ما زلت مشغولا
برواية "مجانين بيت لحم" لأسامة العيسة. بعد أن عبرت الرواية على تاريخ
طويل في جزئها الأول من تاريخ فلسطين وبيت لحم والدهيشة مخيما ومشفى، ها هي تعرج
على القرن العشرين وخصوصا النصف الاخير منه، تنظر اليه عبر "طاقة
المجانين"!
عشرات
الشخصيات التي تربطها بالسارد قرابة أو صداقة أو توصية عابرة أو جيرة أو فضول،
تملأ صفحات الرواية في جزئها الثاني غير ان جميع تلك الشخصيات لفحتها لوثة من
الجنون.
وهنا لا يهم
من هو السارد: بدل جزء من كل، أم كل من كل للروائي؟
فأن تروى هذه
الرواية بضمير المتكلم ضرورة لا مناص منها، فالرواية لا تستطيع ان تعبر إلا عن ذوي
الإرادة كي تحافظ على نوعها. لا يمكن ان تكتب رواية عن شخص فاقد لقدرته على
الاختيار عندئذ يغيب الصراع وتغيب التحولات وتصبح الرواية تكراراً لمعنى بعينه
تماما كما هو العصاب دوران في حلقة مغلقة.
وهذا ما
تجاوزه اسامة العيسة بان أدار الأحداث في وعي سارد متميز تاريخيا وأدبيا وسياسيا
لكنه واحد من ابناء مخيم الدهيشة وفلسطين. يمكن المرور على الشخصيات واحدة واحدة
والبحث فيما يربط بينها كما يمكن ان نستل ملاحظات الروائي المتناثرة بين الفصول
لنستخلص منها ملامح تجربته مع هذه الرواية وسأضرب مثالا سريعا عما يمكن ان نحصل
عليه.
ففي حكاية
غازي جميل وهو مجنون أخرس يتتبعه السارد ويلتقيه صدفة في مصف سرافيس الداخلية في
وسط البلد بعمان ويمسكه من ثيابه ويذكره بجيرتهم في الدهيشة، وأخيرا يحصل منه على
جملتين تؤكدان انه يعرفه ثم يعود المجنون إلى صمته إلى الحد الذي يدفع السارد إلى
الشك بانه سمع صوت غازي جميل حقيقة ولعل هذا الشك راود أسامة العيسة كثيرا وهو
يكتب، فهل رأى وسمع حقا كل ما كتب أم انه يخيل إليه من سحر الإلهام انه قابل كل
تلك الشخصيات؟ وهل نقل عنها حقا ما أرادت ان ينقل أم انه نسي فقصر قليلا أو كثيرا؟
وهي تساؤلات ممضة، صاغ لها حكاية رمزية تبوح بها.
قراءة مثل هذه
الرواية تثير في النفس خاطرا وهو ان القراءة في الأدب الروائي الأجنبي أقل وطأة
منها في العربي والفلسطيني خاصة. ستتعاطف مع الشخصيات الأجنبية. ستتعلم التحليل
النفسي أو تتشرب الحكمة. ستستمتع وأنت تقرأ اعمق المآسي الأجنبية لكن عند القراءة
في "مجانين بيت لحم" سيختلف الأمر. فانت أمام عمل آسر من الناحية الفنية
لكنه مستل من واقعك. الناس بين دفتي الرواية ناسك. الرواية تقول لك : تفضل شوف.
وتتابع: تفضل افهم. ثم تبقى الجملة الأخيرة معلقة : شفت وفهمت؟ تفضل اعمل! انقذ أحدهم
من الجنون. بأسبابه العديدة المطروقة في الرواية سياسية واجتماعية وعائلية.
الأمر الذي
يذكر بما كتبه طه حسين اثر قراءته لرواية محفوظ زقاق المدق من انها مكتوبة بجهد
الباحث الاجتماعي الذي يقدم تقريرا للمصلح الاجتماعي حتى يتحرك!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق