يقدم الصحافي
البريطاني، من أصل فلسطيني، عرضا للقضية الفلسطينية، من خلال تتبع سيرة عائلته في
فلسطين التي تمتد على مدى قرون، لدحض الرواية الصهيونية. من خلال كتابه (فلسطين:
تاريخ شخصي) الذي صدر بترجمته العربية عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في
بيروت، ونقله إلى العربية محمد زيدان، وراجعه د.حسين ياغي.
وكارل هو ابن
عيسى خليل صبّاغ، خريج الكلية العربية في القدس، الذي انتقل في الثلاثينات إلى
بريطانيا، ولم يكن قد أتم عشرين عاما من عمره، ليعمل في إذاعة البي بي سي باللغة
العربية، حيث لمع نجمه، ولم يتمكن من العودة للعيش في فلسطين، بسبب النكسة وقيام
دولة إسرائيل.
وأصبح عيسى
صبّاغ أحد اشهر المذيعين العرب في أثناء الحرب العالمية الثانية وعمل منتجا
للبرامج الإذاعية وأمضى فترة من الوقت مراسلا حربيا للإذاعة.
تزوج عيسى،
زميلة بريطانية له كانت تعمل مساعدة إدارية في الإذاعة، ونتج عن الزواج ميلاد
كارل، ولاحقا تطلق الاثنان.
يذكر كارل:
"جاء عام 1947، واستدعت البي بي سي والدي لينقل تقريرا حول تصويت في أروقة
الأمم المتحدة، تقرر على اثره، وبعد الضغوطات الكبيرة التي مورست على أعضاء
الجمعية العامة، ان على الاغلبية الفلسطينية ان تتنازل عن اكثر من خمسين بالمئة من
ارضها للأقلية اليهودية في فلسطين. وقف العرب في وجه القرار، وكانت النتيجة اندلاع
حرب 1948 والتي انتهت بتأسيس دولة إسرائيل اليهودية على أرض فلسطين. منع والدي
والفلسطينيين كافة في الخارج من العودة إلى وطنهم، وغادر والدي بريطانيا بعد مضي
سنتين وارتحل إلىأميركا، وانشأ هناك إذاعة صوت أميركا العربية، وحاز على الجنسية
الاميركية في غضون سنوات، وبدأ بعدها عملا جديدا في وزارة الخارجية
الاميركية".
الكتاب الذي
كُتب أصلا بالإنجليزية، وموجه إلى قراء أجانب، جعل صبّاغ يعتمد، على مصادر يهودية
صهيونية وغيرها، للحصول على أدلة تؤكد وجود اغلبية عربية في فلسطين، لان ذلك، كما
يقول يقطع الطريق أمام ادعاء وجود تحيز في هذه المصادر.
ونجح صبّاغ،
في مهمته، بحكم اطلاعه، وبحثه، ولكن ما يميز الكتاب، هو ذلك المزج بين تاريخ
عائلته، ومحطات تاريخية مهمة في تاريخ فلسطين، فمثلا يتطرق إلى ظاهر العمر
الزيداني، الذي يصفه بملك فلسطين الأوّل، الذي أقام حكما في مناطق فلسطينية ممتدة
خلال القرن الثامن عشر واستمرت مدة ثلاثين عاما.
ويتتبع، محطات
في حياة أحد أجداده وهو إبراهيم صبّاغ الذي كان: "وزيرا او مسؤولا ذا شأن
رفيع عند ظاهر. وإبراهيم هذا من العرب المسيحيين، وتلقى تقريبا من نوع ما في مجال
الطب، فكان طبيبا خاصا لظاهر، وكان إلى جانب ذلك وزيرا للمالية".
ومن خلال
الوثائق، يصطحب كارل، في بحث ممتع في ما فعله ظاهر وإبراهيم، ونهايتهما المأساوية،
بقدر كبير من الموضوعية، والصدق.
يقدم صبّاغ،
معلومات قيمة عن تاريخ مدن فلسطينية مهمة، مثل عكا، ونابلس، وصفد، من خلال تتبعه
لما كتبه الرحالة، ليؤكد ان فلسطين كانت نابضة بأمكنتها وناسها، حتى بدأ التفكير
بزرع دولة لليهود، وتهجير سكانها.
في الفصل الذي
خصصه لوعد بلفور يكتب صبّاغ: "كان يمكن للعرب الفلسطينيين ان يحكموا دولتهم،
لو لم يفلح رجل يهودي روسي يعيش في مدينة مانشستر في اكتشاف عملية كيميائية
لاستخراج مزيل طلاء الاظافر من ثمار كستناء الحصان".
والإشارة
إلىالزعيم الصهيوني حاييم وايزمن، الذي كان كيميائيا في جامعة مانشستر، الذي قال
لوزير الحربية البريطاني لويد جورج: "كل ما أطمح إليه هو أن أجد فرصة لأقدم
خدمة لشعبي"، وأصبح جورج رئيسا للوزارة خلال الحرب العالمية الأولى، وأدى
دورا مفصليا في الدعم الذي قدمته بريطانيا العظمى للصهيونية، والعمل على إنشاء
كيان لليهود على أرض فلسطين العربية.
يتطرق صبّاغ
بالتفصيل، للمؤامرات التي حيكت ضد فلسطين وشعبها، في أروقة الدول الكبرى،والسياسة
التمييزية للانتداب البريطاني، يكتب مثلا: "بلغت نسبة الأطفال الذين يرتادون
المدارس في أثناء الحكم العثماني أربعة أطفال من كل عشرة، وأغلبهم ذكور، واقتصرت
لغة التدريس على التركية. فجاءت الإدارة البريطانية فجعلت العربية لغة التدريس،
ووضع هربرت صامويل من بين أهدافه انشاء مدرسة في كل قرية، لكن التردد ساد بعد رحيل
صامويل، فيما يخص رفع مستوى التعليم كثيرا بين العرب، تخوفا من أن يشجعهم ذلك على
الانخراط في الأنشطة السياسية. فلم تتجاوز الميزانية المخصصة للتعليم خمسة بالمئة
من الانفاق العام، وحصلت المدارس اليهودية على الثلث من هذه النسبة، مع ان اليهود
لم يزيدوا على عشرين بالمئة من السكان تقريبا، وكانوا كذلك ينشؤؤون مدارسهم
الخاصة".
ويشير صبّاغ:
"كان اليهودي يُقدم عن العربي في فلسطين في مجال العمل والوظيفة، حتى في
المشاريع التي تنفذها الحكومة، وذلك بسبب الضغوطات التي يمارسها الصهاينة".
ويتوقف صبّاغ
عند حيثيات صدور قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني 1947: "بالرغم مما يشيع
الان من توجهات تشكك في مصداقية الأمم المتحدة كمنتدى حقيقي للرأي العام، إلا ان
قلة قليلة فقط هي التي تدرك كيف كان هذه المنظمة تعمل-حتى في السنوات الأولى من
تأسيسها-فريسة بين براثن الدول الكبرى. ولم يسبق ان استخدمت عصا التهديد وجزرة
الرشوة للتأثير على التصويت في الجمعية العامة بمثل هذه الطريقة المفضوحة التي لجأ
اليها الصهاينة في فلسطين وأوروبا وأميركا عام 1947".
لإنجاز كتابه،
ارتحل كارل عيسى صبّاغ، ابن المذيع الذي كان شهيرا في زمنه وعُرف بلقب (شبل العرب)
في أماكن مختلفة في فلسطين، باحثا ومنقبا، ليقدم لنا هذا الكتاب، الذي يمكن
اعتباره واحدا من الكتب المهمة في عرض القضية الفلسطينية، التي يمكن من خلالها
مخاطبة القراء في مختلف أنحاء العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق