وضع
الباحث المعروف فراس السواح كتابه (الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم) لمحاججة الراحل
الدكتور كمال الصليبي صاحب نظرية (التوراة جاءت من جزيرة العرب).
ويذهب
السواح بعيدا في نقده لنظرية الصليبي، معتمدا على نتائج الحفريات الأثرية في
فلسطين، والكشوفات الأثرية في سوريا، والنقوش الفرعونية الآشورية.
ويحسب
للسواح، الكثير، وكذلك للدكتور كمال الصليبي، ومن ذلك قدرتهما على الوصول إلى
جمهور واسع من القراء، وجعله يهتم بقضايا عادة لا تشكل جزء من اهتمام الرأي العام
العربي.
ولكن
ما يحدث على صعيد دراسة المواضيع التي يتصدى لها كل من السواح والصليبي، أن
الاثنين يتحدثان عن مواقع لم يزوراها، ولم ينقبا فيها، وإن كان البعض سيقول بأنه
ذلك غير مهم، فلا يمكن فهم الكتابة عن مكان لم يزره الباحث ويختبره، وإذا تم تفهم
ذلك، فان من الصعب فهم التعصب والمحاججة وعبارات الحسم التي تميز كتاباتهما.
وفي
كتابه الذي صدرت طبعته الرابعة، يبرز دأب السواح، وسعيه لإثبات بطلان نظرية
الصليبي، إلا انه وهو يفعل ذلك، يقع في أخطاء غير مبررة مردها تعصبه ضد نظرية
الصليبي، واعتماده على نتائج أبحاث وكشوفات لم يكن هو شخصيا طرفا فيها، وإنما قرأ
عنها مثلما فعل الآخرون، واعتبرها الكلمة الأخيرة في مواضيع من الصعب الحسم فيها
أبدا، خصوصا وان المعاول لم تتوقف عن الحفر في فلسطين.
وتبرز
مثالب منهج السواح، بشكل مقلق، وهو يتحدث مثلا عن الأماكن التي تم فيها التنقيب
الاثري في فلسطين، لإثبات نظريته التي ينتصر فيها لبعض ما جاء في العهد القديم.
سبسطية
يا سامرة
والمثل
الأبرز على ذلك هو حديثه عن المدينة الفلسطينية سبسطية، شمال الضفة الغربية، التي
لا يذكرها بهذا الاسم، وإنما باسمها التوراتي السامرة.
ويكتب
السواح عن هذا الموقع الهام في سياق التاريخ الفلسطيني، والشرق الأدنى القديم،
بحسم وبدون أن يهتز القلم بين يديه: "وقد جاءت نتائج التنقيب الأثرى في موقع
السامرة في اتفاق مع الرواية التوراتية، فمدينة السامرة، هي الموقع الوحيد في
فلسطين الذي بني على التربة العذراء دون طبقات اثارية سابقة عليه"، وتأتى هذه
الكلمات الحاسمة من باحث لم يقدر له زيارة أي موقع اثري في فلسطين، فضلا عن كل
المواقع الأثرية في فلسطين، التي تشملها جملته الحاسمة، والتي لا تحصى، وما يوجد
الان تحت سيطرة سلطة الآثار الإسرائيلية نحو 20 ألف موقع اثري، بالإضافة إلى آلاف
المواقع التي لم تنقب حتى الان، وأخرى نُقبت بشكل جزئي، وعدد آخر نقب عشوائيا ودمر
من قبل لصوص الآثار الفلسطينيين وشركائهم التجار الإسرائيليين، مما يعقد الأمور
بالنسبة لأي بحث يزعم انه صاحب الرأي الأخير في مواضيع تثير شغف القراء حول
العالم، الذي ما زال الكتاب المقدس، الكتاب الأدبي الأكثر تأثيرا فيهم.
ويخالف
السواح، الذي يعرف موقع سبسطية على الخارطة فقط، الشواهد التاريخية في المكان،
وكذلك التنقيبات الأثرية وحتى نظريات علماء الآثار التوراتيين المتعصبين، وحتى أبعد
من ذلك فانه وهو يحاول الانتصار للعهد القديم، فإنه يعطي مثلا على السامرة، أي
المملكة الإسرائيلية الشمالية التي اتخذت التوراة منها موقفا معاديا جدا، إلى درجة
التقليل من شأنها، على حساب مملكة يهوذا في مرتفعات القدس، رغم أن الاكتشافات
الأثرية تغالط الرواية التوراتية وتنتصر للمملكة الشمالية، وساهم في ذلك، الشواهد
من خارج الكتاب المقدس، مثل بعض النقوش التي عثر عليها سواء في العراق أو مصر،
ولكن أهمها بلا جدال مسلة ميشع التي اكتشفت في قرية ذيبان قرب مدينة مادبا
الأردنية، والتي تتحدث عن مآثر ملك مؤاب ميشع ومنها محاربته للملك الإسرائيلي عمري
وابنه الذي لم تذكره المسلة ولكن يعتقد انه أخاب.
فتش
عن ايزابيل..!!
والسبب
المعلن للعداء الذي يكنه محررو الكتاب المقدس لمملكة السامرة، هو وثنيتها وعدم
التزامها بتعاليم الإله يهوه، ولكن الأمر ربما يكون أبعد من ذلك بكثير، ويمكن أن
يكون زواج أخاب من ايزابل ابنة اثبعل ملك الصيدونيين (صيدا) الفينيقي، التي انتصرت
وزوجها لعبادة آلهة بعل، مفتاحا لفهم التطرف العدائي تجاه السامرة.
وتعتبر
ايزابل من أقوى الشخصيات النسائية المذكورة في التوراة، التي تشير إلى أن زوجها أخاب
خاض حروبا شريرة، بتحريض منها، حيث يقول سفر الملوك: "اخاب الذي باع نفسه لعمل
الشر في عيني الرب الذي أغوته ايزابل امرأته".
وتبرز
شخصيتا أخاب وايزابل في العهد القديم، كاثنين من العصاة الذين ينتقم منهما يهوه،
اله العهد القديم القاسي، بشكل دموي، لعصيانهما أوامره، وقصتهما في هذا الكتاب
المقدس شديدة الدرامية، وفيها من تشفي محرري الكتاب المقدس الكثير.
ويقدم
محررو الكتاب المقدس ايزابل على أنها امرأة قوية وعنيدة، جعلت الملك الإسرائيلي
ينقاد خلفها ويعبد بعل، مما أثار غضب يهوه، الذي أرسل النبي إيليا إلى أخاب،
لينبئه بقدوم قحط عقابا على خطيئته، واستمر القحط ثلاث سنوات.
ونجح
إيليا، بتحدي أخاب وايزابل، وانتصر على "أنبياء الأوثان" عبدة بعل الذين
جمعهم على جبل الكرمل، حيث أرسل يهوه، وفقا للعهد القديم، نارا التهمت الذبيحة
الوثنية. وأمام هذا التدخل الإلهي، اختار الشعب عبادة الرب وقتل أنبياء بعل. وقد
تنبأ إيليا لأخاب بمجيء المطر، الذي نزل بغزارة منهيا سنوات القحط، ولكن اخاب
وزوجته لم يتعظا.
وتقدم ايزابل التي كان مصيرها القتل، مثل زوجها،
كامرأة تقف وراء تحريض زوجها وإغوائه لارتكاب أي شيء من اجل توسيع مملكته. وهي
صورة قد لا تخلو من شبهة تصفية حسابات مع حضارة ثرية وعميقة الجذور كالفينيقية.
عاجيات
فينقيا
وربما
أهم ما كشفت عنه حفريات سبسطية، هو الطابع الفينيقي، لمدينة أخاب، والذي يعتقد انه
كان بتأثيرات زوجته ايزابل، ومن بين هذه المكتشفات ألواحا من العاج، يعتقد أنها من
بقايا قصر العاج الذي بناه أخاب، ويحلو لبعض الاثاريين نسبته للملك الفينيقي الذي
بناه لابنته ايزابل وزوجها اخاب، ولكن أغلبية الاثاريين صنفوا هذه الألواح بكونها
فينيقية.
وعادت
ايزابل إلى الجدل، قبل ثلاثة اعوام، في الأوساط المهتمة بعلم الآثار الكتابي،
عندما أعلنت الباحثة الهولندية مارغو كوربيل، اكتشافها للختم الخاص بالأميرة
الفينيقية الآثمة، وفقا للعهد القديم.
والحديث
عن ختم من العقيق، معروض في متحف إسرائيل منذ أربعين عامًا، دون أن ينجح الآثاريون
الإسرائيليون المولعون، عادة بإحالة القطع الأثرية إلى التاريخ التوراتي، في تحديد
هويته. حتى إعلان كورييل انه يعود لايزابل.
وتعتبر
كوربيل، من المتخصصات في البحوث الكتابية، وتقول بان الختم مدار الحديث، هو ذو حجم
غير عادي، ويتميز برموزه، وشكله، والفترة الزمنية التي يعود إليها. وتقول، بأنها
من خلال دراستها للختم، والرموز الموجودة عليه، ومقارنة ذلك بقصة ايزابل
التوراتية، فان الأمر المنطقي، بالنسبة لها، أن الختم يعود للأميرة الفينيقية.
ومثلما
يحدث دائما، فان باحثين كثر شككوا في ما ذهبت إليه كوربيل، واخضعوا كل علامة على
الختم إلى الفحص الدقيق، وخاضوا فيما بينهم نقاشا تفصيليا، وهو الأمر الطبيعي، في
مثل هذه القضايا، حيث تستخدم كل الأساليب الحديثة، وما أكثرها، لدعم ما يتوصل إليه
علم الآثار، وعدم الاكتفاء بمنظومات منطقية، هي اقرب إلى التدريب العقلي، والعصف
الفكري، كما يقر الصليبي نفسه في أحد كتبه.
ربما يَعجب القاريء، عندما يعلم كم من البحوث
سودت حتى الان في مناقشة نظرية كوربيل، ساهم فيها باحثون من مختلف أنحاء العالم،
مما يشير إلى أن الحسم في قضايا بحثية من هذا النوع ليس أمرا بالسهولة المتوقعة.
تربة
غير عذراء
وفيما
يتعلق بمدينة سبسطية، فان ما كشفت عنه الحفريات في سبسطية، تخالف الرواية
التوراتية، ولم تظهر أنها كانت "تربة عذراء" كما يحسم السواح، فالشواهد الأثرية
التي عثرت في المكان والتي تعود لعصور أبكر بكثير من العصر الحديدي الذي تنسب إليه
المملكة الإسرائيلية الشمالية، التي هي بالمناسبة إحدى تجليات الحضارة الكنعانية،
ومعظم مواطنيها من الارامين، اكثر مما تحصى، ويقر بذلك علماء الآثار الإسرائيليون
المتعصبون لرواية التوراة، واكثر من هذا فان المكان ما زال يحتاج إلى مزيد من
الحفريات.
السامرة
لم تكن دولة دينية، وما كشفت عنه الحفريات أن عمري، وهو قائد عسكري أصلا، بنى حصنا
في سبسطية، على بناء سابق يعود إلى العصر البرونزي المتقدم، وعثر خلال الحفريات
على أرضية معصرة تعود لعام 3300 قبل الميلاد، والمبنى المقام عليها، ولقطع فخار
تعود للعصر البرونزي.
مؤشرات
كثيرة تشير الى ان الفينيقيين، هم من بنوا سبسطية، بشكل يشبه ما عثر عليه في تل
مقرن، وفي اوغاريت، وفي الزيب.
ولوّ
زار فراس السواح، سبسطية، زيارة عابرة، لاكتشف كم هو الفرق كبيرا بين البحث
المعتمد على العمل الميداني، والارتكاز إلى سلسلة مقاربات منطقية.
ويعتقد
بعض المهتمين، بأنه فيما يتعلق بتاريخ الشرق الأدنى القديم، فان الأمر اكثر تعقيدا
بكثير مما يطرح عادة في كتابات السواح أو الراحل الصليبي، وان كانا يتوجب تحيتهما
على جهود كثيرة بذلوها، وكذلك على كل هذه الجرأة للكتابة عن أماكن لم يعرفوها إلا
من الخرائط، ومن حسن حظهما انهما يكتبان لجمهور غير مدقق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق