صدرت رواية "مجانين
بيت لحم للأديب الفلسطيني أسامة العيسة في أواخر العام 2013 عن دار نوفل في بيروت،
وتقع في 254 صفحة من الحجم المتوسط.
يفتتح الكاتب
روايته بـ "احتراز" جاء فيه: "في هذه الرواية –الشهرزادية، مثل ما
في الروايات الأخرى قليل من الحقائق، كثير من الخيال، وثرثرة...تماما مثلما هي
الحياة" وفي "الشهرزادية" هذه اعتراف من الكاتب بأنه يكتب حكايات
على غرار ألف ليلة وليلة، وفي مدخل الرواية يكتب: "ولكن هذا لن يمنع القارئ
من المطابقة بين الراوي والمؤلف، ولن يسبب لي ذلك أيّ حساسية ولن أجهد لنفي
ذلك" وهذا اعتراف ثان بأن الكاتب يكتب عن جانب من تجاربه، وبعضا من ذكرياته،
مشوبة بشيء من سيرته الذاتية، مع التأكيد بأنه لم يكتب سيرة ذاتية.
وأديبنا أسامة
العيسة في هذه الرواية يقدم لنا نصوصا متشابكة، ومثيرة للجدل، وفيها خاض التجريب
وجاءنا بإبداع جديد، أبطاله مجانين، متكئا على لغة انسيابية جميلة كما هي لغة
الحكايات، مع أنه يروي الحكايات ولا يحكيها. واعتمد على السخرية كأسلوب لحكاياته
المتعدّدة والتي يربطها خيط الجنون، جنون المكان، جنون الانسان، جنون الحروب، جنون
مفاوضات السلام، جنون الساسة، جنون الأباطرة والرؤساء، جنون الصحافة والصحفيين،
جنون العادات والتقاليد، جنون الشعراء والأدباء والمثقفين، جنون الأطباء
والممرضين، جنون الدّين والمتدينين، جنون المدينة والقرية والمخيم، جنون الأحزاب
والتنظيمات والفصائل، جنون الدّول، جنون النضال والفداء، جنون الانهزاميين
والمتخاذلين، جنون المال والاقتصاد، جنون الشعب الذي ينطلي عليه جنون المجانين
كلهم، جنون العالم، وجنون السّارد الذي هو الكاتب نفسه....الخ.
والقارئ
لملحمة الجنون هذه سيجد أن الكاتب قد بذل جهدا كبيرا حتى تمكن من كتابتها، فقد
اطلع على عشرات إن لم تكن مئات الكتب التاريخية والأدبية والدينية والسياسية
والفلسفية، والتقط منها ما يخدم مشروعه الروائي، تماما مثلما استمع الى مئات
الحكايات والشعبية، والروايات الشفوية عن نكبات الشعب الفلسطيني الأولى والثانية
والمستمرة، ومعاناة اللاجئين الفلسطينيين وذكرياتهم عن الفردوس المفقود، وحنينهم
اليه، بل واستشهادهم في سبيل العودة اليه، وحتما مثلما استفاد من عمله الصحفي،
ومتابعته بل ومشاركته في نشاطات سياسية، وتسجيله ما يخدم مشروعه الروائي أيضا، كما
استفاد كثيرا من ولادته وسكنه وعيشه في مخيم الدهيشة المحاذي لمدينة بيت لحم،
وبينهما مستشفى الأمراض العقلية، وما يترتب على ذلك من معايشته لبعض نزلاء هذا
المستشفى على تفاوت الحالة المرضية لكل منهم.
وهذا العمل
الأدبي يشكل سبقا للأديب العيسة، انفرد به عن غيره من الكتاب، ومن يتابع كتابات
أديبنا بما فيها التقارير الصحفية، سيجد أنه يكتب بطريقة مغايرة شكلا ومضمونا عن
أقرانه، وكأني به يقول "لكم أسلوبكم ولي أسلوبي، لكم ما تعلمتم، ولي ما
أبتكر، فلستم مني ولست منكم، وهو هنا ليس من جماعة "خالف تُعرف" بل هو
مجدّد ومبتكر.
والكاتب هنا
الذي هو نفسه وشعبه ووطنه ضحايا لجنون العالم، وعهر السياسة الدولية، لكنه لم
يستسلم لهذا الجنون، ولم يتصالح معه، بل راقبه وحلّله وسجّله ثم جمعه وربطه ليكتب
فضيحة جنون المرحلة.
وقد تحلّى
الكاتب بجرأة غير مسبوقة، واخترق كل "التابوهات" التي نأى كثيرون
بأنفسهم عنها، فتعرض للقادة ولـِ "الرموز" السياسية والنضالية،
والتاريخية، لم يظلم أحدا، ولم يكذب على أحد، وانما اعتمد على "من فمك ومن
أفعالك أدينك" لا أتجنى عليك، لكنني لا أهادنك.
واعتمد على الكثير من الحقائق، وعلى القليل من
الخيال الواقعي، في قالب سردي ساخر، لا ينقصه عنصر التشويق، ومليء بالكوميديا
السوداء، و"شرّ البلية ما يضحك". وهو بهذا ينشر غسيل حبل الكذب قصير،
وكأن الحياة مبنية على الأكاذيب، وعلى سبيل المثال فقد جاء في الرواية عدّة حكايات
عن سبب تسمية "الدهيشة" المقام عليها مخيم اللاجئين الذي يحمل اسم
المكان، ولا أحد يستطيع الجزم بالسبب الحقيقي لهذه التسميات المتعددة، ولا أيّها
هو الصحيح.
والقارئ
الحاذق لهذه الرواية لن تخفى عليه معاناة الكاتب، وهو يصوغها ابداعا أدبيا، بطله
الجنون. وأن نزلاء مستشفى الأمراض العقلية مع معاناتهم المرعبة، والظلم اللاحق
بهم، هم عقلانيون مستسلمون لقدرهم أكثر من غيرهم الذين يدّعون العقل والحكمة.
وفي تقديري أن
الكاتب لم ينتبه عند كتابته هذا العمل لرائعة اميل حبيبي "الوقائع الغريبة في
اختفاء سعيد لأبي النحس المتشائل، ولا لـِ "كنديد" فولتير من قبله، ولم
يكن في وارده محاكاتهما أو التناصّ معهما.
يبقى أن نقول
بأن أديبنا العيسة قد جاءنا بجديد في تمرد وخروج عن البناء الروائي المتعارف عليه،
وهذا يتطلب اخضاع هذا النص لدراسات معمقة لتحليله وتحليل أسلوبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق