السكاكيني وحكايته مع الطالب ياسر عمرو

8 مجلدات صدرت من يوميات خليل السكاكيني، قرات منها خمسة، بدون ترتيب، اليوم انهيت المجلد السابع بعنوان (موت سلطانة) ووضعت ملاحظات كثيرة لاكتب عنها، ولكنني اكتفيت بحكاية مثيرة يوردها السكاكيني عن الطالب ياسر عمرو:

أسهب المربي والفكر الراحل خليل السكاكيني، في يومياته، التي صدرت، خلال السنوات الماضية، في ثمانية مجلدات، في الحديث عن رؤيته التربوية، والاساليب الحديثة المبتكرة للتعليم في مدارسه، خصوصا كلية النهضة.
وقدم السكاكيني، نماذج لفكره التربوي، من خلال حكايات ضمنها يومياته، بشكل عرضي، ومن بينها ما جرى مع طالب كلية النهضة ياسر عمرو، يوم الخميس 18/12/2011، الذي يبدو انه كان يعاني من جنوح المراهقة.
يروي السكاكيني، في الكتاب السابع من يومياته الذي صدر العام الماضي بعنوان (موت سلطانة): "ذهبت يوم الخميس من هذا الأسبوع الى المدرسة واذا هناك بوليس فسألت ما الخبر، فقيل لي ان البوليس امسك في الساعة الواحدة والنصف من بعد نصف الليل بالأمس ياسر عمرو من الخليل وعبد اللطيف العلمي من غزة وكلاهما من طلاب الصف الرابع الثانوي في مدرستنا بالقرب من (مكرحايم) على طريق قرية صفافا، يحملان كيسا فيه كتب ودفاتر تقدر قيمتها بنحو عشرة جنيهات، وهي من كتب المدرسة ودفاترها، فأخذهما البوليس واودعهما السجن، وجاء اليوم للتحقيق".
ويقول السكاكيني، بانه رافق رجال الشرطة الى: "مركز البوليس في المستعمرة الالمانية، وقابلت صاحب النوبة (الضابط المناوب)، السيد كاظم ابو غزالة احد ضباط البوليس، وقلت له هذه مسالة دقيقة حرية ان نعالجها من وجهة اخلاقية لا من وجهة قانونية، فهذا الطالبان من انجب طلابنا واحسنهم اخلاقا، وكلاهما ينتميان الى اسرة كريمة من اسر فلسطين، فاذا اخذناهما من وجهة نظر قانونية اضاعا كرامتهما الشخصية وخلقنا منهما مجرمين كبيرين، ولكن اذا ابقينا على كرامتهما استطعنا ان نقيهما من التدهور في الاجرام، فأشار علي ان ارجع الى السيد نبيه ناصر، فذهبت اليه، وشرحت له الامر، فوعدني بالمساعدة، ثم رجعنا الى السيد كاظم ابو غزالة، فاخذ افادتي كما يقولون، فقلت، من المباديء التي تقوم عليها مدرستنا، ان المدرسة اسرة، الاساتذة فيها اباء والتلامذة فيها ابناء".
ويسترسل السكاكيني، في يومياته: "..وقد اباحت المدرسة لأساتذتها وتلامذتها ان يستعملوا كل ما في المدرسة من كتب ودفاتر وادوات كما يشاؤون، فاذا اخذ بعض التلاميذ شيئا منها فليست هناك سرقة، قلت هذا او بما معناه ووقعته باسمي، ثم قلت للسيد كاظم ان الحاكم يجب ان يكون فيلسوفا فضحكنا، ثم كلفت احد رجال البوليس ان يشتري لياسر وعبد اللطيف فطورا، وبعد ان انتهينا من اداء الإفادة كفلت الطالبين بعشرين جنيها فخرجا من التوقيف وذهبا الى المدرسة كأن لم يقع شيء".
ويقدم السكاكيني تحليلا نفسيا للطالب ياسر عمرو، وعلى الارجح انه لم يكن يدري كم كان يستشرف فيه المستقبل: "لا استغرب ان يقدم ياسر على مثل هذا العمل فقد لمحت فيه من زمن ميلا الى المغامرات، من ذلك انه راهن رفاقه في المدرسة على اكل حية فأكلها، ومن ذلك انه كان من المهتمين في اخر السنة الماضية بانه وقف ليلا في الطريق فمر يهود فشهر عليهم السلاح وسلب ما معهم، ولكن التحقيق برأه وبرأ رفاقه، وبعد هذه الحادثة، وجد الاساتذة معه مسدسا، وهو فتى عالي الجسم محكم التركيب جميل الصورة انيق في لبسه، تراه فتحسبه من سلالة انكليزية او اسكوتلاندية، ولعل سبب ذلك ان امه تركية، وهو ذكي يحسن الكتابة كانه اديب كبير، مصير هذا الفتى إما ان يكون من كبار الناس وزعمائهم، وإما ان يكون من كبار المجرمين، وقاه الله".
كبر الطالب ياسر عمرو، ولم يخيب ظنه استاذه، وانخرط في العمل التربوي والوطني، واصبح اول وزير للتعليم في السلطة الفلسطينية، وهي الوزارة التي عُولَ عليها كثيرا، ولكن هل تذكر الوزير عمرو، مباديء استاذه وسياسته في مدرسته، التي تقوم على المشاركة، ونبذ التلقين، وعشرات المباديء الاخرى، ومن بينها ما نجّا عمرو نفسه من تهمة السرقة؟ ولماذا لم يطبق ذلك ويحقق الآمال التي عُلقت على التعليم في فلسطين بعد سنوات الاحتلال العجاف؟ اسئلة برسم الواقع التعليمي الحالي، الذي يقول البعض بانه لا يسرّ صديقًا، ولا يبغض عدوًا..!