أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بهاء رحال. إظهار كافة الرسائل
‏إظهار الرسائل ذات التسميات بهاء رحال. إظهار كافة الرسائل

الخميس، 11 يناير 2024

في الطريق إلى عرتوف!





















 

في الطريق إلى عرتوف!

كان ذلك في 14 أيَّار الماضي (قبل يوم من يوم النكبة الرسميِّ)، قلت لنزار: هذا المشوار يكون مرَّة واحدة في العمر.

بعد جولة في وادي القطلب (الشجر قاتل أبيه-يا لعمرٍ أمضيته في إمضاء قتل الآباء من بيولوجيين إلى أيديولوجيين)، في قرية دير الشَّيْخ، قرَّرنا الاستمرار في استشكاف أحد المقاطع المهمَّة من وادي الصرار، الذي يقطع الهضبة الفلسطينيَّة الوسطى، إلى بحر يافا.

منذ الكورونا، أوقفت دولة الاحتلال سير القطار العثمانيِّ، بمحاذاة الوادي، بين محطته الرئيس: قدس شريف (حولها المحتلون إلى بزار وفضاء ترويحي)، حتى محطَّة عرتوف/ديرأبان.

بدأ العمل في سكة حديد القدس-يافا في 31 آذار 1890م، وفي 26 أيلول 1892م، سار أوَّل قطار من القدس إلى يافاـ على سكة بطول اثنين وثمانين كيلو مترًا، ووصل يافا في نحو ثلاث ساعات وخمسين دقيقة، قاطعًا إحدى عشر محطة، من بينها محطَّة عرتوف (محطَّة بيت شيمش بعد الاحتلال). تجمَّع النَّاس في القرى التي مرَّ بها القطار، للتعبير عن فرحهم، بهذا الذي يتلوى كالأفعى بين جبالهم وأوديتهم، خاصة وادي الصرار المهيب.

تشبَّع نزار من مقام الأمير بدر، الذي قدَّسه مسلمو برّ القدس ومسيحيوه، ويقدِّسه اليهود الآن، أيضًا. أخذوا المقام غنيمة حرب، مع الأرض والماء وسكِّة القطار وأبقار قرية صرعة، وأوَّلوا تقديسًا لمقام الأمير العربيِّ الأسطوري، باعتباره يساعد العقيمات، فيمنحهن أمل الولادة. في روايتي: وردة أريحا، شغب مع مأثورات الأمير المقدَّس.

بعد تفقد محطَّة القطار في دير الشَّيْخ، صوَّر نزار الكثير ليطلع عليه أهلنا الدراشخة، ورثت أمُي ورصيفاتها، صفة الدرشخي، تطلق على اللاجيء من دير الشَّيْخ، من أيَّام البلاد. أصدقاؤنا الدرشخُّيون، من عائلة الشريف، لم يشهدوا فقط عام النكبة، ولكن تعرضوا، مع آخرين لتطهير عرقي، بعد النكسة، من الحبيلة، التي يسيطر عليها الآن، تجمع غوش عتصيون الاستيطاني.

شددنا نحو الغرب، هضابنا المنخفضة، ننكب الأرض التي نُكب منها الآباء والأجداد. من دير الشَّيْخ إلى دير الهوا. لم تنجح أمهاتنا في اجتراح علمًا للاجئين من دير الهوا.

 مع التقدم، لاحظ نزار أنني أسبقه، لا بد أنَّه شعر باحباط لا يقر به، مع انشغاله بالتوثيق. علامة إحباطه إحمرار غير مكتمل للوجنتين، إحباطي الآن أكبر من أيَّة علامات.

مع اقترابنا مع عرتوف، فتحنا محادثة مع بهاء. تدفقت العواطف، غمرتنا وغمرت بهاء العرتوفي. بهاء مشَّاء مثلنا، لكنَّ رهافته الشعريَّة قد تحول دون المسافات الطويلة. لكنَّه لا بد سيكون معنا في مشوارنا المقبل، في اليوم التالي بعد أُفول تل أبيب.

اقتربنا من محطَّة عرتوف، في عام النكبة، تحوَّلت إلى مخيم لاجئين، تدفَّق إليها ناس القرى المجاورة. الدنيا رمضان، يتجمعون في المحطَّة نهارًا، ويعودون إلى منازلهم ليلًا. انتقل الكثير منهم إلى قريتنا زكريا، انتثروا تحت الزيتون. جاء يوم، بعد أشهر، فلم يعودوا، ولم نعد إلى منازلنا،، انتثرنا حتى الآن، في بلاد النَّاس. انسحب الجيش المصري من حامية دير بيت الجمال، أمضيت ساعات في الموقع، متصورا الأحاديث الأخيرة بين الضابط المسؤول، والنَّاس. نصب المصريون، حاجزا على وادي القف، ومنعوا اللاجئين المستقبليين، من أن يصبحو لاجئين. تقدَّم أبو عوجان الضرير يدق الأرض بعصاه، يتمتم: يا هادي، مخاطبا المصريين: أنتم هربتم أولًا، اسمحوا لنا لأن نصبح مثلكم من الهاربين!

لم تعد جميع محطَّات سكة حديد القدس-يافا تعمل الآن، ولكن القطار ما زال يسير على محطة عرتوف، لا ينتظر ناسها الذين طالت غيبتهم. من يفوِّت محطَّة، قد يمرّ قطار العمر، دون أن يلحق بقطارها. لكنني ونزار أردنا محاربة طواحين الهواء، وما زلنا. البلاد كلها، بلادنا.

وصلت المحطَّة، متقدمًا مسافة قصيرة عن نزار، لأختبر سوء الطالع وعاقبة سوء الظن باحباط نزار. كانت مفاجأة سيئة بانتظارنا، واجهنا سلاحهم المشهر، بالضحك، واللامبالة، فنحن في المحطَّة التي تنقَّل من خلالها أهلنا، قبل عقود فقط بين هضابهم المنخفضة الدافئة، والقدس، والرملة، ويافا.

وقفنا في الظلام، على مفرق عرتوف، في انتظار حافلة القدس، نسمع دبيب الآباء، ونزار يمسك بشدة بحزم المرمية الناجية، نبتتنا المقدسة، من أمنا مريم الأولى وكأنَّه طفل المغارة.

انتصبنا، أمامنا حرش صرعة أعلى التلال، مثل شجر القطلب، بسيقانه الحمراء، رمزًا لدماء الآباء المقتولين، تصتطبغ يداي بدماء الآباء القتلى. جئت، منهزمًا، معتذرا أيها الأسلاف.

ما دام لم يقطلبونا (على قولة الرفيق اللحياني: قَطَل عنقه وقَصَله أَي ضرب عنقه)، فسنعود للقطلب، وهو ما حدث، ولو مقصلين.

أقترب من اليوم المئة، الذي لم أتنفَّس فيه هواء تلك الهضاب، يرى نزار في داخلي أكثر من الإحباط، وأنا أتضور عشقًا.

مناسبة الكلام، صورة من الإرشيف الإسرائيليِّ بعد احتلال عرتوف، وما جاورها، كعسلين وأشوع (ما أطيب ناسنا، فيمجدوا أسم يوشع بن بنون، أحد مجرمي حرب الشرق القديم، باسم قريتهم)، وشق طريق غاندي، فخر العصابات الصهيونية، لتخطي طريق باب الواد.

قريحة الأمهات، لم تتفرمل كما حدث مع دير الهوا، أمام الاجتراحات، فاشتقت: صرعاوي (من صرعة)، وشوعاني (من أشوع)، وعسليني (من عسلين) ورفاتي (من رفات) وديرباني (من ديرأبان) وعجّوري (من عجُّور) ونتيفي (من بيت نتيف) وعطابي (من بيت عطاب) وعلّاري (من علّار)، وراسي (من راس أبو عمَّار) وقَبوي (من القبو) ووادي (من وادي فوكين)، ومحسيري (من بيت محسير)، وياسيني (من دير ياسين)، ومالحي (من المالحة)، وصطافي (من صطاف) وعكرماوي (من عين كارم) وغيرها من محطَّات يومنا الآتي.

#محطة_عرتوف

#نزار_العيسة

#بهاء_رحَّال

#دير_الشَّيْخ

#دير_الهوا

#أسامة_العيسة

الاثنين، 2 أكتوبر 2023

أسامة العيسة وسماء القدس السابعة/بهاء رحَّال


 


(سِفر الحياة)

ثلاثة أسفار للحياة والحزن والبقاء، وكعادته أسامة، بطقسه المشوق وأسلوبه الذي ينفرد به، يباغتك دون أن تدري فتجد نفسك أمام حكايات يرويها على لسان أبطاله المتواطئين معه في شدك وأسرك، وسرعان ما يخطفك لعالمه المرئي بعين التاريخ تارة وعين الحاضر تارة أخرى، أما الرائي فشاهد يشهد أمامك، ويشهد بلسانك، ويشهد بعاطفتك، وفكرتك، وبذكاء منقطع تجد أنك الراوي والشاهد والمشاهد والقارئ في آن، وأنك السائر خلف نصوص خالية من المجاز فلا تتعبك ولا تثقل عليك، بل تواصل القراءة بشغف ومتاع الكلمات التي ترسم الحكايات، وهذا ما يميز لغة أسامة وسرديته التي لا يمكن أن تشعر معها بالملل، ولا حتى بالضجر مهما بلغ حجم الرواية، وإن كانت كهذه الرواية الكبيرة؛ فتنساب فيك كقطرات الندى، وقد تجرح عاطفتك حينًا، وتجرح كبرياءك أحيانًا، وهي تستعيد مقاربات الزمان، بين ما كان في أزمنة الأولين، وما صار عليه الحال في حاضر الوقت، وبين النكبة والنكسة وفصول التشرد والمعاناة والقهر، وأزمنة الهزيمة، يأخذنا العيسة بتجرد تام ودون محاباة أو مواربة، وبلا رجفة قلق، إلى زمان القدس أو أزمنتها في فصول التاريخ، أحياءً وأموات، أضرحة ومقابر، سراديب وأسوار، جغرافيا المكان والزمان، صالحين وطالحين، راشدين ومجانين وحمقى.

لم يقصد أسامة أن يصعد بنا إلى سماء القدس السابعة، فهو لا يملك طائر براق يصعد إلى ذلك العلو، كما لا يملك حائط يربط به ذلك الطير العجيب الغريب، وإن كان امتلك الحرف وبلغ المعنى، بل أخذنا بذكاء البدايات من حادثة السبع المطربل، إلى أن هبط بنا إلى سابع أرض القدس، فكشفت لنا المدينة تاريخها، وكشف لنا أهوالها، ومن مرَّ وما مرَّ عليها في تدافع الحروب والهجرات والقتال والمستعمرين والممالك والدول، وهنا برع العيسة في رسم تاريخ المدينة، ليس تأريخًا بل مرورًا على كل تفاصيلها من أبواب وزوايا وأضرحة وأشجار وأسوار وطرقات وأزقة وحارات بمحاكاة ذكية، وكان لدية راويًا حكاءً يجيد لفت الانتباه ويدرك بلاغة السؤال في أرض الإجابة، فلا يكل ولا يتعب، ولا يتعبه السؤال.

لكنها القدس، قدس الكنعانيين الفلسطينيين، وقدس الأولياء الطاهرين، وقدس الأنبياء أجمعين، ولا قدس للمحتلين ولا قدس للغزاة ولا قدس للاستعمار، ولنا قدسنا ولنا زواياها المقدسة من كنائس ومساجد وأضرحه وأسوار، ومقامات وأسواق وأبواب وسراديب وآبار وقباب.

يطوف بنا العيسة إلى ما حول القدس، فتارة يأخذنا إلى برية القدس والتي تمتد حتى البحر الميت، وتارة يعود بنا إلى قريته التي حكاياتها لا تنتهي ولا تنقطع إلا بسرد راوي يرسم النهاية بإيقاع خفيف الظل، مدفوع بالحماس لمواصلة ما بعده، وما أعجب ما قبله وما بعده، وفي بعض الأحيان يخرج نحو القدس الجديدة، القدس التي لا يحيطها السور القديم، ومع مرور الوقت بات يحيطها جدار عنصري، وسور عزل المدينة عن أختها بيت لحم.

ومن حادثة السبع المطربل الطريفة والحزينة في آن، والتي اتخذها العيسة مدخلًا رشيقًا ماتعًا رغم بشاعة مأساة السبع الذي لم يعد سبعًأ. سبع القرية وشابها اليافع القوي وفتوتها، وفتوة القرى المجاورة، إلى قدس الحقيقة والقدس البريئة والقدس العنيدة والعتيدة، ولكل واحد قدسه ولكل ناظر شواهده، غير أن أسامه يشهد بعين الكل، فيرى ما يرى وما قد لا يرى، مما خفي ومما أخفته تتابع النكبات والغزوات والهجرات، من تاريخ مؤجل وتاريخ معجل، وينبش في أسرارها ومواعيدها ومواقيتها، وينقش في ذاكرتنا حكايتها بمهارة حفار وروعة كاتب وأناقة مؤرخ.

أنصف العيسة القدس من سابع سماء، قدسنا البريئة من كل لوثة، وقدسنا المقدسة والمطهرة والمظفرة، وقدسنا الأرضية بما عليها وما تحتها وما فوقها، وقدسنا السماوية فينا من علوها الشاهق، وهو يمشي بنا حين يتمشى هناك كصبي لم يبلغ الحلم بعد، رشيق الفكرة سديد الأسئلة لوالده الذي يرافقه، ولآخرين من شيوخ ورهبان وكهان وباحثي آثار ورجال إصلاح وساسة وحجارين وفنانين، عرب وأفارقة ومهاجرين، أثرياء وفلاحين، أغنياء وبسطاء، مدنيين وقرويين، قدسيين وتلحميين، فتارة يظهر الاشتباك بين التاريخ ووجه الاحتلال الأحمق الذي لا حق له في المدينة، وتارة أخرى يتخذ التاريخ في الماضي والحاضر شكل المحايد كي يهدئ من حدة الاشتباك.

عمل ثقيل لكنه مهم، بل من أهم الأعمال التي أنصفت القدس بطيبتها وطبيعتها، بقدسيتها ومقدساتها، بحيث لا ينصف القدس المقدسة فحسب، بل ينصف الذاكرة، وينصف رجالات القدس، ناسها وسكانها، وافديها وأفنديها والأغراب، حجارتها وآثارها، من مرَّ عليها في حقب الاحتلال، ومن جاءها للرجاء والدعاء، فما كان في سفر الحياة الذي أراد العيسة أن يكون مفتاحًا، دليلًا، استهلالًا، مقدمة مثقلة بالجراح والآلام والمصائر المعلومة والمجهولة، إلا مجبولًا بعصف التاريخ، والبحث في أسراره المعلنة والمسكوت عنها، وكأن العيسة ينبش ليقول، ما أكثر المسكوت عنه في بلادنا، وما أحمق الساكتين.

سماء القدس السابعة مرجع توثيقي مهم، وعمل يا حبذا لو انتبهت له المؤسسة التعليمية ليكون منهجًا دراسيًا، فهو مادة رشيقة على غير عادة بعض المواد الأخرى التي تصيب الطلبة بالضجر، بل فيه من التشويق ما يكفي وفيه من العلم والمعرفة بتاريخ القدس ما يشبع التساؤلات، وهو إضافة معرفية وعلمية هامة؛ فهل تلتفت لها المؤسسة التعليمية في بلادنا، أو القائمين عليها والقائمين على وضع واختيار المناهج التعليمية سواء في المدارس أو الجامعات. يا حبذا لو أنها تلتفت.

في سماء القدس السابعة قدم العيسة مادة علمية بعيدة عن تحيز الكتاب في بعض الأحيان وطغيان العاطفة لسبب أو لآخر على يكتبوه، وبعيدًا عما هو متداول في كثير من الأعمال التي ينحاز بها الكاتب، فلا نجد من العيسة في هذا العمل إلا الوضوح تام دون أيِّ عبثٍ، وهذا ما شكَّل علامة فارقة بينه وبين كل ما كتب في السابق عن القدس، ففيها الكثير من المسكوت عنه، وفيها الكثير من التمرد، وفيها عصف أزمنة بعيدة وقريبة، وبذكاء أوقعنا في حب سماء القدس السابعة، دون أيّ دغدغة لمشاعرنا، وهذه مغامرة جريئة برأيي من قبل الكاتب الذي نجح في سحب أقنعة كثيرة وأزاح اللثام عن مكنون المدينة، وكشفها لنا كما لو أننا لم نعرفها من قبل.

أسامة العيسة في سماء القدس السابعة لا يتحدث عن الأحياء فقط، بل ويتحدث عن الأموات أيضًا، فلا تجده يختصر تاريخ المدينة من زواياها وأسوارها وقبابها وقبورها ومساجدها وكنائسها وأديرتها، بل يذهب إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير، وهو يفكك لنا بعض رموزها وما أكثر رموزها.

البعد الإنساني حاضر بقوة في العمل كما البعد المكاني والزماني، الصلاتي والإيماني، الوطني والارستقراطي، المتعالي والعادي البريء الظاهر للعلن دون مواربة ودون أيّ زركشة، في تتبع سرد أحداث تلمس القلب والروح، كما تجرح الفؤاد وتعيد للذاكرة وصلها وصلتها، وما أكثر جراح المكلومين المغلوبين على أمرهم في قدسنا وما حولها، في تتابع أزمنة الاحتلال والاستعمار والانتداب والخراب وتتابع النكسات وتوالي أطماع الغزاة الذين يبحثون لهم عن رسم أو نقش أو رمز في القدس يشير إلى عروشهم الهالكة، وما أكثر العروش التي هلكت واندثرت، وبقيت القدس حيَّة وحاضرة.

(سِفر للحزن والحياة)

في السفر الثاني من سماء القدس السابعة، لا يبتعد العيسة عن القدس وإن طاف حولها وحول أزمنتها، ووشى لنا صبرها في رؤى أعين لا تغفل أنها صاحبة الحق، وصاحبة الأرض بما تحتها وما فوقها، وأن الاحتلال في النهاية سوف يزول مثله مثل كل احتلال، كما واقترب بنا العيسة كثيرًا من زمان الحاضر، بعد أن أدخلنا معه في فصول التاريخ العميقة والماضي البعيد، وقد لازمنا بين الفينة والأخرى بالسبع المطربل، وما لحق به في فصول متراكمة وحكايات لم تنسى، فتتصل أسفار العيسة مع بعضها لتشكل تكاملًا في فصول الحكاية وإن بدا هذا الفصل أكثر قُربًا لملازمته حاضرًا معاش، نعيشه أو عشناه، وربما لامسناه فرادى وجماعات بحيث يدخل العيسة في هذا الفصل إلى مساحة قد لا يكون أحدًا كتب عنها من قبل بهذه الشفافية الغارقة في السرد المحكم والعاطفة الشجية، وهي حالة الاعتقال التي يتطرق لها من بعدها الإنساني وأثرها على الزوجة والابن كافل. وهذه نقطة محسوبة له وإن لم تعجب البعض، لأنه يعالج قضية حياة عائلة الأسير بعد الأسر، خاصة بعد أن تفقد الزوجة زوجها وبيتها الذي يتعرض للهدم، وهنا سيجد القارئ الكثير من المسكوت عنه قد كشف لثامه العيسة. أسامة هنا فتح بابًا آخر من أبواب القدس، بابًا جديدًا سيفضي ذات يوم لإعادة النظر في كل ما مضى، سواء الأساليب والأفكار والمفاهيم والطرق والوسائل، وهو يقرع الخزان ليدق الناقوس في عقل كل واحد وواحدة، يقرأ أو تقرأ الرواية لضرورة فعل ذلك، إن لم يكن اليوم، ففي يوم قريب.

لا يجوز القول أن القدس في الرواية، بل إن القدس هي الرواية، بكل الأحياء والأموات وكل المساجد والكنائس، وكل الحارات والأزقة وكل المعلوم والمجهول، وكل الوجوه والمصائر، وهي رواية إنسانية لا يضل قارئها عن تتبع وصل الرواية بأحداثها مهما بلغت في القِدم ومهما تشابهت في حدود الحاضر، في سرد محكم رزين غارق في الجمال والتأني، بصبر الكاتب الحليم، ورحابة صدر متلقي نهم، لا يتعب المعرفة ولا يمل من التفكر، وحتى الموتى لم يغفل طريقهم، ولا حتى صعودهم إلى السراط من أقرب نقطة يصعدون بها إلى سماء الحساب والعقاب والعذاب والرحمة والجنة والمغفرة.

(سِفر للبقاء والحزن والحياة)

ما أراد أن يقوله أسامة في هذه الرواية هو أنني أدعوكم ليقرأ كل واحد تاريخ القدس بمفرده، وأن ينبش في عمق التاريخ، وأن يعيد قراءة أسفار الأولين بتجرد من كل عاطفة، وأن تكتبوا عنها من وجهة نظركم، بعد أن تزورها إن استطعتم زيارتها، وأن تمشوا في حاراتها وتحققوا وتدققوا وتقرأوا ثم تعيدوا القراءة، وهنا أحسن العيسة صنعًا حين لم يطلق الأحكام، ولم يعطي الدلائل الكاملة والبراهين، بل جعل الباب مواربًا لكل من يأخذه الحماس للبحث والنبش والحفر والتدوين، وكأنه يتفق مع القدس في أنها مدينة تتسع لكل الباحثين وكل المؤرخين وكل الكتَّاب المجانين الذين يسعون فيختلفون أكثر مما يتشابهون، وكل من يأتيها عبر العصور لاهثًا لاكتشاف أسرارها ورموزها، من فقهاء وسفهاء، وموالين ومعارضين، وبلهاء وعاديين ومغاوير وأشباه مغاويير، صادقين وكاذبين، مبجلين كالشيخ عبد رب النبي ومطربلين كالسبع الذي اختل وفقد توازنه بسبب العقد الجنسية وأثرها في مجتمع يهوى الشائعات ويتسامر بها، ويلتقط أي كلمة حول الجنس حلالًا أم حرامًا ليقيم عليها رواية، وللرواية فصل التندر وفصل الانتقام وفصل من الود وآخر في الخصام، ومن الأقاويل المختلفة غير المتشابه، العجيبة حينًا والغريبة في غالب الأحيان، كأنهما ضدان يسران في اتجاه واحد، ولا يلتقيان.

تتغير أزمنة القدس والقدس لا تتغير، ودوام الحال فيها محال، فهي مدينة تهوي إليها الأفئدة والقلوب، وتركض لحكمها ممالك ودول، وتسيَّر لأجلها الأساطيل البرية والبحرية والجوية، تهب رياح وتعصف أمواج، وتسقط دول وتتعثر ممالك وتهوي عروش وتبقى القدس.

بقي أن أقول، ما كنت أتمنى لهذه الرواية أن تنتهي، ولو أنها من الوزن الثقيل، فهي مشوقة بهذا القدر الذي حدثتكم عنه وأكثر، فلا يتعب ولا يمل معها القارئ، بل مع كل صفحة يلتصق بها أكثر، لأن في كل صفحة حكاية جديدة من حكايات قدسنا التي لا تنتهي.

https://www.maannews.net/news/2101890.html?fbclid=IwAR2k5joeQJB4jwQbDjPMIYM1qvPdLPcRLUUqS6zD6b1yXohK1Pj41SDVVR0

السبت، 20 نوفمبر 2021

نبش في حقول المسكوت/بهاء رحّال


 


رواية على قدر كبير من الجمال، والنبش في حقول المسكوت عنه في التاريخ، والدخول إلى عوالم النفس البشرية، وفيها معنى ومغزى ولها هوية المكان والزمان، غير أنها تأتي في وقت لا يزال الواقع العربي لا يحتمل هذا التجديف، لأنه منذ البداية لم يقر بغير ما يمجد وما يبجل حضوره النبيل ككائن مختلف، أو هكذا يظن، في طور محاولات عملية البقاء الهش، طالما أخذ لنفسه هذه المكانة في الجهل، فلا يعول على من قام بمنع الرواية، ويعول على قلم مسكون بالبحث والكتابة والتجديف في العمق. عمق الحقيقة وعمق الزمان، وهذا يأسر القارئ ويحاصر المانع ويمنح الرواية قيمة وقوة في الحضور.

كعادته في كل مرّة، يغرف من زاوية جديدة مختلفة عن السابق ليسلط الضوء على حكاية، وكأنه يريد أن يقول أن بلاد الشرق مليئة بالأساطير وهي كذلك، ومليئة بالخلافات والاختلافات الضاربة في القدم، وليست حديثة العهد، لكنها متجددة تحت راية الإلهة. فرب ابرام يختلف عن رب كنعان، ورب العشيرة غير رب القبيلة ورب العائلة مختلف عن رب الأسرة، ولكل الأرباب آلهة، والآلهة التي تغضب تنتقم من عبادها أشد انتقام، وأن الخطر كان في حُسن وجمال بنات كنعان على سلالة ابرام النبي الذي أنجب من نسله عشرات الأنبياء، ولم يفلح في درء خطر الكنعانيات الفارهات طولًا وجمالًا ودلالًا. وفي تصوير مهم نجد في الفصول الأولى علاقة يهوذا الذي أحب الكنعانية وتزوجها فوقع عليه غضب القبيلة، وعوقب بالنفي عن المدينة المقدسة، وعاش حياة قاسية سببها غضب الرب، وتبعه بعد ذلك ابنه البكر "عير" الذي أحب تمار الكنعانية وتزوجها، فتبع قلبه وحبه وقرر أن يعاند إرادة الرب، وقبل أن ينجب منها مرض، وعندما قدم قربانه للإله لعله يرضى ويشفى، اشتد عليه الوجع والحمى والسهر ثم مات، في شارة أنه لم يرضَ وكانت خطيئته التي لم يفعل غيرها زواجه من تمار الكنعانية.

ماذا فعلت يا أسامة؟ وأنت تعلم أن البشر يكرهون تلك المرايا التي تكشف لوثاتهم وتكشف ضلالات اعتقادهم القائم على تفسيرات خاطئة. يكرهون كل ذلك وأكثر ويتشدقون بأنهم الأخيار بلا منازل. أعرف أنك لم تشأ منازلة أحد، غير أنك كشفت بعض المستور وبعض الممنوع وبعض المختلف عليه.

#بهاء_رحّال

#الإنجيل_المنحول_لزانية_المعبد

#المؤسسة_العربية_للدراسات_والنشر

#مُنع_في_عمّان

الجمعة، 31 مارس 2017

حكاية فصول الوقت/بهاء رحّال





من جديد، يحملنا الروائي الفلسطيني أسامة العيسة في رحلة مع الذاكرة، ويأخذنا إلى أزمنة بالغة الأهمية في التاريخ الإنساني، بلغة رشيقة وحرف لا ينضب ولا يتكاسل أو يتردد، رسماً وتحقيقاً وتقصٍ عميق الدلالة وصادق المعنى، فتجدنا نعيش حيوية السرد الممتع الذي لا يكل منه القارئ، ولا يمل، بل يواصل الإبحار عميقاً في جوف المعنى مع هذا الأسامة، الذي يخلخل الذاكرة، ويعيد لها توازنها، كما يعيد لنا ما كان من خيبات وأوجاع وأمراض، بعضها تجاوزناه، والكثير منها ما زال يرافقنا حتى يومنا.

الأحد، 29 مايو 2016

رواية مجانين بيت لحم/باء رحّال


إنها الطريق، طريق المجانين، اللذين استقر بهم الحال في المصحة، يجدفون أيامهم في الحياة شاكرين الحظ علی نعمة النسيان، ووحدنا القريبين من تفاصيلهم، هكذا كنا نعتقد قبل أن نقرأ الكتاب الذي يحمل اسمهم، حين دعانا الكاتب الرائع اسأمه العيسة لنأخذ أشواطا من القراءة المعمقة في حياة تلك الفئة من الناس الذين لم يعتدوا على احد بل احتملوا اعتداءات العقلاء عليهم دون أي ذنب.

الثلاثاء، 19 أبريل 2016

لم أجد حنا السكران/بهاء رحّال

 مرة ثانية أعود متلهفاً لروايتك لعلي أخطف منها قبلة أخرى على صدر الذاكرة، مرة أخرى أعود متمنياً نهاية أجمل ل سميرة التي وجد لها حبيبها " رائد" عذر عاشق طاف به كي لا يصاب بالصدمة، فقلل من بشاعة التحول الذي رآه حين التقاها بعد سنواته العشرين في المعتقل، ليس فقط في سلوكها ولا فيما رأى فيها من برجوازية، بل في معتقداتها وأفكارها ونسيج روحها وما كانت تحمله عبر سنوات عمرها الأولى من وطنية كاملة، فهل وقف الحب حائراً، حين لم يُسقط "رائد" سميرة، من صورة الفتاة المثقفة الوطنية التقدمية الاشتراكية التي كانت تتزعم حزباً يناضل من أجل الحرية وحياة كريمة وعادلة. بعيدة عمن كانت تسميهم سارقي خبز الفقراء، فوجد لها العذر وغفر لها ومضى.
عدت لأبحث عن حنا السكران ببيت لحم، في مطعمه الذي يشرب فيه السوائل، لم أجده كما لم أجد بيت لحم التي حدثتنا عنها يا صديقي، كأنها الشهية الغائبة، كلما حاولت إمساكها هربت، كنتُ كما رائد غريباً يمشي على قدماه المتعبة، قريباً يحلق في فضاء الذاكرة بين فصل مضى وآخر يُبعث بالبشارة.

أكتب لك يا صديقي وأنا متيقن أني سأعود مرة ثالثة باحثاً عن قبلة هاربة في قبلة بيت لحم الأخيرة أشتهي وصلها في المسافة العالقة عند حدود الذاكرة.‏

الاثنين، 21 مارس 2016

بَهَاء بَهَاء رحّال..!


كتب بَهَاء رحّال:
أن ترافق أسامة العيسة في خطواته نحو الحوش القديم في البلدة التي تكونت فيها روايته وانبعث لتكون قبلة كاملة الضياء يعني ان تكون محظوظاً وان يكتب لك العيش للحظات في طقس آخر من تراجيديا الذكريات ، وأنت تشتم من كلماته رائحة الأمكنة التي عاشتها فصول الرواية ، تماماً كما عايشها السكان الأولين والآخرين في بيت لحم التي تنبعث من بين جدرانها العتيقة رائحة الحياة.

برفقة الأستاذ أسامة العيسة والأستاذ يعقوب الأطرش والإعلامية مهى يوسف نحو حوش حنانيا لحضور أمسية قبلة بيت لحم الأخيرة.