أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 12 ديسمبر 2021

وعد يهوه ورحمة عشتار/ صبحي فحماوي


 


لكل روائي/أديب خطه الخاص، من يتابع أعمال "أسامة العيسة" يجده مهتم بالتاريخ، إن كان قديما أم حديثا، فغالبية أعماله تتناول التاريخ، وكأنه به يؤكد على أن الإنسان الفلسطيني متجذر في هذه الأرض، وهو موجود وحاضر وفاعل، قبل أن يأتي الغزاة والمحتلين، تاتي رواية "الإنجيل المنحول لزانية المعبد" ضمن هذا الخط، فهو يتحدث عن الوجود الكنعاني/الفينيقي على أرض فلسطين، ويتحدث عن الدخلاء الذين اعتمدوا على "وعد يهوه" بإعطائهم الارض.

ونجد الفرق بين قسوة "يهوه" وأتباعه "يهوذا"، ورحمة "عشتار" واجتماعية "الكنعاني/الفينيقي "تمارا وأسرتها" الذين تعاملوا بروح مدنية مع الدخلاء أتباع يهوه.

عشتار/البعل

من هنا سنحاول الدخول إلى المفاصل الثقافية والحضارية بين الدخلاء وبين المتجذرين في أرضهم، ونبدا الحديث عن الأرباب، فلكل طرف رب/آلهة خاصة به، ياتي ذكر عشتار بأكثر من موضع في الرواية، تحدثتنا "تمارا" عن عشتار بقولها: "...عشتار فأظنها لا تمناع، المسكينة مستكينه في مخبئبها، تحميني في ديار زوجي الغريبة عني، ...نحتاج مطرك، وغوائك، نحلك، وقمحك، وشعيرك، وزيتونك، ونبيذك، ولكا ما وهبتنا إياه، يا أرباب السموات، أحنوا علينا نحن عبيدكم الأرضيين" ص71، نجد مجموعة صفات متعلقة بالخصب/الخير، وأيضا نجدها توفر الحماية للناس، فهم يحتمون بها لأنها ملاذهم من الأخطار، مهما كان مصدرها، ومهما كانت طبيعتها: "...زنريني بالطمأنينة يا عشتارـ ونضري وجهي، وقلبي، بزيتك المضيء" ص141، هذا الدعاء جاء في وقت صعب مرت به "تمارا"، لكنها ايضا في الحالات الاقل خطورة تستعين بها: "يا عشتاري، ما زلت آلهتي، وما زالت أحبك، أنت الآن أكثر من اي وقت مضى، ملجأي، من تقولات قومهم وقومي" ص98، نلاحظ أن الاستعانة بعشتار يأتي حتى المسائل الاجتماعية، وهذا اشارة إلى قوة حضورها في الثقافة الدينية الفينيقية/الكتعانية.

ولم يقتصر حضور "عشتار" في الدعاء فقط، بل نجدها تتوحد/تتماهى مع عبادها: " ..وشعرت أن عشتار ترمي علي روحها، فتتخلل جسدي، فتشجعت، ووقفت أمام المقتحمين، وأنا أحمل سكينا، وأراهن، على أن  لا أحد يمكن لأن يغامر ويقترب من مجمونة تحمل سكينا مدببا" ص228،  بهذا المشهد، نتاكد أننا أمام حالة تماهي بين العابدةمتمارة، والمعبود/عشتار، وهذا يشير إلى قوة الإيمان ورسوخوه.

أما "البعل" فنتعرف على صفاته وطبيعته بما جاءت به "تمارا": "ويإله المطر والخصب الذي يرعانا، ويهتم بمزرةعاتنا، ويتحكم بمقدار الامطار التي ينزلها من السماء، لتروي ارضنا، وعندما يتأخر في غيثه، نعرف إنه غاضب علينا، فننظم الاحتفالات الصاخبة، نخرج نغتي له:

يا بعل، يا بعلنا

نحن بناتك وأولادك

ننتظر ماءك

لا تحرمنا رحمتك، ولا تأخذنا بجريرة أشرارك

نحن الأولاد  والبنات أخيارك

يا بعل يا بعلنا" ص116و117، غذا ما توقفنا عند طبيعة الآلهة الفينيقية/الكنعانية نجدها متعلقة بالأرض، وهذا يشير إلى أن هؤلاء القوم يتبعون ثقافة متعلقة بالزراعة/بالخصب، بالخير الذي تعطيه لهم الأرض، لهذا أوجدوا أرباب (زراعية).

لهذا نجدهم قوم منتجي يفضون العمل بالأرض على القتال والحرب: "...من رسائل بعلنا: حطم سيفك وتناول معولك، وتعال معي نزرع السلام والمحبة في كبد الأرض" ص172، بهذا نتأكد على أن الطبيعية الكنعانية/الفينيقية تدعو للسلام والبناء والإنتاج، وتبتعد عن الحرب والقتل والدماء.

"يهوه"

في المقابل نجد يهوه يتناقض تماما مع "عشتار/البعل" فهو رب منتقم/قاسي/ يفرح بتنسم اللحم المحترق، كما انه رب لمجموعة معينة من الناس، اختارهم بطريقة عنصرية ليكونوا عباده من دون البشر، يتحدث "عيرا" عن ربه بقوله: "ما حدث لابينا إبراهيم، من مغادرته بلده، إلى البلد الموعد، كان بأمر الرب، الذي اراد تأكيدا على طاعةإبراهيم وقومه، قطع تلك القطعة من جسده، وعندما أوفى أبونا بذلك، وجمع القلف، وشم الرب رائحتها، قال لأبينا إنه سيتذكر دائما عبير رائحة القلف" ص33،  فما هي طبيعة هذا الرب الذي يفرح لرائحة الأجساد/"القلف" المحترقة؟، لهذا نجد "تمارا" تستعرب من هذا الرب: "إنه لا يجدر برب أن يجعل من رائحة أجساد جزء من مخلوقاته، عبيرا بخوريا زكيا" ص33.

ولم يقتصر هوس الرب بالمحروقات البشرية فقط، بل نجده يعاقب عبادة، ويعذبهم، لمجرد أنهم يختلطون بغيرهم من الناس، ويتزوجون منهم، تخبرنا "تمارا" ما اصاب زوجها "عير" قائلة: "بدأ زوجي يعاني، يعرف الرب كيف يصل لعبيده، ولا يتأخر، ..ضرب عير بالضنى، والحمى، والبرداء، والتهاب مصحوبا بجفاف، ثم الصدأ، والذبول، لم يشأ الرب الانتظار، لم يرغب بتذوقي عسل زوجي، وتذوقه عسلي، لأكون له نعمة، ويكون لي رضا" ص65، يبدو ان طبيعة هذا الرب  بشري أكثر منه إلهي، لهذا ينتقم بتسرع من عباده، ولا يعطيهم فرصة ليصلحوا ما اقترفوه من (أخطاء).

وبما أنه إله أوجد مجموعة (مختارة) من الناس ليكون عبادا له من دون الناس، فقد وضع جاجز بينه وبين من هم خارج تلك الجماعة (المختارة): "... ولكن صحة عير تراجعت فجأة، رغم أنني كررت تقديم الجديان للرب، الذي، لسبب ما لم يتقبل تقدماتنا التي قدمتها باسم عير لعله يعتقد أنها تقدمتي أنا، التي لم يعترف بها بعد أنها من شعبه، وإنما من أولئك الأغيار" ص73، وهذا يشير أنه ان إله عنصري، لا يتعرف ببقيه خلقه، فهو يخص فئه محددة من الناس عن غيرعم، والبقية وهي الغالبية  يتركها ويتجاهلها تماما، فإي رب هذا الذي يتعامل مع البشر بهذه الطريقة؟.

من المفترض أن يكون الرب رحيم على عباده، خاصة بعد أن يعترفوا بخطئهم، وبما اقترفت أيدهم، لكن "يهوه" يرفض هذا الإعتراف، ويبقي  غضبه متقدا: ".هل يمكن للرب الغيور المنتقم أن يغير رأيه؟ لقد أرانا قدرته، ووصلنا تحذيره، ولم يعد هناك أي داع ليفرقني عن زوجي حبيبي" ص75.

يهوذا

من هنا سنجد قسوة الرب تنعكس على عباده، فهم يتصفون بصفات ربهم، ويتماثلون معه، "يهوذا" يتماثل مع "يهوه" على الأرض، فهو يقتل ولا يرحم: "...فرفع والدي حجرا ضخما، ورماه على جواد الملك، فقتله وجواده،...وقتل والدي أيضا وأيضا ملكا كنعانيا وهو يمتطي جواده، وشتت جنده في الأنحاء" ص45،  هذا ما قاله "عير" عن والده "يهوذا"، فهو يعترف بأنه قاتل ولا يرحم، لكن هناك صورة أخرى له عند الكنعانيين/الفينيقيين، يحدث أحد الفتية عن "يهوذا بقوله: "يهوذا قاتل ومجرم، وسارق أرض، توسع وقومه على حساب أرضنا، بالاحتيال على ناسنا الفلاحين الطيبين، الذين لم يخبروا شرا مثل شرور يهوذا وقومه، الذين تمسكنوا حتى تمكنواـ زعندما لم يفد التمسكن، قتلوا، وحرقوا، ومثلوا بالجثث، ولا أجد داعيا لتذكيركم  بالمذابح التي ترتكبها عدونا" ص54.

 هذا على صعيد السلوك والفعل، لكن عقلية "يهوذا" هي من تعطيه المبرر للقيام بمثل هذه الجرائم والشرور بحق الآخرين، فكيف يفكر "يهوذا"؟، وما هي الاسس التي يعتمدها ف تفكيرهن يخبرها عن شيء عن هذا التفكير بقوله: "...بأن عرق الكنعانيين، كان منحرفا، مغضوبا عليه من الرب، يمدون العالم، بمعظم أغبيائة، ويظهرون غير ما يبطنون" ص103، بهذه العقلة التي يفكر بها "يهوذا، تجعله شخص عنصري بامتياز، وله قول يؤكد هذه العنصرية: "يأكلها التمساح، ولا يأخذها الفلاح" ص172، وهذا ما يجعل التعامل مع هكذا  عقلية مسألة مستحيلة، فهناك تكامل بين التفكير المتخلف العنصري وبن السوك الإجرامي.

الكنعاني/الفينيقي

في المقابل نجد سماحة الكنعاني/الفينيقي وتحضره في التعامل مع الآخرين، بصرف النظر عن دينعم ومعتقدهم، تحدثنا "تمارا" عن والدها: "لم يجد والدي أي مانع ديني بارتباطي بعير، رغم خشيته من موانع اجتماعية، ..بدا سعيدا بسعادتي المقبلة، قال لي وكأنه  يطمئن نفسه: يهوذا اصبح وكأنه واحد منا، وسيكون لي اخا" ص53، وهذا الفرق بين العقلية المجتمع المدني المتحضر، وعقلية القبيلة/العشيرة.

وهناك  عقلية منفتحة حتى مع التعامل مع العدو المتخلف/العنصرين تخبرنا "تمارا" عن رؤية والدها للتعامل مع الأغيار/الدخلاء: "..علينا أن نؤنسن  العدو، حتى نفهمه ، نغلبه، ولا تكون الغلبة بتوتير السهام، وإنما بما يمكن أن نقدمه في ثراء عقول الناس" ص55، بهذه العقلية الاجتماعية استطاع الكنعاني/الفينيقي أن يصل إلى شمال افريقيا وجنوب أوروبا ويقيم مدن وموانئ ومحطات له، وأصبح وجوده في  شمال وجنوب وعرب البحر المتوسط، الذي سمه  باسمه البحرالفينيقي/السوري.

ولم تقتصر ميزات الكنعاني/الفينيقي على الفكر والتهامل الاجتماعي، بل طال أيضا العمل الإنتاجي، الذي نهنمد عليه حياة الناس:

"جد الزيتون في شهرين

وأرمي الحب في شهرين

ومدد رجليك شهرين وكأنهما يومين

واجمع الكنان في شهر

واحصد الشعير في شهر

 واقطف العنب في شهر

وخزن شهدك في شهرين

 واجن فاكهة صيفك في شهرين" ص229، وهذا ما جعل المجتمع الكنعاني/الفينيقي مجتمع منسجم بين ما يفكر به ويقوله ويفعله، وبين طبيعة الانتاج الذي يقوم بانتاجه، فهو مجتمع مدني، حضاري، منتج، مرفه، يحسن العمل والتفكير والسلوك، ويعرف كيف يستريح.

بهذه الفروقات بين "عشتار ويهوه"، وبين والد "تمارا ويهوذا" يمكننا أن نجد الهوة الحضارية والثقافية التي تميز الكنعاني/الفينيقي عن الإسرائيلي، فالأول يفكر ويتعامل ويتصرف بطريق مدنية اجتماعية، ويعمل بالأرض لينتج غذائه وما يحتاجه، والثاني يفكر بطريقة العشيرة المقدسة، ويتصرف على أن المختار من قبل الرب يهوه، وله أن يكون فوق الآخرين لمجرد أنه يعبد هذا الإله الذي يفرق بين خلقه. 

-الرواية من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت لبنان، الطبعة الاولى 2021

#صبجي_فحماوي

#الإنجيل_المنحول_لزانية_المعبد

#المؤسسة_العربية_للدراسات_والنشر

#منع_في_عمّان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق