أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 1 أغسطس 2013

‏هنا..محطة قدس شريف



تحافظ محطة قطار القدس العثمانية، على بهائها، رغم مرور العقود، والتغيرات الدراماتيكية التي عصفت بالقدس وبها. والتدمير الذي لحق بأجزاء منها، وتغيير وظيفتها.

وما زالت المحطة، تحتفظ باسمها العثماني (قدس شريف) على واجهتها الشمالية، التي تنتصب كالفنار، لتعلن عن ذلك المشروع الكبير، بربط القدس بمدينة يافا، هذه المرة عن طريق القطار، وفي جغرافية من المسارات الحادة، والمتعرجة لم تكن مواتية.

تقع محطة قدس شريف، على مشارف سور البلدة القديمة الغربي، وكان على مهندسي سكة الحديد، ان يختبروا ليس فقط خط السير في أرض "بِكر"، ولكن أيّضا اعتداءات قطاع الطرق، وهو ما تم علاجه في وادي النسور مثلا، بالدفع لشيوخ المنطقة، من أجل حماية الخط الذي يمر ويجاور قرى عديدة، بعد خروجه من أحياء القدس الجديدة التي ظهرت لاحقا، إلى ببت صفافا، والمالحة، والولجة، وبتير، ودير الشيخ، ودير بان، وزكريا، وبيت نتيف، وخلدة، والرملة، وغيرها، معيدا رسم خارطة جغرافية جديدة لهذه الحواضر التي استوطنها العرب على بقايا حضارات قديمة، صاغت طبيعة الإنسان الفلسطيني.

بدأ العمل في سكة حديد القدس-يافا، في 31 آذار 1890، وفي 26 أيلول 1892، سار أول قطار، من القدس إلى يافا، البوابة البحرية للمدينة المقدسة. على سكة بطول 82 كم. ووصل يافا في نحو 3ساعات و50 دقيقة. قاطعا 11 محطة.

تجمع الناس في القرى التي مر بها القطار، للتعبير عن فرحهم، بهذا الذي الذي يتلوى كالأفعى بين جبالهم وأوديتهم، خاصة وادي الصرار المهيب. وتدفق آخرون لرؤية وصوله إلى يافا.

وشارك في حفل التدشين ممثلون عن الحكومة العثمانية في استنبول، وكبار المسؤولين والأعيان، وممثلون عن الدول الأجنبية، وكبار مسؤولي الشركة الفرنسية التي أنشأت خط سكة الحديد.

وبالإضافة الى ما أحدثه تدشين الخط الحديدي، الذي ربط عمليا بين الساحل الفلسطيني، والهضبة الفلسطينية الوسطى، التي تسمى الان الضفة الغربية، من نقلة في حياة الفلسطينيين، على صعيد سهولة الحركة والتنقل بين المدينة المقدسة ومدن الساحل، فانه كان له أثر مهم، على صعيد المستقرات البشرية التي يمر منها الخط الحديدي، وإحداث مستقرات جديدة، وهو ما يمكن لمسه في جنوب-غرب القدس، خصوصا في سهل البقعة، الذي يقع بين جبل القطمون وخط سكة الحديد الحديثة، والذي تحول الى أحد أهم أحياء مدينة القدس الجديدة.

على متن القطار، وصل محطة قدس شريف، شخصيات لعبت أدوارا محلية وإقليمية، وليس من باب المبالغة، ربط تاريخ المحطة بالتغيرات السياسية التي عصفت بالمدينة وفلسطين.

في عام 1898م مثلا، وصل الصحافي النمساوي القدس، ليقابل الامبراطور الألماني غليوم وأخذ دعمه لتوطين اليهود في فلسطين. غليوم الذي وصل القدس بعربة، غادرها من محطة قدس شريف، مكملا رحلته الشامية.

وفي عام 1914، نزل في محطة قدس شريف، البارون روتشيلد، واحد من اكبر ممولي الاستيطان اليهودي في فلسطين، وفي اب 1935، وصلها الامير سعود، الذي خاطبه الشاعر عبد الرحيم محمود متسائلا بحرقة:

المسجد الأقصى أجئت تزوره  أم جئته قبل الضياع تودعه؟

وفي عام 1936، كان اللورد بيل، رئيس اللجنة الملكية البريطانية في التحقيق في أسباب الثورة الفلسطينية، يستمع لشهادات الفلسطينيين. وفي نفس العام، حط الامبراطور هيلاسيلاسي، في محطة قدس شريف. فارا من الاحتلال الايطالي للحبشة. وفي سنة 1946، وصلت اللجنة الانجلو الأمريكية برئاسة القاضي هاتشسون المحطة، للتحقيق وإصدار توصيات ظالمة لعرب فلسطين.

أهمية المحطة، لم تقتصر على بالفلسطينيين، ولكن ايضا لها علاقة بالنشاط الصهيوني المبكر في القدس وفلسطين، وتتمسك الحركة الصهيونية بأطروحة ان مدّ خط سكة حديد بين القدس ويافا، كانت فكرة لموشيه مونتفيوري، الذي موّل انشاء أوّل حي يهودي غرب القدس، طرحها عام 1839، بعد إقامة أوّل قطار جمهوري في بريطانيا.

الحركة الصهيونية، تنظر إلى سكة حديد القدس-يافا، بارتباط مع الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين، من تنقل اليهود، واستقبال المهاجرين الجدد منهم ونقل بضائع، ووصول ضيوف، إلى التدمير الذي لحق بمحطات للقطار على يد العصابات الصهيونية، إبان الانتداب البريطاني. وألحق اضرارا بالمحطة نفسها نتيجة تفجيرها من قبل العصابات الصهيونية يوم 30 اكتوبر 1947

بعد عام 1948، تحولت سكة الحديد، في المناطق التي تمر منها، الى خطوط الهدنة، ويبدو ان ما خُط بالعربية قدس شريف، والقدس بالإنجليزية، كان يزعج الحركة الصهيونية، فتم إضافة (اورشليم) بالعبرية، تحت البلاطتين العربية والانجليزية.

دخلت المحطة، مرحلة جديدة من تاريخها، عندما نزل فيها دافيد بنو غوريون، أوّل رئيس لدولة إسرائيل الوليدة، مدشنا أوّل قطار إسرائيلي يوم 7 اب 1949م، والقى بن غوريون خطابا في المحطة التي أصبح يشار إليها بمحطة الجيرمني، نسبة لحي الجيرمن كولوني بجوارها.

في 15 تموز 1988، غادر القطار المسائي محطة قدس شريف، ليكون اخر قطار يغادر المحطة، التي أوقفت حكومة الاحتلال العمل بها، لإجراء اصلاحات على خط سكة الحديد القدس-يافا، وعندما تم اعادة العمل على الخط في عام 2005، نقلت محطة القدس إلى قرية المالحة، وحولت بلدية القدس الاحتلالية، المحطة ومبانها، للاستخدام في معارض فنية وثقافية، وترفيهية، وتجارية.

وتركت البلدية بعض الغرف بدون ترميم، في حين أزالت قسما من سكة الحديد، وكومته بشكل فوضوي، وفي وقت ما، تم الاعتداء على جملة (قدس شريف) بالعربية. وهذا ليس الا نزرا يسيرا من حكاية محطة قدس شريف، التي كانت اكثر من محطة قطار. في مدينة، ليست مثل كل المدن.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق