني في حي العبدلي في العاصمة الأردنية.
وانتقل قُنيص، وهو من مواليد 1934م للعمل في محاجر إصْليّب، التي اشتهرت بحجارتها الحمراء، والتي صادرها الاحتلال بعد حزيران 1967م، وحولها إلى مستوطنة جيلو.
ولكن التجربة الأهم، بالنسبة لقنيص، هو عمله في كنيسة القيامة في القدس، ضمن فريق من الحجّارين الفلسطينيين، لمدة عشرين عامًا، ولم يبق على قيد الحياة منهم سواه، والمعلم شكري أبو الريش (أبو جورج).
يتذكر قُنيص: "كنت أوّل من عمل في كنيسة القيامة مع زميل لي من بيت جالا هو حنا سابا، وكان ذلك في 16-10-1962م، وبدأنا العمل، بإزالة الحجارة التالفة في الكنيسة، ووضع بدلا منها، حجارة أخرى، بعد دقها وتهذيبها، ثم أتى آخرون للعمل، ومعظمهم من بيت جالا من بينهم: نخلة قيسية، وجريس زيدان، وشكري موسى، ونقولا مطلق، ويعقوب عيد، وعايد العلم".
عمل الحجارون في كنيسة القيامة، وعلى رأسهم المعلم جريس نسطاس، ليس فقط في الترميم، ولكن أيضا في تجهيز الكتل الحجرية المستخرجة من محاجر أم الشرايط في مدينة البيره، كرؤوس وقواعد أعمدة.
ويسمى الحجر المستخرج من محاجر أم الشرايط، بالحجر الملكي، ومن ميزته ليونته، وقربه من الحجارة في كنيسة القيامة.
كان قُنيص، كما يقول، ليس فقط أوّل من عمل في كنيسة القيامة ولكنه آخر من ترك العمل، بعد عشرين عاما ونصف.
يقول قُنيص: "تركت العمل، لانتهاء الأشغال وذلك في شهر نيسان 1983م، وعندما بدأت كنت أتقاضى دينارا أردنيا واجدا في اليوم، وعندما غادرت، كنت أتقاضى أربعة دنانير".
ويتذكر قُنيص، كيف تلقوا خبر اندلاع الحرب عام 1967م، وغادروا الكنيسة، إلى بيت لحم، سالكين طريق وادي النار الوعرة، مشيا، ولم يحصل انقطاع عن العمل إلا لأيام قليلة، عاد بعدها إلى رحاب كنيسة القيامة، ليدق الحجارة، وعندما يحين موعد الصلاة، يتجه إلى مسجد عمر بن الخطاب القريب، ليؤدي صلاته، ويقفل عائدا إلى الكنيسة، ليكمل عمله.
طوال فترة عمله في كنيسة القيامة، اشتغل قُنيص مع الروم الأرثوذكس، تحت توجيهات مهندس يوناني مختص، بينما عمل قسم آخر مع اللاتين، وقسم آخر مع الأرمن، وقسم رابع في المكان المشترك بين الطوائف في الكنيسة، ولكل مجموعة من الحجارين، مهندس ومراقب.
ولكن هناك من عمل مع جميع الطوائف، كما حال جريس نسطاس، كما يؤكد ابنه جورج، وهو متخصص في الفنون، والذي يشيد بالدور الذي اضطلع به الحجارون، خلال عشرين عاما في كنيسة القيامة.
ويتذكر قُنيص، باحترام، زميله المعلم جريس نسطاس، قائلا: "كان المعلم جريس، فنانا في عمله، ونحاتا، وأبرز أفراد الفرق التي عملت في كنيسة القيامة، وتركز عمله في الكورنيش، ورؤوس الأعمدة، التي تحتاج إلى موهبة وعناية خاصة، وحرفية لافتة".
ومن أبرز أعمال قُنيص في كنيسة القيامة، كما يقول: "عملت على عمودين في منتصف الكنيسة، طول العمود ثلاثة أمتار، وحفرت الكورنيش اللولبي على كل منهما، واستغرق العمل، على كل عمود، شهرين، وتتبعت ما رسمه لي المهندس، واكتشفت خطأ للمهندس في تفصيل معين، فبادرت وغيّرت، وسرت على التتابع السابق، وجاء من شكاني للمهندس، الذي عندما علم ما فعلت، أثنى على عملي".
من الأدوات التي استخدمها قُنيص: شاكوش، ومطبة، وازميل، وشوكة، وشاحوطة، والأخيرة تستخدم للحجر اللين، بعكس المطبة التي تستخدم للحجر القاسي.
وبعد الاحتلال، عمل قنيص، وأعضاء في الفريق، لفترات متفرقة، في باحة دير مار الياس قرب بيت لحم، أو في كنيسة المصلبة غرب القدس، لتجهيز الأعمدة والحجارة، ثم نقلها إلى كنيسة القيامة، وهذا أسعل لطبيعة العمل.
وعن الفرق بين الدقّيق الحالي، والسابق يقول قُنيص: "في السابق كان الواحد منا يستلم كتلة الحجر كما هي، مجرد دبشة، أما الآن، فان الدقّيق يستلمها بعد نشرها على المنشار، وجاهزة للتشذيب".
عندما يذهب قُنيص إلى الصلاة في المسجد الأقصى حاليا، يقصد كنيسة القيامة، ويجلس في باحة نصف الدنيا في الكنيسة، متأملاً عمله، وعمل زملائه.
يقول قُنيص: "أحن لتلك الأيام في الكنيسة، والتي اعتبرها الأهم والتي ما زلت أذكرها، في مسيرتي المهنية، في الواقع أكاد لا أذكر إلا هي".
عندما خرج قُنيص، من قريته عام النكبة، اعتقد مثل الآخرين، بأن الأمر لن يستغرق سوى أسبوعين، وسيعود، ولكن السنوات كرت، وعاد إلى قريته، زائرا، ليتفقد منزل العائلة، الذي تقطنه عائلة يهودية، ولكن رب العائلة التي استولت على المنزل، لم يسمح له بالدخول، وإلقاء نظرة على المنزل الذي ولد ونشأ فيه قُنيص.
يقع منزل قُنيص في وسط عين كارم، قرب الكنيسة اللاتينية، ويتذكر تفاصيل الحياة اليومية المزدهرة في قريته، حيث عاش المسلمون والمسيحيون، ونسجوا علاقات استمرت بينهم حتى الآن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق