يكتب أسامة
العيسة عن مجانين بيت لحم بجدارة وثقة، وبتأملات لا ينقصها العمق. ولذلك، لن ننتقص
من عمله الإبداعي هذا إن طرحنا السؤال: هل نحن أمام رواية بالفعل؟ ذلك، لأن هذا
السرد المتقن الذي نجده في مجانين بيت لحم، يجعل الهدف من طرح السؤال منصبًّا على
ضرورة البحث المتأني في أشكال الرواية الحديثة، وفي قدرتها على كسر القواعد
المألوفة للكتابة الروائية، والإتيان بتجليات جديدة لهذه الكتابة نابعة من تجربة
المبدع نفسه، ومن قدرته على تشكيل مادته الروائية الخام على النحو الذي يجعلها
متجاوزة للمألوف، محلقة في عوالم جديدة سواء أكان ذلك في الشكل أم في المضمون.
ولقد ارتكز
هذا النص الروائي المفتوح على ثلاثة عناصر ضمنت له التفوّق والنجاح. أولها عنصر
الجنون الذي بدا واضحًا تمكّن الكاتب منه وإحاطته به إحاطة جلية، وتنقيبه في
الواقع وفي بطون الكتب عن كلّ ما من شأنه أن يضفي عمقًا على تناوله لهذا العنصر
الجديد في الكتابة الإبداعية الفلسطينية كما أعتقد. كنت أثناء قراءتي للرواية أتذكّر
ميشيل فوكو الذي خصّص الكثير من جهوده الفكرية والفلسفية لدراسة ظاهرة الجنون،
وخروجه ببعض الاستنتاجات التي ترى أن المجانين قبل ظهور المجتمع البورجوازي كانوا
طلقاء، وكان لبعضهم شأن كبير في الأدب والفن، ولعلنا نتذكّر، للتأكيد على ذلك، أن
تراثنا العربي شهد مثل هذه الظاهرة، ولعلّ أبرز مثال عليها مجنون ليلى.
ولم يستمر
الحال كذلك، بحسب فوكو. ففي القرنين السابع عشر والثامن عشر، تغيرت نظرة المجتمع
إلى الجنون بسبب تغير الحالة الاقتصادية، وأصبح المجنون كائنًا غير اجتماعي، وغير
منتج، ما دفع المؤسسة الرسمية إلى تقييده وإلى تسخيره، قسرًا، للقيام بعمل منتج.
في أوضاعنا
الراهنة، وللتساوق مع مجانين بيت لحم، فليس تغير الحالة الاقتصادية وحده هو الذي
غيَّر النظرة نحو المجانين، وإنما كذلك وجود الاحتلال الإسرائيلي وانحطاط الحالة
السياسية. هنا، وإزاء ذلك، طالعنا أسامة العيسة بمجانين عانوا وما زالوا يعانون من
هذه الحالة، وطالعنا كذلك، وبحسب فلسفة فوكو أيضًا "بالحقيقة وهي تخرج من
أفواه شخصيات تعيش على حافة الجنون"، بل إن السارد في الرواية يمارس جنونه
العاقل على نحو جريء وهو ينقد مظاهر الانحطاط في الوضع الفلسطيني الراهن. ويبدو لي أن ممارسة هذه
الجرأة هي التي برّرت للكاتب الدخول المباشر إلى قضايانا الراهنة، من دون أن يكون
هذا الدخول مرهقًا للسرد أو ثقيل الوطأة عليه.
ولعلّ هذا
يقودنا إلى العنصر الثاني متمثلاً في السخرية التي أجاد الكاتب استخدامها، فلولاها
لكان نصه الروائي مفتقرًا إلى الحيوية وإلى متعة التلقي. لكنّ إجادته لعنصر
السخرية وابتعاده عن الميلودراما في عرض القضية الوطنية، وعن الشعارات الرنانة
والتحيّزات العاطفية الرخوة، جعلت لنصّه نكهة عذبة، زادتها عذوبة لغته الجميلة
وسرده المتأني الرشيق.
أما العنصر
الثالث الذي لملم أطراف الحكايات وجنون الشخصيات وجعل للنص بؤرة ينطلق منها ويعود
إليها، فهو المكان. وهو هنا بالتحديد دير المجانين في الدهيشة، أو مستشفى الأمراض
العقلية في بيت لحم. فقد أسهم المكان في تعزيز الرسائل الفكرية التي ينطوي عليها
النص، وفي توسيع دلالات هذا النص، بحيث كان استجابة لما ينبغي أن تكون عليه تقنية
العمل الروائي، وكان في الوقت نفسه تعبيرًا رمزيًا عن حالة مجتمعية أشمل، تعني المجتمع
الفلسطيني الراهن تحت الاحتلال.
بالطبع، لا
يخلو هذا العمل الفني من بعض هنات، فقد لاحظت تفاوتًا في تناول الشخصيات، إذ جاء
بعضها مسطّحًا لا يعدو كونه "كمالة عدد". ولاحظت استعجالاً يقترب من
التغطيات الصحافية لدى تناول بعض القضايا الراهنة التي يحفل بها مجتمعنا.
لكن هذا لا
يقلّل من قيمة هذه الرواية الممتعة، وتحية للمبدع أسامة العيسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق