أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأربعاء، 21 أغسطس 2013

زوربا، مَن حوّل الموت إلى رقصة


زوربا اليوناني، واحد من أبطال الروايات النادرين الذين، يكونون شخصياتهم المستقلة، ويحظون بشهرة، وتطلق أسماءهم على المواليد الجدد، وتتحرك سيرهم بين الناس، الذين لا يعرفون، في معظم الأحيان مؤلفيها، أو من أي كتب ...نهضت هذه الشخوص، بعد أن اكتسيت باللحم ونفخ الدم في عروقها.
وبالنسبة لزوربا، فكان له حظ مضاعف، مع تجسيد الممثل انطوني كوين (1905-2001)، لشخصيته على الشاشة الكبيرة، في فيلم من انتاج عام 1964، ولكن وكما أفاد كوين، زوربا، فانه من الصعب إنكار دور الأخير على كوين، الذي أضافت شخصية زوربا له فنيا وشهرة. وفي مثل معظم الأعمال المأخوذة عن روايات، تبقى الأفضلية بالنسبة لكثيرين، لشخصية زوربا الروائية، التي خلقها، الروائي اليوناني نيكوس كازنتزاكس. في مذكراته (تقرير إلى جريكو) التي نقلها إلى العربية، الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، يتحدث كازنتزاكس عن زوربا، وعن اصل تلك الشخصية، التي أصبحت، منذ سنوات، علما عالميا.

عذرية دائمة
حدد كازنتزاكس، عددا من الذين اثروا في حياته، وهم: هوميروس، وبوذا، ونيتشة، وبيرغسون، وايضا زوربا. وأشار إلى تأثير كل شخصية من هذه الشخصيات عليه، في جانب معين، ومنها زوربا الذي "علمني أن أحب الحياة، وان لا أخاف من الموت". وقال انه لو أن سؤال العمر كان مطروحا أمامه، حول اختيار دليل روحي، لاختار بدون تردد زوربا، لماذا؟، لأنه تمتع بأشياء كثيرة ذكرها كازنتزاكس، ربما أهمها، أن زوربا "كان يرى كل شيء باستمرار وكأنه يراه للمرة الأولى، وانه يمنح العذرية إلى العناصر اليومية والأبدية: الهواء، والنار، والمراة، والخبز". وأضاف كازنتزاكس "..وحين أتذكر أي غذاء قدمه المعلمون والكتب، عبر سنوات طويلة، لنفسي الجائعة، ثم أتذكر أي عقل أسديّ صلب منحني زوربا خلال عدة اشهر فقط، عندها أجد صعوبة فائقة في تحمل المرارة والغضب اللذين أحس بهما". ينحدر زوربا من قرية على جانب جبل الاولمب، تعرف عليه كازنتزاكس عندما تشاركا في مشروع مقلع للغرانيت، ولكن المشروع ذهب هباءا، وتبدد في عشق زوربا للحياة ورقصته الشهيرة على شاطيء المتوسط، وعزفه على آلة السانتير. وبعد أن افترق كازنتزاكس وزوربا، توجه الأخير إلى صربيا، باحثا هذه المرة عن المنغنيز، وجمع حوله ممولين لمشروعه، وشغل عمالا وفتح أنفاقا تحت الأرض وتزوج أرملة. حجر اخضر
وبينما كانت نذر الدمار تخيم على العالم، بسبب الحرب العالمية الثانية، أرسل زوربا برقية لصديقه القديم كازنتزاكس، يدعوه فيها للقدوم، في رحلة تستغرق ألف ميل لرؤية حجر اخضر، عثر عليه زوربا.
ولكن كازنتزاكس، المشغول بمصير البشرية، اعتبر دعوة زوربا استهتارا بالإنسانية، فلم يذهب، وارسل معتذرا، ووصلته برقية جوابية من زوربا "سامحني لاقتراحي يا ريس، أنت لست أكثر من حامل قلم. كانت أمامك فرصة العمر لكي ترى حجرا اخضر جميلا. لكن لم تره. اقسم بالله إنني أحيانا، حين لا يكون لدي ما افعله، اجلس وأسال نفسي: أهناك جهنم أم لا؟ لكنني البارحة، حين استلمت رسالتك، قلت لنفسي لا بد من وجود جهنم لاستقبال حملة الأقلام".
وتواصل كازنتزاكس مع زوربا الذي لم يكف عن إرسال البرقيات له، كلما سنحت ظروف تلك الأيام التي تتمدد فيها دول وتتقلص أخرى، ومنها برقية عن زوجته "لم أزل أحيا. البرد قارس هنا بشكل جنوني ولذا تزوجت. اقلب البطاقة لترى وجهها الصغير. قطعة ممتازة أليس كذلك؟ إن بطنها منتفخ قليلا لأنها تعد لي فيه زوربا داكي صغيرا. اسمها ليوبا. والمعطف المصنوع من جلد الثعلب الذي ارتديه هو من مهر زوجتي. سلالة غريبة هؤلاء الناس. لقد أعطتني، أيضا، سلسلة فيها سبعة خنازير. حبي وقبلاتي. الكسي زوربا: الأرمل سابقا".
وفي إحدى المرات أرسل زوربا لكازنتزاكس قبعة مزركشة تحتوي على جرس في رأسها ومعها كلام "البسها يا ريس حين تكتب هذا الهراء الذي تكتبه. إنني البس قبعة مشابهة حين اعمل. والناس يضحكون مني ويسألونني: هل أنت مجنون يا زوربا؟ لماذا تحمل هذا الجرس؟ لكنني ارفض أن أجيبهم، نحن، كلانا فقط نعرف لماذا نلبس الجرس يا ريس".
موت ولعنة
وبعد اشهر جال فيها كازنتزاكس في قرى كريت، عاد إلى بيته، ليجد رسالة في انتظاره "أنا أستاذ القرية. وإنني اكتب لأخبرك بالنبأ المؤسف. وهو أن الكسي زوربا، الذي كان يدير منجم منغنيز هنا، قد توفي يوم الأحد الماضي في الساعة السادسة مساء. دعاني في نزعه الأخير وقال لي: تعال قربي يا أستاذ. لدي صديق في اليونان. حين أموت اكتب له واخبره بموتي، وبأنني ظللت مالكا لقواي العقلية حتى النهاية. وإنني كنت أفكر فيه. وإنني مهما كان ما فعلته فإنني لست آسفا على شيء. قل له إنني أرجو له الخير وانه قد حان الوقت له أن يضع عقله في رأسه. وإذا جاء أي قس ليستمع إلى اعترافي ويمنحني الغفران قل لذاك القس انه يستطيع أن يكون فريد زمانه، ويستطيع أن يمنحني لعنته! لقد فعلت هذا الشيء أو ذاك وأشياء أخرى في حياتي. لكنني لم افعل إلا القليل. الناس الذين يشبهونني يجب أن يعيشوا ألف سنة. عمت مساء".
وما أنهى كازنتزاكس البرقية حتى تمتم لنفسه وسط الدموع "راح زوربا. راح إلى الأبد. ماتت الضحكة. وانقطعت الأغنية. وتحطم السانتير. وتوقفت الرقصة على حصى الشاطيء. والفم الذي كان لا يهدأ عن طرح الأسئلة أصبح الان مليئا بالتراب. ولن توجد أبدا بعد اليوم يد تلاطف الحجارة والبحر والخبز والنساء".
واخذ يصرخ "أرواح كهذه يجب أن لا تموت. هل في وسع الأرض والماء والنار والحظ أن تعيد تشكيل زوربا أخر؟".
يكتب كازنتزاكس "لم استطع أن أغمض عيني طوال الليل. وراحت الذكريات تتلاحق. كل منها تزحم الأخرى. فيتصاعد القلق والإعياء إلى راسي كأنما في محاولة لتجميع زوربا من جديد من الهواء والتراب والحفاظ عليه من الضياع. حتى اصغر الحوادث المتعلقة به بدأت تتوهج وتتسارع وتزداد مكانة في الذاكرة مثل سمكة ملونة في محيط شفاف تخترقه أضواء الصيف. لم يمت منه شيء في أعماقي. وبدا لو أن كل شيء لمسه زوربا قد أصبح خالدا".
ويضيف "طوال الليل ظللت أفكر. ماذا أستطيع أن افعل لكي اطرد الموت –موته- مني؟ وانفتح الباب في أعماقي. وتقافزت منه الذكريات تدعو إحداها الأخرى كي تغفو على قلبي. وبدأت تحرك شفاهها لتدعوني أن اجمع زوربا من التراب والبحر والهواء وان أعيده للحياة. الم يكن هذا واجب القلب؟ الم يخلق الله القلب لهذا الغرض بالذات: أن يبعث الأعزاء ويعيد اليهم الحياة؟ ابعثه!". وظل كازنتزاكس، في فراشه حتى اخترقته شمس الربيع، وأبانت عن منحوتة، كان والده علقها فوق رأسه "هذه المنحوتة قد كشفت لي سر حياتي ببساطة مدهشة. وربما أنها كشفت لي سر زوربا أيضا. كانت نسخة من حجر منحوت على قبر، تحتوي على محارب عار لم يتخل عن خوذته حتى وهو يموت. وكان المحارب راكعا على ركبته اليمنى، وهو يعتصر صدره بكفيه، بينما ترفرف بسمة هادئة على شفتيه المطبقتين. كانت الحركة البهية لهذا الجسد المتين من نوع يجعلك تحار فيما إذا كانت الحركة حركة استسلام للموت أو حركة في رقصة. أم لعلها رقصة وموت معا؟".
ويضيف كازنتزاكس "حتى لو كان الموت يجب أن نحوله إلى رقصة".
وانبعث زوربا الذي حول الموت إلى رقصة، في رواية، يحلو للكثيرين وصفها بالخالدة. ولكن لم يكن الانبعاث سهلا ابدا

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق