أهلين

"من عرف الله سار، ومن سار طار، ومن طار حار". عجيل المقدسي.

الأحد، 14 أغسطس 2016

"خريطون": هنا عاش الإنسان الأول..!








الوصول إلى مغارة خريطون، في برية البحر الميت، مغامرة لا تكتنفها المصاعب الطبيعية فقط، ولكن أيضا، المخاطر التي فرضها انتشار الاستيطان الإسرائيلي المكثف في البرية، وأبرزها في المنطقة التي تقع فيها المغارة، مستوطنة تكواع المقامة على أراضي بلدة تقوع شرق بيت لحم.
يعتبر الوصول إلى المغارة الضخمة، في الظروف السياسية الان، حلما لكثيرين، فهي تعتبر من المناطق غير المكتشفة بشكل كامل، وعادة لا يتجاوز المغامرون عندما يدخلون إليها أكثر من 350 مترا، رغم أن طولها المتوقع أكثر من ذلك بكثير، مما يستوجب عملية استكشاف واسعة لها من جهات عالمية مستقلة.

مغارة وقديس
اكتسبت المغارة اسمها من الراهب خريطون، الذي أقام في تلك المنطقة نحو عام 400 ميلادي، وتدل البقايا الأثرية على انه بنى ديرا مهما في المكان، جذب العديد من اللاهوتيين من دول مختلفة في عصره. عُثر عام 1928م في وادي خريطون، على بقايا ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ، واكتشاف النار، ويعتبر هذا الوادي وجبل الكرمل من أقدم مواقع العالم التي سكنها الإنسان الحجري، مستخدما في حياته اليومية أدوات حجرية كالسكين، حيث وجدت أدوات حجرية كثيرة تدل على وجود الإنسان الحجري الأول في هذا الوادي. وهو جزء من وادي يطلق عليه الإسرائيليون اسم (وادي تقوع) ويمتد من وادي البيار في أراضي بلدة الخضر حتى البحر الميت، وهو أطول الوديان التي تصب في البحر.
وحول هذا الوادي توجد عشرات المغر والكهوف أهمها كهف (عرق الأحمر) وعاشت فيه جماعات في فترة ما قبل التاريخ (800 سنة ق.م) وكهف (أم قلعة) وهو يعتبر نموذجا حيا للكهوف التي عاش فيها الإنسان قبل التاريخ، وهذا الكهف هو أهم الكهوف على الإطلاق ويعود للعصر الحجري الأول (50000-120000 ق.م).
ويمكن الاستنتاج من الكهوف المتعددة، وبقايا البنايات الحضرية، كالصوامع والصهاريج، وحجارة الفسيفساء المتنوعة المتناثرة التي تعود لبقايا بنايات وكنائس، والعاديات الأثرية التي عثر عليها كالأوعية والجرار والأنسجة، على الأهمية التاريخية للمنطقة، التي شهدت على الحضارة الرومانية، والبيزنطية، والعربية المبكرة، والعباسية، والمملوكية، بل أقدم من ذلك بكثير، فقد عثر على بقايا أثرية تعود للعصر الحديدي.
في هذا البيداء المقفرة تعيش حيوانات وطيور وأزهار مثل: الثعلب الأحمر، والضبع المخطط، والوبر الصخري وأنواع مختلفة من الأفاعي، وزهرة السوسن السوداء.
الوصول إلى المغارة بعد جهد ليس الاختبار الأهم لقدرة التحمل لدى المغامرين، ولكن الجرأة على الدخول إلى المغارة هي اختبار مهم، حيث العتمة القاسية ومن ثم البدء بمغامرة اكتشاف أنفاق ودهاليز المغارة بمساعدة الشموع، والحبال المثبتة مسبقا على أرض المغارة وحيطانها.
الدخول إلى المغارة، يبدأ بالزحف في نفق معتم طوله نحو 15 مترا واكبر ارتفاع له نصف متر، وفي نهاية هذا النفق، يوجد حاجز صخري ثم منطقة نزول قوية إلى ما يعتقد انها البئر الرئيسة في المغارة، ويتم النزول إليه بالحبال ويبقى خطر الانزلاق والسقوط مخيما بوجود الحجارة الملساء التي كونتها الطبيعة خلال ملايين السنين.
ويطلق على المغارة أسماء أخرى مثل المغارة المعلقة، وكتب عنها الرحالة الألماني اورلخ كاسبر سيتزن الذي زار المنطقة في عام 1806: "مغارة التيه الكبيرة، ويطلق عليها سكان بيت لحم اسم المعصي، وتقع على بعد ثلاث ساعات من بيت لحم، ويزور الكهف الرهبان الفرنسيسكان، مرة كل 3 سنوات، ويطلقون عليه اسم التيه، وأكد لي الناس أن الرهبان يربطون حبلا كي يتجنبوا الضياع في ممرات كهف خريطون". وهو ما يفعله رواد المغارة حتى الان، فالحبال هي دليلهم إلى مجاهل المغارة.
ويتضمن هذا النص عدة أسماء للمغارة، منها المعصي، وهي صفة يطلقها الفلاحون الفلسطينيون على الملاجيء المحفورة في الصخر، والموجودة في بعض الخرب الأثرية، والتي قد يكون بعضها يتشكل من كهف أوّ مغارة، إشارة إلى مناعتها.
عين وبرج
تقع هذه العين بالقرب من مغارة خريطون، وتطلق بعض المصادر الكنسية على العين اسم (عين خريطون)، تكريما للزاهد المشهور، الذي لا شك اعتمد ورفاقه، بشكل رئيس على مياه هذه العين في حياتهم المتقشفة، بالإضافة إلى بئر (العنيزة)، والعديد من صهاريج تخزين المياه التي ما تزال آثار بعضها ماثلة للعيان، وبعضها مرتبط بالصوامع المتناثرة في المنطقة ويبلغ عددها نحو أربعين.
تنبع العين، التي يسميها الإسرائيليون (نيطف) من شقوق صخرية، وتنساب في حوض أسفل الجدار الصخري الهائل الذي تنبع منه، ومن المرجح أنها كانت وفيرة المياه في الزمن الماضي، وليس كما هو الحال عليها الان.
بالقرب من مصطبة العين، يوجد حوضين صغيرين حفرا في الصخر، وشكلت العين مصدرا مهما للرعاة في المنطقة، ولعشائر التعامرة، الذين سكنوا المنطقة، قبل أن تصبح الان أسيرة للمستوطنات، وتخضع للسيطرة الكاملة للجيش الإسرائيلي، وأصبح الوصول إلى المنطقة، بالنسبة للفلسطينيين، مغامرة محفوفة بالمخاطر قد تنتهي بالاعتقال أوّ الموت.
وأشهر معالم المنطقة، بعد المغارة، بقايا برج بيزنطي، من بقايا الدير الذي شيده خريطون، يطلق عليه عرب التعامرة اسم (قصر ودادة) ويعتبره الأثاريون بقايا البرج الجنوبي لدير خريطون، الذي شهد، بالإضافة إلى دير مار سابا، المحاولات الأولى لترجمة الأناجيل للغة العربية.
ويربط المستوطنون المنطقة، ببعض قصص العهد القديم، باعتبارها مسقط رأس اثنين من رجال حرب الملك داود، ومولد عاموس، الشخصية التوراتية المشهورة، وكل ذلك أدى إلى اشتعال نار العنف في المنطقة، الذي تسبب بسقوط شهداء معظمهم من الأطفال والفتية الفلسطينيين، برصاص المستوطنين وجنود الاحتلال.
زار المنطقة دانيال الراهب في بداية الفترة الصليبية (1106-1107) وقدم وصفا لدير خريطون الذي لم يعد موجودا: "في جنوب بيت لحم يقع دير القديس خريطون على نهر ايثام (ارطاس، أوّ عيطام)، وهو يقع ليس بعيدا عن بحيرة سدوم في وسط جبال صخرية ومكان مهجور. ويبدو هذا المكان فظيعا وجافا، حيث انه خال من الماء مطلقا، ويقع عند أسفله ممر صخري مخيف. ويحيط بالدير اسوار، وهناك كنيستان داخل أسواره، تحتوي الكبرى منهما على ضريح القديس خريطون، ويوجد خارج الأسوار مغارة للأضرحة تحتوي على رفات الآباء الطاهرين الذين يزيد عددهم عن سبعمائة جثمان، وفيها جثمان القديس سبرياكوس كاهن الاعتراف، وجسده محفوظ، وبحالة جيدة، وكذلك يوجد جثمان يوحنا واكاديوس، أبناء اكسنوفون والتي تنفث عطرا رائعا، وأبدينا احترامنا لهذا المكان المقدس وصعدنا على الجبل الذي يبعد مقدار فرست واحد جنوبي الدير".
بالطبع لم يعد شيئا من هذا الوصف للمنطقة، التي تخضع لمراقبة شديدة من جنود الاحتلال المتأهبين، لوصول أي فلسطيني للمغارة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق