في 10 نيسان
2015، أرسل لي جهاد هديب، أسئلة حول رواية (مجانين بيت لحم)، نتج عنها، حوار هو الأروع،
عن الرواية، وربما الاهم أيضا. كان مقررا لينشر، كما أخبرني في صحيفة الاتحاد
الاماراتية.
أنشر الحوار
هنا، الذي لم ينشر، حسب علمي، في أية صحيفة.
شكل ومضمون
*جهاد: من
وجهة نظر شخصية كقارئ، استطيع القول، بحسب "مجانين بيت لحم" أن الرواية،
عموما، بالنسبة إليك هي بحث في الشكل والمضمون معا. هل كتابة الرواية بالنسبة إليك
كذلك، أي أنها بحث يتخلق شكلا ومضمونا أثناء الكتابة أم هي فكرة تأتي من مصادر
عديدة ثم تنضج مكتملة فتكتبها كما هي؟ أرجو أن تكون الإجابة تفصيلية في أي من
الحالين.
-أسامة: لا
يوجد لدي أسلوب معين لكتابة رواية، الشيء المهم والثابت، هو انني أكتب بانتظام، لا
توجد لدي حياة أخرى خارج الكتابة، كل نشاطاتي الحياتية، مسخرة للكتابة، وفي الوقت
ذاته فانني تنبهت منذ البداية، بان الرواية كفن، ليست مجرد كتابة سيرية، أوّ
تخاطرات، أوّ يوميات، أوّ نتف من تجارب ما، وإنما هي، في الواقع، نوع من الصناعة
الثقيلة.
أؤمن بان إذا
لم يكن لدى الكاتب، أي كاتب، شيئا جديدا ليقدمه، فلا ينشر، لان شرعية أي عمل أدبي،
برأي، هي ان يُقدم جديدا، ما معنى ان نكتب كالآخرين؟ لذا فانني لا اكتب
"الرواية" مرتين، كل رواية هي مغامرة جديدة في الشكل والمضمون. لست
مخلصا لشكل واحد أوّ مضمون معين، كل رواية هي نتيجة الملاحظة، والرحلات الميدانية،
والأبحاث في طبيعة الأرض والانسان والحيوان والنبات في فلسطين، التي تشكل محور
كتاباتي، فالمسألة لدي تتشكل من كل هذه المنابع في الوقت ذاته، فان العمل النهائي
على المخطوطة قبل النشر، يتطلب تخطيطا صارما، وتدقيقا، ربما يسميه بعض الأصدقاء
مرضيا، والسبب هو انني اكن احتراما لا يوصف للقاري، قد يتطلب مني مثلا، كتابة جملة
عن بناية في شارع ما، الذهاب أكثر من مرة إلى هذا الشارع، والسير فيه، لكي يشعر
القاريء بصدق ما كتبته. ليس لدي، لاحترامي لهذا الفن العظيم، أي مجال للعفوية أوّ
الصدف، وإنما للعمل والعمل والصدق.
بين المتخيل
والواقعي
*لا أريد
القول أنك استفدت كثيرا من تقنية السرد كما في كلاسيكيات السرد العربي القديم حيث
تتداخل الحكايا، في مجانين بيت لحم، بطريقة فانتازية أوّ مجنونة بالأحرى وذلك بحسب
منطق الحكاية ذاته الذي يحمل فانتازيته أوّ غرائبيته الخاصة به في داخله، فكيف
اخترت هذه الحكايا التفصيلية الصغيرة لتجعل منها المتن لا الهامش وما هي مصادرك
وما هي الحدود الفاصلة بين المتخيل والواقعي في هذه الحكايا؟
-كل عمل فني
علينا النظر إليه كمتخيل، أكثر ما يزعجني هو السؤال المتكرر من الأصدقاء عن إذا
كان هذا الشخص أوّ تلك المرأة، هو فلان أوّ فلانة؟ من الصعب وضع حدود فاصلة بين
المتخيل والواقعي، بين التسجيلي والغرائبي فيما أكتبه، أنا أكتب عن مكان أزعم ان
العرب، لم يقدموا منذ 1400 سنة، ولم يزالوا، أي جهد معرفي عنه يُعتد به، وإنما
خليط من أساطير الأولين واللاحقين، أنا أكتب عن مكان بِكر، وهذا ما يمدني بشغف
الكتابة، والذهاب برفقة القاريء، الذي أريده دائما هو الدليل، لنمارس معا متعة
الاكتشاف، والمتعة بدون الغرائبية، وما يصلح ليثير الدهشة، تتوقف عن أن تكون كذلك.
لقد استفدت من
التراث، ومن الحداثة الغربية، والعربية، ليس لدي أبطالا في أعمالي، مثل مجانين بيت
لحم، وإنما احتلال المهمشين للمتن لا الهامش، أنا منحاز للهامشين، واللاجئين،
والناس الأقل حظا، لانني واحد منهم، والمجانين هم من يعيشون على هامش الهامش، ولا
صوت لهم، حاولت أن أنطقهم، هي فقط مجرد محاولة، أرجو ان تكون حافزا لهم ولغيرهم ان
يكتبوا تجاربهم، في واقع تصبح فيها الفواصل بين "المجانين"
و"العاقلين" واهية، ومن الصعب تحديدها.
شخصيات خارج
السياق
*تقريبا
وكروائي، لم تحتج إلى شخصيات من خارج السياق الحكائي التاريخي البعيد والقريب
باستثناءات بسيطة، هل كان ذلك ضرورة "روائية" يحتاج إليها السرد ليكتمل
"جنون"ه إذا جاز التوصيف، أم أن الملاحظة ذاتها غير دقيقة؟
-في روايتي
شخوص، عاشت قبل قرون، من عميد مجانين فلسطين عُجيل المقدسي، الذي لا نعرف عنه
الكثير، ولكنه كان بصحبتي، في كل تنقلاتي في القدس، وأخرى معاصرة، تسنى لي رؤيتها
في لحظات الجنون، جنون العظمة، والدكتاتورية، وقلة الحيلة، وتسخير القضايا الكبرى،
من أجل فردانية الزعيم والقائد والرمز، وهو تراث عربي ممتد، وقفت على جانب منه في
كتابي البحثي عن ألقاب الحكام في النقوش التي تركوها على جدران القدس.
بالنسبة لي كل
صدفة روائية، هي ضرورة روائية، لقد جلبت كثيرين وكثيرات إلى الرواية، أوّ ربما الأصح
هم جاؤوا، غصبا، او بإرادتهم، ثم انسحبوا، لأسباب مختلفة، ربما لم يكن لهم مكان في
(مجانين بيت لحم)، وبالتأكيد، ينتظرون في المحطات أعمال أخرى ليحجزوا أمكنة
تناسبهم أكثر.
الرواية، هي
بحث، وجد، ومرح، وسخرية، وجنون..!!
*لاحظ المثقف
والناقد ثائر ديب تلك الصلة بين مجانين بيت لحم وأدب إميل حبيبي على مستوى السخرية
فيما أحسب، لكن أيضا لاحظت انك ربما بطريقة واعية أوّ لا واعية كنت تسعى إلى
"اختراق" أوّ "تجاوز" لإيميل حبيبي في روايته الأشهر "الوقائع
الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، هل فعلا كنت تفكر بهذه الرواية
أثناء الكتابة؟ لا أتحدث هنا عن التأثر والتأثير بل عن التخطي والتجاوز بمعناه
الأدبي حصرا.
-حظيت بلقاء
إميل حبيي، أكثر من مرة، وهو شخص، على ما بدا لي مهجوس باللغة، إن جاز التعبير،
والتي تشكل البطل الأهم في أعماله، ربما جئت أنا إلى عالم الأدب من مكان أخر.
أعتبر، روايته
(المتشائل) التي وصفها حبيبي، ببيضة الديك، هي فعلا بيضة الديك في الأدب العربي،
ولا أريد ان اقول العالمي، لانني غير مطلع على كل هذا الأدب، وأرجو ان تسمح لي ان
اشير سريعا، إلى ان ثيمة النسيان، غير العضوي، التي تظهر في قصة (واخيرا نور
اللوز) في سداسية حبيبي، اقتبسها على الأغلب الكاتب العالمي ميلان كونديرا، في
روايته (الجهل)، وكتبت مقالا وقفت عليه، مندهشا من جملة مقارنات بين القصة
والرواية، جعلتني اخمن ان كونديرا لا بد انه اطلع على عمل حبيبي.
بالنسبة لي
ولجيلي، فان تجاوز حبيبي، وغسان كنفاني، وجبرا إبراهيم جبرا، أُعتبر أمرا خارقا،
ولم نفكر فيه أصلا، يمكن لواحد مثلي، ان يحتفل، إذا رأى النقاد، ان له هوية أدبية
خاصة به، بدون التفكير بقتل الأب أوّ تجاوزه أوّ اختراقه، عموما أنا اعتبر حبيبي،
أحد الحرفيين الكبار في صنعتنا، وأحب أن أكون تلميذا له.
محاكمة مرحلة
*هناك قيمة
رمزية للرواية، بالمعنى النقدي، فهي تحاكم مرحلة بأكملها، بما في ذلك المرجعيات
التاريخية لهذه المرحلة، وأظن أنها مرحلة أوسلو وما بعدها أوّ "السفر
المشمشي" بحسب منطق الرواية. هل تعتقد ان العمل الفني، والروائي خصوصا، لديه
المقدرة على محاكمة الواقع، أوّ أقلها تشريح دوره خاصة في مرحلة تشعر الناس فيها
بالهزيمة؟
-مشروعي
الروائي قائم على تقديم المكان الفلسطيني، برؤى جديدة، بعيدا عن الاجترار الإعلامي،
وخطب السياسيين وكذبهم، أنا اعتقد ان الكتابة، هي فعل تجاوز، للسياسي، والتعليمي،
والبنى الثقافية في المجتمع، وحتى لما يمكن ان يسمى فلسطينيا "المشروع
الوطني" الذي تغير خلال قرن بشكل درامي غريب، وفي كل مرحلة نجد ان هناك من
يدفع، بإخلاص، حياته ثمنا له، مثلا حدود فلسطين الانتدابية، وهي اعتباطبة، توصف الان
بفلسطين التاريخية، وهي أقصى ما يمكن للفلسطينيين ان يفكروا به، ماذا يفعل الكاتب؟
هل يكتفي بدور المصفق للشعارات، ويبر الهزائم، ويسميها انتصارات؟
أنا أحد
الشهود على مرحلة أوسلو، شاهد على واقع ثقافي، وإعلامي، وسياسي مهزوم، وعندما كنت
أرى ما يحدث، اعتقدت بانه يمكن، من خلال القلم الذي لا أملك سواه، وسط جنون
الهزيمة، أن انتصر لكل أحزاننا، ودماءنا، وآمالنا، نحن البسطاء، الذي ينظر إلينا
من توالوا على حكم بلادنا، كوقود لحروبهم الكبيرة، أوّ الصغيرة، يقتلوننا في
بلادنا، وفي أحيان لست نادرة يرسلوننا إلى وراء المحيطات لنموت، ويجعلوننا نعمل في
أرضنا كالعبيد، ما يهمهم هو الضرائب والمحاصيل، خلال القرون القليلة على الأقل،
وحتى الان، هكذا ينظر حكام فلسطين لشعبها، وكأنهم ليسوا منه، وأظنهم كذلك.
العمل
الروائي، لديه المقدرة على تشريع الواقع ومحاكمته، وعلى كل شيء، حتى اجتراح المعجزات..!
*ماذا عن هذه
الجائزة: الشيخ زايد للكتاب هل كنت تتوقع الفوز بها خاصة وان "مجانين بيت
لحم" دخلت إلى المنافسة مع "هنا القاهرة" للروائي المصري المخضرم
ابراهيم عبد المجيد والشاعر غسان زقطان الذي يعتبر الآن واحدا من أبرز شعراء
فلسطين وديوانه: "لا شامة تدل أمي عليّ"؟.
-عندما اُدرجت
روايتي في القائمة الطويلة، وسط كوكبة من كبار الكُتاب، سعدت، وعندما تُوجت مع الروائي
إبراهيم عبد المجيد والشاعر غسان زقطان، اعتبرت ان ثلاثتنا فزنا، وهذا في الواقع
ما أشعرني به الأصدقاء من الأدباء، لا أرغب أبدا، ولا اسمح لنفسي، بتسمية إدراج
الرواية في القائمة القصيرة، مع قامتين روائية وشعرية، منافسة، وإنما هو فيض
ابداعي مما لدى العزيزين عبد المجيد وزقطان.
*أخيرا: ما
الذي يعنيه لك الفوز بهذه الجائزة تحديدا؟ وكذلك ما الذي يعنيه أن تحصل على أول
جائزة أدبية بهذه الأهمية؟
-الكتابة
بالنسبة لي هي فعل يومي، ولم أفكر يوما بالجوائز، ليس لأنني اكرهها، ولكن لسبب
بسيط، انني كنت اعتقد انها ليست لامثالي، ممن اختطوا اسلوبا معينا في الكتاب
والحياة لذلك اعتبر ان فوزي بالجائزة المهمة، هو انتصار للجد، والعمل الدؤوب،
والبعد عن الشللية، والعلاقات العامة، وعن السلطات بكافة أشكالها، والانحياز لمن
لا صوت لهم، وللاحترام الكبير للقاري، والكلمة المكتوب.
هي تقدير
لإخلاصي لسحر الكتابة، ومحاولاتي التي لن تهدأ لفك ألغازها، وإعادة تركيبها..!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق