"مجانين
بيت لحم" لأسامة العيسة، كما كتب على الغلاف، رواية صدرت عن دار نوفل في
العام 2013، وقد صمم غلافها معجون وأما صورة الغلاف فـ Shutter Stock،
ولم يسعفني المورد بفهم معناها.
ثمة عصفور على
غصن شجرة، والعصفور يذكرنا بالعصفورية، والعصفورية هي مشفى المجانين.
وتتكون
الرواية التي تقع في 254 صفحة من ثلاثة أسفار، يسبقها احتراز هو: في هذه الرواية ـ
الشهرزادية، مثل ما في الروايات الأخرى: قليل من الحقائق، كثير من الخيال،
وثرثرة... تماماً مثل الحياة، وتمهيد تحت عنوان "دهيشة المجانين" يتكون
من صفحتين تقريباً، عما يقوله الفلسطينيون لمن لا ينسجم مع المجموع ويخرج عن
السائد، وسطر على لسان المجنون عُجيل المقدسي هو: "من عرف الله سار، من سار
طار، ومن طار صار"، وهو من كتاب "عقلاء المجانين" لمؤلفه الحسن بن
محمد بن حبيب النيسابوري (ت 406هـ)، وأما السطر الأخير فيظهر في النص ثانية، في
ص247 على لسان يوسف علان عن... .
وأما ما نقوله
نحن في منطقة نابلس لمن نراه خرج عن المألوف السائد، ولمن نشك في سلامة عقله فهو:
عبيت لحم ـ أي على بيت لحم، لا على الدهيشة، وأما ما احترز به المؤلف، فهو ليس
أكثر من (كليشيه) يكررها الكتاب درءاً لأية مساءلة أو عواقب وخيمة قد تجرها عليهم
كتابتهم: قليل من الحقائق، كثير من الخيال، وثرثرة.
ويخيل إليّ أن
المؤلف الذي أنجز رواية، غلب على جزء منها روح البحث، اعتمد على ملفات مشفى بيت
لحم للأمراض العقلية، وإن كان غيّر وبدل، لكي لا يتعرض للمساءلة، علماً بأنه في
بعض أجزاء الرواية لم ينجح كثيراً في التخفي، إذ أراد ذلك، فكان يكتب كما كتب عن
سلام فياض باسمه الشخصي، وعن الرئيس الروسي بوتين أيضاً باسمه الشخصي/ فمن الذي
سيقول إن ما كتبه عن الختيار بعيد عن الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.
وكما يقول
العنوان، فإن الرواية هي رواية مكان وشخصيات، وأما المكان فهو مدينة السيد المسيح:
بيت لحم، وأما الشخصيات فهي رواد مشفى الأمراض العقلية أساساً، ورواد المدينة
أيضاً، بخاصة الشخصيات البارزة والسواح، وتغدو بيت لحم الوطن الفلسطيني في زمان
اللجوء في العام 1948، وفي زمان الاحتلال الثاني لبقية فلسطين في العام 1967.
"في بيت لحم أصبح كل شيء مجنوناً، لا فقط
دير المجانين، ففيها نفذ الاحتلال أول عملية اغتيال لمقاوم في الانتفاضة" (ص
220) وإذا ما تتبع المرء مجانين الرواية، فإنه سيلحظ أنهم كثر وينتمون إلى فئات
اجتماعية مختلفة، بل وإلى ديانات مختلفة وقوميات عديدة.
ثمة مجانين
كانوا بشراً عاديين، قاوموا الاحتلال الإسرائيلي، فعذبهم وجنوا من التعذيب (أبو
عصري، ص79)، ويتكرر هذا في بلد عربي، حيث تلصق تهمة الجنون بنشيط سياسي معارض، يعذب
ويسجن ويحجز في مشفى المجانين، (ص153، ص 154)، وهناك مجانين جنوا لذكائهم (العبد
العلوي، ص85) وسيجن أطباء كانوا يعالجون المجانين، فكأن من عاشر القوم صار منهم
(ص95)، ولن ينسى المعالجون ما كانوا يلقونه على أيدي الأطباء، حتى إذا ما حشر
الأخيرون، بعد أن جنوا، مع المجانين، قتل الأخيرون الأطباء، وثمة جنون شعري تصاب
به شاعرة فتغازل، وهي زوجة شخصية مهمة عامة، شاباً هو السارد (ص 98)، وهناك
سياسيون جنوا، لا بسبب تعذيبهم من الاحتلال أو النظام العربي، وإنما بسبب
دكتاتورية الأمين العام للحزب اليساري، الأمين العام الذي يريد أن يكون الأمين
العام والصحافي العام والأديب العام (ص 144)، وثمة جنون بالوراثة، فمنير شحاتة
(ص129) هو من عائلة موصومة بالجنون، وسيربط الجنون أحياناً بالذكاء، كما في حالة
برهوم الإبراهيمي (ص134).
ولم يقتصر
المؤلف، وهو يأتي على شخصيات روايته، على المجانين الذكور من مسيحيين ويهود
ومسلمين وفلسطينيين وعرب، بل كتب عن مجانين قادمين من أميركا وروسيا، كما كتب عن
مجنونات، وجنون النساء يعود إلى أسباب عديدة.
أميرة علاء
الدين جنت لأن أهلها أجبروها على الزواج ممن لا تريد (ص161)، وغيرها، مثل شفيقة
المصري، تجن بسبب الصدمات السياسية والفقدان الشخصي والوطني (ص167)، وهناك هبل
يتطور إلى جنون، كما لدى رفقة علي التي تقتل زوجها (ص 172)، وتجن نسوة أخريات بسبب
الحرمان والفارق في سن الزواج (الخالة رسمية ص178)، وقد تجن امرأة جميلة لأن زوجها
رآها وهي نائمة لا تستر جسدها، فيضربها ضرباً مبرحاً، ثم يأخذ أولاده ويهجرها (ص
183) وقد يدفع أهل الزوج السجين السياسي زوجة ابنهم إلى الجنون، لأنهم يريدون أن
يتحكموا فيها في أثناء سجن زوجها (ص 181)، وغالباً ما توصف النساء، في بلادنا،
بالجنون، لأسباب إجراء الطلاق وحصر الإرث.
المؤلف/ النص
:
ثمة مؤلف ضمني
يخبرنا عن علاقته بالمكان/ الدهيشة/ بيت لحم/ ومشفى الأمراض العقلية، وببشر هذا
المكان، وغالباً ما يفصح هذا المؤلف عن هويته وعن علاقته بشخوصه، بل إنه يوضح لنا
طريقته في الكتابة وآراءه النقدية في قضايا السرد والسارد والقارئ.
في الاحتراز
أشار إلى أن روايته شهرزادية ـ أي أنه يقص كما كانت شهرزاد تقص، وفي مواطن أخرى
يعلمنا أنه سارد غير كلي المعرفة، فقد حفظ شيئاً وغابت عنه أشياء، وفي أماكن يحدد
لنا الزمن الكتابي لروايته (ص 233)، بل ويفصح لنا عن تشكل العمل الروائي وطريقته
في الكتابة "حشرت نفسي مع الحضور لأراقب وأوثق من أجل روايتي هذه"، كان
ذلك في 27/10/2009، حين ذهب لحفل تحدث فيه رئيس الوزراء في حينه سلام فياض.
إنه هنا مثل
اميل زولا الذي عبر عن طريقته في الكتابة بقوله: "أدرس الناس كأنهم عناصر
بسيطة"، بل وربما ذكرنا بطريقة الجاحظ في التأليف والكتابة عن البخلاء وعن
الحيوان.
ولأجل كتابة
روايته لا يمانع من الذهاب إلى حيث يقيم المجانين، ليجلس معهم، وليصغي إلى قصصهم،
حتى إنه كاد يصاب بلوثة عقلية، كما قال له زملاؤه: "كان الكثير من الأصدقاء
قد لاحظوا ما وصفوه بتدهور حالتي، وتوقعوا لي مصيراً في دير المجانين، بعدما علموا
أنني أكتب هذه الرواية، وقال عمار الجوري: "من كتب عن قوم صار مثلهم"،
وتعهد ضاحكاً بأن لا ينساني بالزيارة" (ص234) كما كان هو ـ أي المؤلف ـ يزور
المجانين.
من الذي أوحى
له بكتابة الرواية هذه؟ إنه يوسف علان الطالب في التوجيهية في العام 1967، وقد قبض
عليه في الشارع قرب قبة راحيل، وتعرض لضرب مبرح جعله مجنوناً وهو "ما أشعل
لدي شرارة الشغف لأكتب هذا العمل بعدما أطلعني على أوراق العبد علوي التي كانت
عبارة عن مسوّدات لكتابة شيء عن الدير ومجانينه" (ص116).
وكان العبد
علوي مجتهداً ومبرزاً في التعليم، وأن ذكاءه الخارق المفترض أودى به إلى الجنون،
بدلاً من الجامعات. (ص88).
بنية الرواية:
تتكون الرواية
من ثلاثة أسفار هي: سفر تكوين وسفر من لا أسفار لهم وسفر مشمشي، يقع الأول الذي
يركز على المكان وتكونه على تاريخ الدهيشة وبيت لحم، وسبب تسمية الدهيشة بهذا
الاسم، ويدرج تحته عشرة عناوين فرعية على شكل أسئلة، ويقع الثاني الذي يركز على
المجانين في ثمانية عشر عنوانا، كل عنوان يحمل شخصية من شخصيات المجانين إلاّ
عنوانين اثنين لا يعودان لشخصيات: عبيد ومجانين ومجنونات العائلة، ومع أن بعض
العناوين يخص شخصية معينة إلاّ أنه يأتي على غيرها، وأما السفر الثالث فتدرج تحته
تسعة عناوين فرعية، ويأتي على مجانين فلسطينيين وغير فلسطينيين جنوا بعد أوسلو أو
أصيبوا بلوثة المكان.
وهذا البناء
يذكرنا برواية اميل حبيبي "المتشائل" (1974) وسيتذكرها المرء بخاصة، وهو
يقرأ الجزء الأول، ويبدو تأثر الكاتب فيها واضحاً، على أكثر من صعيد: صيغة السؤال
في العنوان، وتشابه الواقعين، فما كتبه أسامة تحت عنوان "كيف أصبح سروال أبي
علما؟"(ص53) يذكرنا بعنوان اميل: "كيف أصبح علم الاستسلام، فوق عصا
مكنسة، علم الثورة على الدولة؟"، وكما أكثر اميل من التناص، أكثر أسامة منه
أيضاً، وهذا جانب يحتاج إلى مقالة خاصة.
نقد: تضاف هذه
الرواية إلى روايات مثل "بقايا" أحمد حرب و"مقامات العشاق
والتجار" لأحمد رفيق عوض، و"رام الله الشقراء" لعباد يحيى. ويبدو
النقد فيها عالياً ونغمته مرتفعة أكثر ما يكون، وتبدو صورة الفلسطيني فيها جارحة،
ويغدو الوطن وطن مجانين حقا و.. و.. و.. .
**
عن (الايام)
الفلسطينية 2-2-2014
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق