أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الثلاثاء، 8 أغسطس 2017

القطة التي اكتشفت أن الأسرى أكثر رحمة من السجانين/عيسى قراقع







(قط بئر السبع)، رواية جديدة للكاتب الصحفي أسامة العيسة، صادرة عن دار الهلال وتقع في 152 صفحة من القطع المتوسط، تبحر في عالم السجون والمعتقلات الإسرائيلية ومن خلال قطة لجأت إلى سجن بئر السبع لتعيش هناك بين الأسرى، تشاركهم همومهم وآلامهم وأحلامهم، تركت الصحراء القاسية وبراري الصيد بعد أن وجدت الرأفة والطمأنينة من قبل الأسرى المحشورين والمقيدين، تكون أكثر أمانا على ابراشهم وفي أحضانهم إلى درجة انها فضلت أن تنجب أبناءها في غرفة السجن لا في صحراء بئر السبع الواسعة.
القطة التي أطلق عليها الشقراء يعتني بها الأسير إبراهيم الصرعاوي والذي لُقب بسبب ذلك بإبراهيم البسة، كان يتحسس جسدها، يفهم نبرات صوتها وتقدير حركة ذيلها وإغماض عينيها وتحريك شاربيها، فتولدت ثقة بين القطة وإبراهيم، تاركة جسمها له، مرخية أذنيها لصوت الأسرى ولعاداتهم وتقاليدهم، لآلامهم ومعاناتهم، كان إبراهيم يطعمها بيديه، صديقته التي تشاركه الفراش، يمسد على فروها يخفيها في فترات العدد والمداهمات التي تقوم بها شرطة السجن، يتصيد لها العصافير، مستغربًا من هذه القطة التي فضلت السجن على البقاء في الصحراء ورائحة الرمل وقبلت بالحشر مع الآدميين المعتقلين.
القطة التي وجدت الحب من قبل الأسرى هربت من دولة إسرائيل التي حولت نفسها إلى معسكر كبير، مدجج بالسلاح، جففت الحياة، لا طيور ولا أفاعي ولا سحالي ولا حشرات في صحراء بئر السبع، بل سجون ومعسكرات ومفاعل نووي ومواد كيماوية سامة تدفن في الصحراء، أسلاك شائكة في كل مكان، دبابات ومجنزرات ومعسكرات تدريب وصوت رصاص في كل مكان، حتى السماء مسيجة، لا ماء ولا عشب ولا مكان للجري واللعب وممارسة المهارت.
القطة رأت بأم عينيها كيف دمرت البلدات الفلسطينية في بئر السبع، وهجر سكان عشرات القرى الفلسطينية من صحراء النقب والاستيلاء على أراضيها وتهجير 40 ألف من السكان البدو وتدمير 38 قرية والذي عرف ( بمشروع برافر) الإسرائيلي، فلم تبق نخلة تجلس تحتها القطة، ولا نبع ماء تشرب منه، فركضت خائفة جوعانة حتى وصلت السجن واجتازت الأسلاك الشائكة واندست في أجسام المعتقلين.
القطة وجدت ان الصحراء الجميلة أقامت فيها دولة الاحتلال سجونا ومعسكرات: النقب ونفحة وريمون وايشل وايلا وهولي كيدار وعسقلان، وأصبحت الصحراء مقابر للبشر، وكل ما حولها رعب وفزع، ثلاثة أسرى يسقطون في إضراب سجن نفحة خلال الإضراب عن الطعام، مداهمات وصوت قنابل في سجن النقب، سقوط الأسير محمد الأشقر محترقا بقنابل السجانين هنا ترتكب جرائم، رائحة موت صوت طائرات تقصف غزة، سيارات بوسطة حديدية تراها تتحرك ليل نهار تنقل فيها الأسرى، أصوات وجع وأنين لأسرى في الزنازين ومراكز التحقيق، أسرى مرضى ومصابين وجرحى، كل ما حولها رعب وجحيم.
القطة رأت أسرى مشبوحين تحت السياج، وشاهدت الكثير من المستوطنات التي أعدمت الحقول والمراعي والشجر، ورأت كيف تربى الكلاب المفترسة المتوحشة التي تلاحق الناس والفدائيين وتستخدم في مداهمة غرف وأقسام المعتقلين، كل ما حولها نباح مسعور لدولة تتأسس على الحديد والوحشية.
القطة لجأت إلى الأسرى لأن كل ما حولها حقول ألغام، وجثث مدفونة ومحتجزة في ما يسمى مقابر الأرقام، جدران وأسلاك مكهربة وحواجز عسكرية تمنعها من الوصول إلى الضفة الغربية والقدس، فقد تحولت إلى قنبلة موقوتة في دولة إسرائيل التي تكره الكائنات الحيّة، و تدوس على الخط الأخضر، لتمتد ابعد وابعد احتلالا واستيطانا وعدوانا.
القطة اكتشفت أن الأسرى أكثر رحمة وإنسانية من السجانين الذين لاحقوها وهاجموا غرف الأسرى لإلقاء القبض عليها وعلى أولادها، وهي التي عرفت أن هؤلاء الذين احتكروا دور الضحية تحولوا إلى جلادين، وأن دولة إسرائيل كما تقول القطة أصبحت دولة عنصرية تفرق في المعاملة بين سجين إسرائيلي وآخر فلسطيني، فالأسرى ممنوعين من كل شيء، من العلاج والطعام الجيد، من الكتب والصحف والزيارات، يتعرضون للقمع بكميات كبيرة من الغاز ومن فرق مدججة بالسلاح ، يتعرضون لمحاكمات جائرة وغير عادلة، للاهانات اليومية والإذلال والتعذيب.
القطة حفظت رواية إبراهيم الصرعاوي عن قريته صرعة الكنعانية المقامة فوق جبال القدس التي دمرت خلال نكبة 1948، واستولوا على أضرحتها ومقاماتها، وكيف أخفيت آثار القرى والناس بأشجار الصنوبر التي احترقت ذات يوم فخرج البشر من تحت التراب كالأشباح، فلم ينعم المستوطنون الجدد بمستوطناتهم بعد أن هاجمتهم أشباح الناس وعظامهم المتناثرة.
القطة عرفت كيف يصمد الأسرى عندما لا يستطيع السجن أن يسيطر على عالمهم الداخلي، فإبراهيم في زنزانته الانفرادية يعيد استكشاف ماضية منذ أن رحل من مخيم الدهيشة وعاد فدائيا مسلحا عبر الحدود ليشتبك مع الاحتلال ، ويستعيد علاقاته مع ناسه بالخارج، يتعرض للتعذيب القاسي وهو يقول: نحن هنا لأننا رفضنا أن نكون نكرات، أردنا أن نغير، أن نفكر خارج السائد، أن نقل لا للاحتلال، لا للظلم ، لا لقتلة الأطفال، مدمري المنازل وسارقي وطن الغير.
القطة وجدت أن الأسرى الفلسطينيين يعرفون أن استخدام القطط والعناية بها هو نوع من طقوس الاحترام لها والمستمدة من التراث ومن طقوس الفراعنة الذين رسموا إلهة الشمس برأس قطة حنونا وادعة، وقد سمعت إبراهيم الصرعاوي يقول: عندما اعتني بالقطة الشقراء أنا في الواقع أدافع عن البشرية المهدورة التي شوهها الاحتلال، ونحن لا نعرف ذواتنا إلا إذا عرفنا طبيعة علاقتنا بالقطط.
القطة التي أصبحت مراسلا للأسرى تنقل رسائلهم من غرفة إلى غرفة، وقد شاركتهم في الإضراب عن الطعام، وشاهدت كيف يستخدم قانون التغذية القسرية بحق الأسرى، وكيف يزج الأسرى في الزنازين وتمارس بحقهم العقوبات الكثيرة، وشاهدت سقوط أسير شهيدا خلال الإضراب ، اقتنعت أن إسرائيل التي تدعي أنها واحة للديمقراطية في الشرق الأوسط ليست أكثر من دولة فاشية بعيدة عن السلام الذي أصبح كما قال لها إبراهيم: سلام الانحناء والاستسلام.
إدارة السجون قررت القبض على القطة التي أعطت حياة جديدة للمعتقلين، فشنت هجومًا على غرف الأسرى لأنها لا تحتمل هذا المواء الذي يكسر صمت السجن، ولا تحتمل هذا الحنين واللغة الخاصة بين الأسرى والقطة الجميلة الوديعة ، لا تحتمل أن تحمل قطة ذكريات وحكايات وروايات الأسرى وتصبح شاهدا طليقا في يوم من الأيام على ممارسات وجرائم المحتلين.
إدارة سجن بئر السبع تقرر إعدام القطة بعد إلقاء القبض عليها وبطريقة تمنعها من العودة إلى السجن بعد أن عادت أكثر من مرة، فتم إلقاءها إلى الكلاب المتوحشة المفترسة التابعة للسجن، والتي نهشت القطة ومزقتها، ليسمع الجميع مواء قطة على مصيرها المأساوي الذي لم تتوقعه عندما قررت العودة من الصحراء إلى سجن البني آدميين هذا.
لقد أعدمت الكلاب المتوحشة القطة أمام استمتاع الجلادين الذين لم يكن ينقصهم سوى جلود حيوانات، كان القط يصرخ والجلادون من حوله ينبحون.
قال الجلاد يوما لإبراهيم الصرعاوي: لو تعمل معنا شهرا تصبح متوحشا مثلنا. ‏

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق