أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الخميس، 11 يناير 2024

في الطريق إلى عرتوف!





















 

في الطريق إلى عرتوف!

كان ذلك في 14 أيَّار الماضي (قبل يوم من يوم النكبة الرسميِّ)، قلت لنزار: هذا المشوار يكون مرَّة واحدة في العمر.

بعد جولة في وادي القطلب (الشجر قاتل أبيه-يا لعمرٍ أمضيته في إمضاء قتل الآباء من بيولوجيين إلى أيديولوجيين)، في قرية دير الشَّيْخ، قرَّرنا الاستمرار في استشكاف أحد المقاطع المهمَّة من وادي الصرار، الذي يقطع الهضبة الفلسطينيَّة الوسطى، إلى بحر يافا.

منذ الكورونا، أوقفت دولة الاحتلال سير القطار العثمانيِّ، بمحاذاة الوادي، بين محطته الرئيس: قدس شريف (حولها المحتلون إلى بزار وفضاء ترويحي)، حتى محطَّة عرتوف/ديرأبان.

بدأ العمل في سكة حديد القدس-يافا في 31 آذار 1890م، وفي 26 أيلول 1892م، سار أوَّل قطار من القدس إلى يافاـ على سكة بطول اثنين وثمانين كيلو مترًا، ووصل يافا في نحو ثلاث ساعات وخمسين دقيقة، قاطعًا إحدى عشر محطة، من بينها محطَّة عرتوف (محطَّة بيت شيمش بعد الاحتلال). تجمَّع النَّاس في القرى التي مرَّ بها القطار، للتعبير عن فرحهم، بهذا الذي يتلوى كالأفعى بين جبالهم وأوديتهم، خاصة وادي الصرار المهيب.

تشبَّع نزار من مقام الأمير بدر، الذي قدَّسه مسلمو برّ القدس ومسيحيوه، ويقدِّسه اليهود الآن، أيضًا. أخذوا المقام غنيمة حرب، مع الأرض والماء وسكِّة القطار وأبقار قرية صرعة، وأوَّلوا تقديسًا لمقام الأمير العربيِّ الأسطوري، باعتباره يساعد العقيمات، فيمنحهن أمل الولادة. في روايتي: وردة أريحا، شغب مع مأثورات الأمير المقدَّس.

بعد تفقد محطَّة القطار في دير الشَّيْخ، صوَّر نزار الكثير ليطلع عليه أهلنا الدراشخة، ورثت أمُي ورصيفاتها، صفة الدرشخي، تطلق على اللاجيء من دير الشَّيْخ، من أيَّام البلاد. أصدقاؤنا الدرشخُّيون، من عائلة الشريف، لم يشهدوا فقط عام النكبة، ولكن تعرضوا، مع آخرين لتطهير عرقي، بعد النكسة، من الحبيلة، التي يسيطر عليها الآن، تجمع غوش عتصيون الاستيطاني.

شددنا نحو الغرب، هضابنا المنخفضة، ننكب الأرض التي نُكب منها الآباء والأجداد. من دير الشَّيْخ إلى دير الهوا. لم تنجح أمهاتنا في اجتراح علمًا للاجئين من دير الهوا.

 مع التقدم، لاحظ نزار أنني أسبقه، لا بد أنَّه شعر باحباط لا يقر به، مع انشغاله بالتوثيق. علامة إحباطه إحمرار غير مكتمل للوجنتين، إحباطي الآن أكبر من أيَّة علامات.

مع اقترابنا مع عرتوف، فتحنا محادثة مع بهاء. تدفقت العواطف، غمرتنا وغمرت بهاء العرتوفي. بهاء مشَّاء مثلنا، لكنَّ رهافته الشعريَّة قد تحول دون المسافات الطويلة. لكنَّه لا بد سيكون معنا في مشوارنا المقبل، في اليوم التالي بعد أُفول تل أبيب.

اقتربنا من محطَّة عرتوف، في عام النكبة، تحوَّلت إلى مخيم لاجئين، تدفَّق إليها ناس القرى المجاورة. الدنيا رمضان، يتجمعون في المحطَّة نهارًا، ويعودون إلى منازلهم ليلًا. انتقل الكثير منهم إلى قريتنا زكريا، انتثروا تحت الزيتون. جاء يوم، بعد أشهر، فلم يعودوا، ولم نعد إلى منازلنا،، انتثرنا حتى الآن، في بلاد النَّاس. انسحب الجيش المصري من حامية دير بيت الجمال، أمضيت ساعات في الموقع، متصورا الأحاديث الأخيرة بين الضابط المسؤول، والنَّاس. نصب المصريون، حاجزا على وادي القف، ومنعوا اللاجئين المستقبليين، من أن يصبحو لاجئين. تقدَّم أبو عوجان الضرير يدق الأرض بعصاه، يتمتم: يا هادي، مخاطبا المصريين: أنتم هربتم أولًا، اسمحوا لنا لأن نصبح مثلكم من الهاربين!

لم تعد جميع محطَّات سكة حديد القدس-يافا تعمل الآن، ولكن القطار ما زال يسير على محطة عرتوف، لا ينتظر ناسها الذين طالت غيبتهم. من يفوِّت محطَّة، قد يمرّ قطار العمر، دون أن يلحق بقطارها. لكنني ونزار أردنا محاربة طواحين الهواء، وما زلنا. البلاد كلها، بلادنا.

وصلت المحطَّة، متقدمًا مسافة قصيرة عن نزار، لأختبر سوء الطالع وعاقبة سوء الظن باحباط نزار. كانت مفاجأة سيئة بانتظارنا، واجهنا سلاحهم المشهر، بالضحك، واللامبالة، فنحن في المحطَّة التي تنقَّل من خلالها أهلنا، قبل عقود فقط بين هضابهم المنخفضة الدافئة، والقدس، والرملة، ويافا.

وقفنا في الظلام، على مفرق عرتوف، في انتظار حافلة القدس، نسمع دبيب الآباء، ونزار يمسك بشدة بحزم المرمية الناجية، نبتتنا المقدسة، من أمنا مريم الأولى وكأنَّه طفل المغارة.

انتصبنا، أمامنا حرش صرعة أعلى التلال، مثل شجر القطلب، بسيقانه الحمراء، رمزًا لدماء الآباء المقتولين، تصتطبغ يداي بدماء الآباء القتلى. جئت، منهزمًا، معتذرا أيها الأسلاف.

ما دام لم يقطلبونا (على قولة الرفيق اللحياني: قَطَل عنقه وقَصَله أَي ضرب عنقه)، فسنعود للقطلب، وهو ما حدث، ولو مقصلين.

أقترب من اليوم المئة، الذي لم أتنفَّس فيه هواء تلك الهضاب، يرى نزار في داخلي أكثر من الإحباط، وأنا أتضور عشقًا.

مناسبة الكلام، صورة من الإرشيف الإسرائيليِّ بعد احتلال عرتوف، وما جاورها، كعسلين وأشوع (ما أطيب ناسنا، فيمجدوا أسم يوشع بن بنون، أحد مجرمي حرب الشرق القديم، باسم قريتهم)، وشق طريق غاندي، فخر العصابات الصهيونية، لتخطي طريق باب الواد.

قريحة الأمهات، لم تتفرمل كما حدث مع دير الهوا، أمام الاجتراحات، فاشتقت: صرعاوي (من صرعة)، وشوعاني (من أشوع)، وعسليني (من عسلين) ورفاتي (من رفات) وديرباني (من ديرأبان) وعجّوري (من عجُّور) ونتيفي (من بيت نتيف) وعطابي (من بيت عطاب) وعلّاري (من علّار)، وراسي (من راس أبو عمَّار) وقَبوي (من القبو) ووادي (من وادي فوكين)، ومحسيري (من بيت محسير)، وياسيني (من دير ياسين)، ومالحي (من المالحة)، وصطافي (من صطاف) وعكرماوي (من عين كارم) وغيرها من محطَّات يومنا الآتي.

#محطة_عرتوف

#نزار_العيسة

#بهاء_رحَّال

#دير_الشَّيْخ

#دير_الهوا

#أسامة_العيسة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق