أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 20 أغسطس 2019

قراءة في التجربة الروائية لأسامة العيسة/حسن قطوسة



كلمة لا بد منها
الرواية قضية كبرى وموقف من العالم والحياة، وأي نص لا يتمترس خلف قضية إنسانية أو جمالية أو فلسفية أو وجودية لن يكون أكثر من ثرثرة عابرة لن يكترث بها نهر الحياة المتدفق أو همهمات المارة في الغدو والآصال، وهذا ما أدركه أسامة العيسة قبل أن ينزف حرفا واحدا في صفحة السرد الفلسطيني في هذا القرن، إذ قرر وعن سابق إصرار وترصد أن يكتب تاريخ الفقراء والمهمشين الذين تجاهلهم التاريخ الرسمي ومؤسساته البيروقراطية وكتبة التنظيمات والفصائل، وهذا ما منح نتاجه الأدبي قوة وعنفوانا وقاعدة واسعة من القراء والمتابعين وهم الأكثرية.
عن الكاتب
صحفي يقيم غي بيت لحم وخبير في الآثار ينحدر من قرية زكريا المهجرة، تعانق هذا الثالوث في بناء عالمه الروائي وتشيده (حيث طغى أسلوب التقرير الصحفي في قلم الخبير بالآثار والأساطير في محاولة لقراءة الظواهر من جذورها وفي حس الأسطوري الذي تعاقب على بناء المكان) 
البناء الروائي عند أسامة العيسة
لقد استطاع العيسة أن يؤثث عالمه الروائي بمداميك من التاريخ والجغرافيا والأسطورة والفولكلور والأغاني الشعبية والتراثية والعادات والتقاليد في كل المراحل التاريخية التي تناولها في مسيرة قلمه المتدفق بلا حدود ليشكل بهذا اسما أدبيا وظاهرة ثقافية يجدر بأي دارس أو قارئ حساس للأدب الفلسطيني أن يلتفت لها مليا.
أظن أني قد أتيت على كل نتاج العيسة الروائي (قط بئر السبع، المسكوبية، مجانين بيت لحم، قبلة بيت لحم الأخيرة،نهر على جسر الأردن، وردة أريحا)
وسأحاول في المقال أن أمسك بالخيط الرفيع الذي يجمع هذه الروايات وأن ألقي الحمولة الجمالية والمعرفية التي خزنتها هذه الروايات في بهو الروح اللولبي.
لا يكتب العيسة رواية التخيل التاريخي أو التأريخ ولا يسعى بأن يكون من كتاب هذا النوع من الرواية ويرفض هذا التصنيف لرواياته رغم محاولة البعض إدراجها في هذه الرواية، إلَّا أنه مهووس بالتاريخ والمكان عندما يصرّ في كل مكان أن يرجع للجذور والأساس وأصول التسمية في محاولة منه لدحض الرواية الصهيونية ولتجذير الهوية (كتب عن أحمد عبد العزيز البطل المصري الذي شكّل قوات لقتال الصهيونية قبل النكبة وفجر الوكالة اليهودية في القدس ولم يبق منه إلا شاهدة قبر مهجور في أراضي بيت لحم، وتحدث عن جبل النبي يونس وسبب تسميته المرتبط بأسطورة قذف يونس من بطن الحوت في هذا الجبل، وعن عين أيوب التي أسكن قربها ولم أنتبه لها، وعن شهيد من قرية دير بزيع، وعن المسكوبية التي كانت معسكرًا للجيش الروسي وعن نهر الشريعة والمعارك التي جرت فيه ،وعن مجزرة قبيا التي أحرجت الجيش الأردني قبيل النكسة وعن عذابات الأسرى في غياهب السجون وعن بيت لحم وكنائسها وجبالها وأوديتها ومخيماتها وعن التلحمي الذي قاتل مع جيفارا وعن مؤسس أوَّل دار سينما وعن المجانين وتاريخ في الدهيشة فهناك السياسي المهزوم والعاشق الخائب وعن جامعي الضرائب والأعراس وأسماء الريح والمطر وعن قط بئر السبع الذي شكل حاملا إنسانيا للأسرى ومأزقا لإدارة السجن وعن نهر الأردن والقبائل التي مرت به والمعارك التي جرت قربه والجيوش التي عبرت به إلينا، ولست في وارد سرد الموضوعات التي تناولتها رواياته بقدر إصراره على الغوص في جذور المكان وهويته، فتحس أن للحجارة تاريخ وهوية وشهادة ميلاد وشرعية مستمدة من المكان وكذلك لأناس هذا المكان وتقلب الدول عليهم وتحولاتهم عبر الزمن، وهذه مساحة أغفلها التاريخ الرسمي ومؤسساته وكتبة الظروف الطارئة، وقد أحسن اختيار هذه المساحة التي تتيح له مادة حكائية ثرية)
يقول درويش (من يكتب حكايته /يرث أرض الكلام ويبلغ المعنى تماما) وقد بلغ العيسة المعنى عندما أنحاز للفقراء الذين عبدوا بأجسادهم جسر العبور للقوافل والجيوش، من كان يظن أن هناك رواية ستكتب عن مجانين بيت لحم التي كانت محل نكتة وتندر لنا في أحايين كثيرة، من كان يتوقع أن يرفع العيسة هؤلاء المجانين المهمشين لمصاف الحكايات العظيمة، لقد كتب عن هؤلاء المجانين وانفعالاتهم وتاريخهم الثوري والعاطفي الذي يختصر البلاد بوجعها وامتدادها، وانتقد اليسار الفلسطيني وانكساره في روايته (قبلة بيت لحم الأخيرة) عبر تحولات المكان في هذه المدينة التاريخية التي تفوح بعبق التاريخ وتتغلب على مكر الجغرافيا (كي تكونوا عالميين كونوا محليين)، فالسحر موجود في أدق التفاصيل الصغيرة التي تحيطنا .
روايات العيسة لا تكاد تخلو من أغنية شعبية أو موَّال حزين أو أنشودة قومية لقد استطاع مزج كل هذه المكونات في بوتقة سحرية كقطعة الناس التي ترفه عين المبصر في متحف بعيد
الآن سأجمل خطاب كل رواية على حدة
قط بئر السبع (تنتمي لأدب السجون وتختلف عنه في نفس التوقيت، قط يدخل للأسرى فيحتووه ويعتنوا به مما شكل إحراجا لإدارة السجن التي تعلن حالة التأهب القصوى لإخلاء هذا القط، الانتصار على السجان معنويا وتاريخيا فحتى القطط كنعانية ولا تدين للطارئ بالولاء)
المسكوبية (يبدو أن العيسة لم يستنفد حكايته في السجن، فحاول رصد تحولات الحركة الوطنية من خلال كوكبة من السجناء والمعتقلين في سجن كان معسكرا للجيش الروسي)
روايات السجن عند العيسة مفتوحة النوافذ تستقبل الهواء الرطب وتتغلب على كل قولبة مما منحها  نسغ الحياة.
مجانين بيت لحم (خطاب المهمشين والبسطاء الذي أغفله التاريخ الرسمي)
قبلة بيت لحم الأخيرة (تحولات المكان ومحاكمة اليسار الفلسطيني سرديا)
نهر على جسر الأردن (حكاية جندي مجهول لم يقاتل)
وردة أريحا (جريمة قتل تفكك حكايا أهل المكان وتحولاته)
لا أزعم أني أتيت بالكلمة الفصل في هذا المقال وربما يضيق هذا الفضاء بالحديث عن النتاج الأدبي للعيسة، وما أردت إلا الإشارة لهذا الرجل وأدبه.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق