العوامل الخمسة لانهيار الحضارات

يحاجج جارد مايسون دايموند (1937)، بان عدم التعامل السليم مع البيئة، هو ما يفسر سقوط الحضارات واندثارها، وذلك في كتابه (الانهيار) الذي ترجم لعدة لغات، والذي يأتي بعد كتابه ذائع الصيت (أسلحة وجراثيم وفولاذ)، الحاصل على جائزة البوليتزر، وانتج عنه وثائقيا، لصالح محطة الناشيونال جيوغرافيك.

أهمية (الانهيار) انه مبني على عمل ميداني، استكشف فيه دايموند، العديد مِن الحضارات القديمة، وبحث في أسباب سقوطها، رغم ما وصلت اليه من تقدم، تشهد عليه الاثار التي ما زالت تقدم شهادة على تطور تلك الحضارات.

وتجنب دايموند، اية تفسيرات سابقة لمؤرخين أو علماء اثار، وغيرهم، في أسباب السقوط وركز على العوامل البيئية، مستفيدا في الوقت ذاته من العلوم الاخرى، في تثبيت نظريته.

ويضع عدة عوامل ادت الى انهيارات حضارات وهي:

*الضرر الذي يسببه الناس عن غير قصد لبيئتهم.

*تغيير المناخ.

*جيران معادون.

*شركاء تجاريون أصدقاء.

*ردة فعل المجتمع على مشكلاته.

ويقول دايموند: ""تتضمن الانهيارات المجتمعية عنصرا بيئيا، ويسهم في ذلك أيضا التغير المناخي، والجيران الأعداء، والشركاء التجاريون، اضافة الى تساؤلات عن ردود افعال المجتمع". ويعتقد بان المجتمعات المختلفة تتصرف: "على نحو مختلف لمواجهة مشكلات متشابهة".

يخصص دايموند فصلا، لجزيرة الفصح، في المحيط الهاديء، والتي عاشت شبه عزلة، وتعتبر الان جزءا من تشيلي، وتكتسب الجزيرة اهميتها من التماثيل الضخمة التي ما زالت موجودة عليها وحيرت الناس والعلماء، والتي تشهد على عظمة حضارة بناها سكان الجزيرة، قبل ان تنهار على نحو يبدو مفاجئا، وكأن السكان تعرضوا لكارثة ما فتركوا ما بأيديهم واختفوا.

يصل دايموند، بعد بحث ممتع، حول جزيرة الفصح، الى ان عدم تقدير السكان، للمشاكل البيئية، هي العامل الرئيس في انهيار حضارتها، ويتخذ منها نموذجا رمزيا للعالم الأرضي، حيث تبدو الأرض جزيرة معزولة عن باقي العالم المترامي، واذا تعرضت لتحدي مشابه كما حدث لجزيرة الفصح، فانه لا يمكن لسكان الأرض طلب المساعدة من أي جهة اخرى.

يقول دايموند عن مجتمع جزيرة الفصح: "مجتمع دمر نفسه بإساءة استغلال موارده الخاصة"، مستبعدا باقي العوامل بما فيها التغير المناخي، ويرى بان: "تأثيرات البشر في البيئة، ولاسيما التصحر والقضاء على الطيور، والعوامل السياسية والاجتماعية والدينية خلف تلك التأثيرات".

ويضيف: "اذا كان بضعة الاف من أهل جزيرة الفصح مع ادوات حجرية فقط وقواهم العضلية كافيا لتدمير بيئتهم ومن ثم مجتمعهم، كيف يمكن لمليارات الناس مع أدوات معدنية ومعدات آلية الان ان يخفقوا في فعل الاسوأ؟".

ويفسر انهيار حضارة المايا، بأربعة عوامل من التي وضعها لفهم انهيارات الحضارات: "قاموا بالحاق الضرر ببيئتهم، ولا سيما عبر التصحر والتعرية، واسهمت التغيرات المناخية (الجفاف) في انهيار المايا، وربما على نحو متكرر، وأدت الاعمال العدائية ضمن المايا انفسهم دورا كبيرا، وأخيرا، قادت العوامل السياسية والثقافية، ولا سيما المنافسة بين الملوك والنبلاء، الى الاحتكام الى الحرب وتشييد الأوابد بدلا من حل المشكلات العالقة في ذلك الانهيار".

ويضيف في تفسيره لانهيار حضارة المايا، التي ما زالت اثارها تدهش الملايين من سكان الأرض: "فيما يخص العامل الخامس، ينبغي ان نتساءل لماذا أخفق الملوك والنبلاء في حل تلك المشكلات التي تبدو واضحة، والتي قوضت مجتمعهم؟ يبدو واضحا ان تركيزهم كان منصبا على اهتماماتهم القصيرة المدى في اثراء انفسهم، وشن حروب، وإقامة أوابد، والتنافس مع بعضهم، والحصول على ما يكفي من الطعام من الفلاحين لدعم كل تلك النشاطات. ومثل معظم القادة عبر التاريخ البشري، لم يعر ملوك المايا ونبلاؤها اهتماما للمشكلات الطويلة الآمد حتى راوها بأم اعينهم".

ستة مجتمعات، درسها دايموند، يعيد سبب انهيارها، لفشلها في حل المشكلات البيئية التي تسببت بها او واجهتها، ولم تتمكن من التعامل معها.

ويعيد المجازر التي شهدتها رواندا، وحملات التطهير العرقي بين الهوتو والتوستي، الى اسباب اقتصادية وبيئية، تتعلق بالكثافة السكانية، ويعتمد بذلك على بحث لباحثة وباحث بلجيكيين عن المجازر الاخيرة التي حدثت عام 1994: "ليس نادرا، حتى اليوم، سماع الروانديين يجادلون انه كان ضروريا القضاء على الزيادة السكانية وجعل الارقام تتوافق مع موارد الارض المتوافرة".

وينقل عن جيرار برونيه، وهو مختص فرنسي في الشؤون الافريقية: "كان قرار القتل من صنع السياسيين بالطبع، ولأسباب سياسية. لكن جزءًا على الاقل من سبب اشتراك الفلاحين العاديين فيه على نطاق واسع ضمن اسرهم هو الشعور بوجود كثير من الناس على ارض صغيرة، وانه بخفض اعدادهم سيكون هناك المزيد للناجين".

ويضيف: "كان لدى كل أولئك الناس الذين لقوا حتفهم ارض، واحيانا ابقار. وكان ينبغي ان يحصل احد ما على تلك الاراضي والابقار بعد موت المالكين. لم يكن ذلك حافزا يمكن تجاهله في بلد مكتظ بالسكان".

يقول المؤلف: وهو يقارن بين هايتي وجمهورية الدومينيكان، اللذين يتقاسمان جزيرة واحدة، ولكن تطورهما اختلف كثيرا: "تقيد المشكلات البيئية المجتمعات البشرية، لكن ردود افعال المجتمعات هي التي تحدث الفرق، وكذلك ايضا، افعال قادتها سواء كانت للأفضل ام للأسوأ".

من الفصول الممتعة، والتي بذل المؤلف جهدا واضحا فيها، ذلك المتعلق بأستراليا، ويشير مثلا الى الاضرار التي تسببها ادخال حيوانات ونباتات من خارج القارة، اليها، والتي كانت ليس فقط خطا بيئا ولكن كارثة ما زالت تداعياتها متواصلة، ويذكر انه يتم كل عام انفاق، بضع مئات ملايين الدولارات لمكافحة الارانب، و2.5 مليار دولار لأنواع مؤذية أخرى، وما يزيد عن 3 مليارات دولار للأعشاب الضارة، وغيرها.

يشغل دايموند، الذي يوصف بالعالم الموسوعي، حالياً منصب أستاذ الجغرافيا والفيزيولوجيا في جامعة كاليفورنيا، في لوس أنجلوس.

وتتميز كتبه بشعبيتها، ووصولها الى الجمهور العريض، وتصدرها قوائم الاكثر مبيعا، ومن بينها كتابه الانهيار، الذي اثار جدلا فيما يتعلق بـ (الحتمية التاريخية) التي ركز عليها دايموند.

وفي حين اتهم خصوم دايموند، عمله في (الانهيار) بعدم الدقة، الا ان الزاوية التي نظر فيها الى انهيارات الحضارات، هي محاولة جديدة لتفسير ما فشلت علوم اخرى في تقديم اجوبة عنه، ويبقى الفضل للكتاب في قرع ناقوس الخطر، فحضارات العالم الاول كما نراه الان، شهد العالم مثيلا او شبيها لها، ولكنها، اختف. نعم، ببساطة اختفت..!