الصورة
المرفقة من صفحة سامي بشارة المغترب، المحتفي بكل ما يراه الزمن الجميل لبيت لحم
وشقيقاتها.
تعود
الصورة لصيدليَّة أبي عيطة، حسب الآرمة، أواخر تسعينيَّات القرن الماضي. صاحبها
التي آلت إليه الصديق ماهر أبو عيطة، بعد سنوات قليلة من منعطف جديد في حياة
المدينة وما أكثر منعطفاتها، مع تأسيس السلطة الفلسطينيَّة، ومحاولات التعافي من آلام
الانتفاضة الأولى، عندما انتقل مركز المدينة التجاري إلى المدبسة وتراجع ما يعرف
بباب الدير؛ منطقة ساحة المهد وكنيسة المهد وحارات بيت لحم القديمة.
تقع
الصيدليَّة أعلى درج السوق القديم، ولم يكن قديمًا لدى تأسيسه في أواسط ثلاثينيات
القرن الماضي. كان فضلة الزلزال الذي ضرب المدينة، فهبَّت رياح حداثة الانتداب،
بخطوةٍ ثوريَّة بتأسيس سوق جديدة على أنقاض منازل حارة النجاجرة المدمرة، والاستغناء
للأبد عن سوق بلاط كنيسة المهد، في قطيعة مع تاريخ المدينة العثماني. يمكننا الآن
تقدير تلك الانتقالة الثورية التي لم تكن البنى المسؤولة غافلة عنها، فعبَّرت عن
ذلك بلوحة السوق التأسيسية المنزوية الآن. وتضم أسماء نخبوية إضافة لاسم حاكم
القدس العسكري، مندوب الإمبراطورية التي لم تكن تغيب عنها الشمس ودنا وقت غروبها.
كانت
الصيدليَّة وقت العزيز ماهر، محطَّة توقف دائمة لي. تعاطف ماهر مع الجبهة
الديمقراطية برئاسة نايف حواتمة، بعكس والده رجل الأعمال الشيوعيِّ المعتَّق. حافظت الصيدليَّة على هويتها الشعبيَّة القديمة
في خدمة فئات مختلفة من شعبنا.
سعدت
بالحوارات مع ماهر وزوجته الحقوقيَّة الفرنسية التي كتبت مقالات عن قضايا تخص
شعبنا والتمست مساعدتي في نشرها. اهتمت بقصص الأسرى من خلال عملها في مكتب محامي
شهير. أتذكَّر بود ابنتهما الذكية. أظن أنَّني كتبت قصة صحفيَّة عنها.
قرَّر
ماهر وعائلته، بسبب ظروف الأرض المقدَّسة الصعبة الهجرة إلى فرنسا، لم تمضِ سنوات
حتى وصلت أخبار ماهر المبهرة لي على الأقل، الذي أصبح نائبًا لرئيس بلدية مدينته
الفرنسيَّة الجديدة، وجُدد له، انتخابيًا أكثر من مرَّة، وربما أصبح الآن أو في
فترة ما رئيسًا للبلدية.
الجدير
بالذكر، وهذه الجدارة والذكر المحببة لدى الصحفيين، تُذكر ما دام ذِكر انتخابات
نيويورك حاضرًا، ذِكر أنَّ ماهرًا المواطن الصالح جدًا المسدِّد لاستحقاقاته
الدنيوية، متجاهلًا واجباته الأخروية، كان من الصعب عليه أن يصبح رئيسًا لبلدية
بيت لحم أو عضوًا في مجلسها البلدي، رغم أنه يستوفي أحد الشروط المتعلقة بالديانة
ولكنَّه من الشقيقة بيت ساحور الذي لا يفصلها شئيًا عن بيت لحم. ماهر ورفاقه
ووالده من قبله ورفاقه لم يكن في برامجهم الثوريَّة تحديث البنى المؤسساتية. فترسخ
المرسخ ووصل الحضيض. ففي المدينة التي يفخر مرشحو بلديتها أنها عاصمة المسيحية في
العالم. يمكن لمرشح التنابز مع آخر في عدد البواريد والزعران لديه، رغم أنهما حُسبا
على الحزب الحاكم. في عودة إلى ما قبل الحداثة الانتدابية للمدينة.
قبل
أن تصبح الصيدليَّة، صيدلية أبو عيطة، كان اسمها صيدلية جنضل، ولعلها من أوائل
الصيدليات في المدينة. تأسست بعد النكبة، عندما كانت المدينة كعادتها مع منعطفٍ
قاسٍ، لقد فُصلت عن القدس الجديدة، التي يملك التلحميون أراض ومبان عديدة فيها،
واجهضت عملية الوحدة مع توأمها. وتدفق آلاف من المنكوبين الذين غيُّروا ديموغرافيتها
للأبد، وتركوا بصمة لا تمحى على تطورها.
كانت
المدينة ميدانًا للمتطوعين المصريِّين والعرب بقيادة أحمد عبد العزيز، واستقبلت
مقبرة قبة راحيل رفات العديد من الذين ارتقوا في المعارك حول القدس.
خضعت
المدينة وجوارها للحكم المصري بقيادة الحاكم العسكري لطفي واكد الذي سينضم للضبَّاط
الأحرار لاحقًا، وفي فترة السادات أصبح من أقطاب حزب التجمع اليساري. بلغ نفوذ
المصريِّين المتصارعين مع الهاشميين، أنَّه عندما طلب الملك عبد الله الأوَّل زيارة
المدينة، جاءت البرقية من قيادة الجيش المصري حاسمة: يمكنكم تقديم كأس شاي له فقط.
أحب
الناس المصريين، رغم مثالب كثيرة، كاستخدامهم نظام السخرة وملاحقة الشبان، واتهامهم
بنشر الجشيش، وكأنَّ فلسطين لم تعرفه قبلًا، وفضلوهم على حكم الملك عبد الله، الذي
ستدخل المدينة تحت حكمه منعطفًا خطيرًا وصعبًا، لن ينتهي باغتياله.
في
مثل هذه الظروف ظهرت صيدليَّة حنضل. بالقرب منها في ساحة المهد استشهد ثلاثة من
الطلبة في المظاهرات ضد حلف بغداد: عبد الله تايه، وإسماعيل الخطيب، وعبد الكريم
عقل، من أبناء لاجئي قرى جبل القدس: بيت عطاب، وعين كارم، ولفتا. انضموا إلى قبور
المتطوعين العرب. في عام 2021 ارتقى الأسير داود الحطيب في السجن، ودفن بجوار عمه
إسماعيل.
تلقت
الصيدلانيَّة المسؤولة خبر استشهاد شقيقها نصري أبو رُمَّان، الملقب طلق الريحان،
خلال مطاردته وهروبه مع اثنين من رفاقه من قبضة الأمن الأردني.
رسم
أحد فتية مخيم الدهيشة، صورة للشهيد طلق الريحان، وقصد الصيدليَّة، وقدَّمها لشقيقته.
روى لي الفتى الذي سيضطلع بدور الأخ الأكبر ويسافر إلى السعودية، في عمَّان عن تلك
الذكريات. من حسن حظه أنه ابتعد عن السياسة، وتحقَّق، مثل آخرين من أبناء المخيمات
ماليًا. سألت مها عن الصيدلانيَّة، أخبرتني أنَّها هاجرت منذ سنوات طويلة إلى
أميركا. لعلها أرادت الابتعاد عن المدينة التي حاصرت شقيقها حتى الموت عطشًا.
كان
نصيب الصيدلية أن تصبح رمزًا على الاحتلال الجديد في حزيران 1967م، في واحدة من
المنعطفات في مدينة المنعطفات، التي رغم استسلامها، إلا أن المحتلين قصفوها، وسقط
قذائف على كنيستها.
سقطت
قنبلة أمام الصيدليَّة وقطعت رأس أحدهم، الَّذي كان متجهًا إلى داخل الصيدليَّة،
وفعلًا دخلها برأس مقطوعة، ليسقط فيها. احتار النَّاس، في الشهيد بدون رأس يكمل
سيره، منفِّذا آخر أمر للدماغ. استولى المحتلون على مساحات شاسعة من أراضي بيت لحم
وشقيقتيها بيت ساحور وبيت جالا، وضمها إلى حدود بلدية القدس الاحتلالية.
آلت
الصيدلية، بعد ماهر أبو عيطة، إلى نادر حجازين، الساحوري من عائلة كركية معروفة،
وشهدت الانتفاضة الثانية والموت على درج السوق، وفي الحارات وحتَّى كنيسة المهد
المحاصرة والتي قضى فيها عدد من الشهداء.
غادر
نادر الطموح دنيانا فجاة، ما زالت الصيدلَّية تطلع بدورها الشعبي. قريبا منها بسطة
خضار أم نبيل بثوبها الفلاحي، زميلتي في تكريم الياس حلبي لنا مع آخرين من وجوه
المدينة التعبة.
هذه
قصة مبتسرة تجاهلت علاقات الطب بالبداوة والسلاح واجهاض التطور المديني. ربما مقتل
طبيب الصحة ميخائيل معلوف أحد تمظهراتها.
المدينة
التي خطت بقفزات ليبراليةـ، تنغلق. تتصارع في فضائها الثقافي والتجاري قوتان مستحوذتان.
من الصعب معرفة من يقف خلفهما. أو ربما ممنوع الحديث العلني عنهما. المدينة أدمنت
الهمس.
#بيت_لحم
#لطقي_واكد
#أسامة_العيسة
عنف
حداثي

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق