قديما قالوا
"خذ الحكمة من أفواه المجانين"
لعل المجنون
أقدر على وصف الواقع وتشخيص الداء ووصف الدواء من العاقل. فالعاقل يقف عند حدود لا
يستطيع أن يتخطاها، أما المجنون فلا يحكمه أي حد ولا أي عائق اجتماعي ولا خوف من
سلطان جائر. فابن المقفع أنطق الحيوانات في كليلة ودمنة، فنطقت بالحكمة. أما
النيسابوري في كتابه عقلاء المجانين فقد أثبت أن المجانين أكثر فهما لواقعهم من
العقلاء. فإذا تتبعنا عقلاء المجانين وحكاياتهم، والتي استعار منها الكاتب أسامة
العيسة شخصية عجيل المقدسي، نجد أن المجانين ما هم إلا حكماء هربوا من الواقع الذي
لم يستطيعوا أن يتعايشوا معه إلى الجنون، فولجوا عالما يستطيعون فيه أن يعبروا عن
آرائهم بحرية بعيدا عن عالم العقلاء.
فالكاتب قد
وجد ملاذا في المجانين للتعبير عن سخطه على الأوضاع السياسية والاجتماعية، خاصة
بعد دخول السلطة الفلسطينية وإصابة الكثير من الفلسطينيين بخيبة الأمل، بعد أن
تقزّمت أحلامهم العملاقة بالعودة إلى ديارهم إلى هذا الواقع الأليم.
بعد أن تقرأ
هذا الكتاب تشعر أن هناك مجنونا يعيش في داخل كل واحد منا، يريد أن ينفلت كلما
اقتربنا من مرحلة يبدأ اليأس فيها يتسلل إلى نفوسنا، وأن هناك لحظات جنون تنتاب كل
إنسان. إن نظرية الجنون التي أسس لها أسامة العيسة لتستطيع أن تفسر كثيرا من
الأحداث التاريخية التي ما زال الحاضر يعاني من آثارها المدمرة. فالامبراطور
الألماني الذي جاء إلى بلادنا بصحبة ثيودور هيرتزل، وأسس دير المجانين في بيت لحم،
كان حضوره نذير شؤم على هذه البلاد التي ما زالت ترزح منذ ذلك الحين تحت ظلم
مجنون.
هذه الرواية
هي مجموعة من الحكايات التي مزجت بين الحقيقة والخيال، وربطت بين الحاضر والماضي،
وأدخل الكاتب عنصر الجنون بذكاء حتى لا يلتزم بشكل صارم بوقائع التاريخ. فإذا كانت
الرواية التاريخية التقليدية تحتوي على الكثير من السرد الفني الخيالي البعيد عن
الحقائق التاريخية، وهي تتحدث عن شخصيات تاريخية مؤثرة فتخلق لهم عالما جديدا يمتع
القراء ويربط التاريخ بالواقع، فإننا هنا أمام عنصر آخر يطوع التاريخ للخيال، ألا
وهو الجنون. فالراوي لهذه الأحداث أولا وأخيرا هو مجنون وليس على المجانين حرج.
فإذا لم نستطع أن نصنف هذا الكتاب كرواية تاريخية فلنصنفه في خانة جديدة هي (أدب
المجانين).
إن تعدد
الشخصيات وتنوعها في هذه الرواية تدل أن الكتاب يدور حول الهموم العامة للإنسان
وليس أمام أزمات شخصية محدودة لأناس محدودين. فشخصيات الكتاب، أو مجانينه، تنوعت
من أناس بسطاء لم يحصلوا على أي قسط من التعليم إلى علماء وأدباء وشعراء ورجال دين
وسياسيين. ومن أناس عاشوا بمخيم للاجئين إلى أناس حضروا من اصقاع الدنيا، مثل
الأمريكي ريتشارد، أو الذين عاشوا حياة رغد وثراء في بيروت.
فدير المجانين
الذي انتقلت ملكيته من حكومة إلى أخرى ثم بدأ بالتقلص، واقتطع من أطرافه أجزاء
فضاق الحيز على المجانين الذين نظروا إليه من أغلالهم غير قادرين على تغيير
الواقع، لمثل مصغر لفلسطين التي اغتصبت وسلخت منها أراضيها وحوصر أهلها ونظروا إلى
غاصبيها من داخل اقفاصهم ثم اتهموا بالإرهاب كما يتهم ساكنو الدير بالجنون. فدير
المجانين هو وطن المقهورين.
ليس مجنونا من
يشتري أرضا في بلده المدمرة التي قد لا يعود إليها، إنما المجنون من يتخلى عن حق
العودة إلى وطنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق