أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 4 سبتمبر 2016

العطر البيزنطي الفائح منذ 1500 سنة..!




















كان على الدكتور عيسى الصريع مدير معهد الآثار في جامعة القدس"/ أبو ديس، أن يختبر ما أخبره به أحد السكان المجاورين لخربة الكرمل، جنوب مدينة يطا بنفسه.

لطالما قال له صديقه قاسم بان رائحة عطرية نفاذة تخرج من كسر البلاط والرخام التي يتم استخراجها من الموقع المعروف باسم القصر في الخربة، وكان ذلك يحير الصريع، وعندما بدأ حفريات أثرية الأسبوع الماضي في الخربة، فوجيء برائحة العطر النفاذة التي استمرت أكثر من ساعتين، إلى درجة شك بان أحد طربه من الذين يعملون في الحفرية يخبيء زجاجة عطر، ولكنه تأكد أخيرا من أن العطر مصدره الرخام في الخربة.
قال الصريع وهو يقف بجانب أعمدة من الرخام وتيجان أعمدة استخرجت حديثا من الخربة: "شيء لا يصدق، رائحة عطر مستمرة منذ 1500 عام".
ليست هذه المرة الأولى التي يقود فيها الصريع حفرية أثرية في الخربة، التي اضطلعت بدور تاريخي هام في عصور غابرة باعتبارها ملتقى طرق تجارية مهم في فلسطين وبينها وبين شرق الأردن، والنقب، ومصر، ففي العام الماضي قاد حفرية، وزرته في الموقع، ونشرت الحياة الجديدة تقريرا عنها.
ولكن هذه المرة بدأت الأمور مبشرة أكثر من المرة السابقة فقبل الانتهاء من الحفرية بيوم، ظهرت أرضية فسيفسائية في غاية الجمال، شكلت تعويضا مهما عن تعب الصريع وفريقه.
فسيفساء نادرة
يقول الدكتور الصريع: "حفريتنا في الموقع هي حفرية تدريبية لطلبة جامعة القدس، فتحنا مربعين شرق الموقع، كل مربع فيه رواق، الرواق الأيمن والرواق الأوسط، عثرنا في حنية الرواق الأيمن على سجادة فسيفسائية، تعود لبداية السكن في المكان، مع إنشاء الكنيسة أواسط القرن الرابع الميلادي.
السجادة الفسيفسائية التي تم العثور عليها أبعادها 155سمx 155سم، كما قاسها إبراهيم قطيط مختص الرسم الأثري في جامعة القدس، وحولها بتلات.
يقول الصريع: "وجود مثل هذه السجادة الفسيفسائية بكل هذا الجمال، في هذا المكان الذي يشكل ملتقى للطرق التجارية، يشير إلى اننا أمام موقع قد يكون أكبر من أن يكون كنيسة محلية، وإنما قد يكون ديرا".
أما قطيط الذي بدا مشغولا في رسم الفسيفساء فيقول: "عملنا مخطط مساحة للمكان، وتقسيمه لشبكة المربعات، بحيث يكون كل مربع ينزل فيه طلابنا معروف إحداثياته، ومنسوبه عن سطح البحر، لم ينته العمل بعد، ولكن المعطيات الأولية تشير إلى غنى المكان، ولجودته ومحتواه الايجابي للمسار التعليمي للطلاب، والى بقايا معمارية ذات قيمة تاريخية مستواها عال جدا في الإتقان، من الأمور المبهرة التي ظهرت في الغرفة الجنوبية الشرقية الأرضية الفسيفسائية التي قد يكون نموذجها نادرا في شرق الخليل، لأول مرة يظهر معنا مثل هذا"
وصل إلى الموقع عماد دودين المختص بترميم الفسيفساء في وزارة السياحة والآثار، ليشرف على ترميم السجادة الفسيفسائية، التي اعتبرها مهمة: "هذه الفسيفساء مصنوعة من الحجارة المحلية الملونة الموجودة في مدينة يطا، ومن المرات النادرة أن نعثر على قطع فسيفسائية بهذه الجودة والكمال، وبدون تدمير، ورغم حالتها الجيدة، فهي بحاجة إلى تدعيم، باستخدام مواد ملائمة للحفاظ عليها حتى الانتهاء من اكتشاف الموقع وتأهيله، للزيارة ولاستقبال السياح والحجاج من فلسطين وخارج فلسطين".
وأضاف دودين: "التقنية المستخدمة في صنع السجادة الفسيفسائية مبهرة، وعموما هي بحاجة لدراسة، ومقارنتها بفسيفساء في مواقع أخرى، يحيط بها برواز معروف باسم الجدلة، وهو موجود في القطع الفسيفسائية التي تعود للرومان والبيزنطيين، والعصور الإسلامية المبكرة، وفي المنتصف يوجد جدلة متداخلة، وهي عبارة عن مربعات وبراويز هندسية، ولا يوجد فيها تعابير بشرية أو دينية".
تحطيم الأيقونات
ليس فقط وجود السجادة الفسيفسائية ميزت الدير، كما يقول الصريع، ولكن وجد الفريسكو، الذي شكل غنى للدير ويدل على اهتمام الرهبان بتزينه.
يقول الصريع: "وجدنا في الرواق الأوسط، بقايا فريسكو، لكن الأهم كشفنا عن وجود مستويين، المستوى البيزنطي المبكر، والمستوى البيزنطي المتأخر، الذي يشهد على حركة تدمير الأيقونات، وهذا شيء مهم جدا. يظهر انه في الوسط تم  تدمير الفسيفساء وصنع فسيفساء مختلفة وخشنة وأكبر حجما، مما يدل على انه وجد هنا شيء، وعثرنا على بقايا كثيرة من الفسيفساء الصغيرة الملونة في هذا المكان، وعلى الأغلب بعد فترة معينة، حاول الرهبان تخبئة أيقونات في القبو، ولكن الأمطار والعوامل الأخرى، إذابتها".
وردا على سؤال حول اختلاف هذه الحفرية عن حفرية العام الماضي، يقول الصريع: "في العام الماضي، عملنا قريبا من القصر، الذي قد يكون قلعة صليبية في الطابق العلوي، أما فيما الطابقين الأول والثاني فهو بناء تابع للدير البيزنطي على الأرجح، ولكن لم يتم التأكد من ذلك، حفرنا في المنطقة الخارجية وكشفنا عن فسيفساء، وأروقة البناء، وارتباط البناء مع الكنيسة، وهذا يدل على أن الطابق الأول بُني في فترة بناء الكنيسة وليس لاحقا، أما الطابق الأخير فبني في فترة متأخرة كما يظهر من الدلائل الشكلية. لم نعمل حتى الان في المنطقة الداخلية، حتى يكون لدينا فكرة عن تاريخ البناء، لكننا وجدنا قطع عملات تعود للفترة، وسراجين أمويين، وفخار يعود لنفس فترة فخار خربة المفجر، والسؤال: هل ظل الموقع مستخدما كدير في العهد الأموي، وهل طبيعة الفخار جزء أساسي من حركة النقل من بادية الشمال، ومنطقة جنوب الخليل، مع الكرك والأردن؟".
هذا سؤال، يستلزم بحثا، وعودة إلى مكتشفات الحفرية الحديثة، أطلعنا الدكتور الصريع على عمودين من المرمر المستورد، أحدهما عليه كتابة يونانية، والثاني حفر عليه صليب، وعلى مجموعة من تيجان الأعمدة.
يقول الصريع: "لم نقرأ حتى الان الكتابة اليونانية، واعتقد ان العمودين لهما علاقة بالمذبح، أما بالنسبة لتيجان الأعمدة فهي مصنوعة من الحجر الجيري".
ما هو مصير السجادة الفسيفسائية وباقي الحفرية؟ يقول الصريع: "وعدتنا البلدية العام الماضي، بتسييج الموقع، ولم يُسيج حتى الان، جزء من الموقع تهدم، وتم حرق إطارات كاوتشوك وزبالة. بعد أن انهي الحفرية سأعاود طمها لحمايتها، لعدم وجود حماية من البلدية ووزارة السياحة والآثار، وستكون عملية الطم بطريقة مهنية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق