لما
جاء أسامة العيسة إلى بلدي عنبتا، صاحب رواية (مجانين بيت لحم)، حاملا معه تميمة
داهش وصادف نفس اليوم لإعلان شركة سند للاسمنت عن وضع يدها على المئات من الدونمات
فيها, تذكرت جبل أنطون وهذا ما شدني
للكتابة عن هذه الرواية، والتي جاءت بصورة
مغايرة لما اعتدناه من الروايات أو الكتب سواء كان ذلك بأسلوبه أو في ترتيبه و
تشكيله، وحتى في أفكاره، فكانت أفكارا مجنونة، وجدت نفسي منجرفا مع تيارها تمشيا
مع المثل القائل (إذا جن الناس عقلك ما بنفعك)، ومن منطلق أن (مجنون رمى حجر ببئر
مئة عاقل تا يطوله) وجدتني أسبح في نظم مركبة مع أسراب السمك التي تسير وفق نظام
محدد، محافظا على الأبعاد الأمامية والجانبية، وهذا ما فعله الراوي أحيانا في
روايته وحاولت، أن أكون بسيطا في تناولي للرواية كما هي شخصياتها, فوجدتني أضغط
على ضاغط واحد فتثور عشرات الانفجارات والألغام، أو أكبس كبسة ضوء واحدة تنير مئات
الأضواء، وكان هذا سببا من أسباب جنون شخصياته المتعددة، والمتنوعة ولكنها متشابهة
مع الحياة والممات.
عبق التاريخ
واختلاف شخصياته وتنوعها كما هو الزمان والمكان، فجاءت الرواية بخطى غير مخططة
وعلى غير هدى، وإنما زخرت في مجال التوثيق والتحقيق والتاريخ، وضجت بالفوضى، ولكن
كما يقولون يكون النظام في رحم الفوضى.
لقد جمع
الراوي بين البسيط والمركب، والمعقد أسلوبا ونمطا ونظاما، ونجح في دمج هذه النظم
والأنماط بحيث لا يشعر القارئ والمتلقي بذلك.
استهل روايته
بمقدمة، فأطال فيها فكانت مقدمته على ما يهوى ويرغب كمحقق صحفي وباحث وقارئ
للتاريخ، فجاءت مقدمته خلفية لروايته والتي أسماها سفر التكوين بعد أن بدأها
بافتتاحية تقول على لسان عجيل المقدسي: "مَنْ عرف الله سار ومَنْ سار حار ومَنْ
حار طار"، والتي كانت أيضا نهاية لروايته.
كم كرر، وأكد
على مفاهيم ومعان كما "الموت شيء عادي" وغيرها الكثير ليوقظ في أعماقنا
الطفل الراقد فينا, هذه المفاهيم اتخذت أبعادا زمنية أربعة هي ما قبل الاسلام وما
بعده ثم في عهد الانتداب وانتقل إلى عهد الاحتلال ثم الزمن الحالي كما كان محوره
رباعيا لشخصياته فهو الراوي، ويوسف علان وداهش وعجيل، فكان الايقاع في لحنه رباعي
الزمن وكذلك الأشخاص والأمكنة فكان في الامكنة مخيم الدهيشة ودير المجانين وجبل أنطون
ومدينة بيت لحم، وللتذكير والتأكيد على ان للإيقاع الرباعي سمة من سمات أدب السحر
والخرافات، فقد نجح في عزف هذا الإيقاع وقد كان منطقيا ربط فيه العالمين المادي
والروحي لدى المتلقي. إن الراوي الذي يعيش في وطنه دير المجانين، هو نفسه الذي
يعيش في بلده فلسطين, فأسقط الوطن كله على دير المجانين كما أسقط كل شعبه على كل
ساكنيه ليكون له تأثير كما يقال "تأثير الفراشة" ليهز كيان كل من تُسَوّل
له نفسه بالمساس بهذا الوطن فاستعان بأهزوجة (في المشمش) وكأن كلمة (هرمنا) في
الربيع العربي التي انطلقت في تونس إذ هزت الفراشة جناحيها في تونس فزلزلت أرض
اليمن وسوريا ومصر.
إن هذا الدير أو
الوطن وكل جبل أنطون الذي قسم ووزع وكان نهبا للطامعين أكان ذلك من مخيمه للتوسع
في مجاله وقد خرجوا صفر اليدين كما كان لمطامع أكبر محلية وسلطوية وأخرى دولية
فازت بأغلبية أراضيه.
إذا كانت الرواية
قد تخطت حدود "التابو" في صورة غير مرئيه للثورة والتمرد والعصيان؛
لتقتل الانتهازية وحتى بالشباشب فقد بثها في أهزوجته (في المشمش) وبهذا وفر الراوي
في روايته التوافق بين اللحن الداخلي للمتلقي واللحن الخارجي المحيط ببيئته، مما
يؤكد على صحيح جنونه نفسيا وجسديا بحتمية هذا التناغم والتي عملت على إظهار المخفي
من المحظورات السياسية والاجتماعية، مبتعدا عن عبثية النص مما نشر التخيل الإيجابي
المستبعد للأفكار السلبية ليواجه جنوننا النفسي والجسدي نحن المتلقين، هذا ما
يجعله يحلق في سماء أكبر تتجاوز إسار المحلية إلى آفاق أوسع.
هل هذه الصور
أعادتنا لرواية إميل حبيبي في المتشائل؟ أم ان عجيل المقدسي سيكون هو نفسه يوسف
المستهدف من إخوته أو الهندي الأحمر كما جاء بهما محمود درويش؟!.
هل سيكون عجيل
من يقرن الموت بالصخب والحياة بالصمت عكس ما هو متعارف عليه عند الأسوياء ؟!.
نعم ! لقد
عرفت وسرت وحرت وطرت ولذلك تبعت خطواتك أيها الداهشي، وكم أنا سعيد وفخور لأنك
مؤسس مجنون لمدرسة جديدة مجنونه في أدب الرواية الفلسطينية والعربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق