رواية المسكوبية للكاتب الفلسطيني أسامة العيسة،
من إصدار دار أوغاريت لعام 2010 والحائزة على جائزة الإبداع العربي .
الرواية تطل على فترة ملتهبة من تاريخ
المنطقة، الثلاثة أشهر السابقة على حصار بيروت عام 1982، وتدور الأحداث فيها عبر
مكان محدد هو سجن المسكوبية، وفضاء محدد هو مدينة القدس، باعتبار المسكوبية جزء من
تراث المدينة، وفضاء عام متمثل في عموم فلسطين، بمدنه وقراه ، التي شاركت في
انتفاضة " الأقصى" الأولى .
الرواية هي سفر في أوجاع أمة، عبر سرد
لتاريخها المأزوم، من خلال الأحداث الهامة، والتي تم التأسيس عليها، في ما لحق، من
حدث روائي.
الثيمة الرئيسية التي بنيت عليها الرواية هي
المعتقل، وما تفرع من الثيمة من أوجه عدة، كحياة الناس في السجون، التعذيب
والإكراه، الظلم الذي يعانيه المسجون، وصولا إلى السجن الكبير، الذي هو الاحتلال،
بما تعانيه المدن الفلسطينية من تخريب نفسي واجتماعي وعمراني.
تبدو الثيمة طاغية على الرواية، بكل
معطياتها، وكأن الثيمة تأخذ بخناق الوحدات السردية، مادامت هي الحدث العام، الذي
يكتنف البشر والمدن. تم توكيد هذه الإحاطة من خلال محاور عدة، أشتغل عليها المؤلف
بشكل بارع، معتبرا إياها مادة سردية، قابلة للقياس والتوسع بمقدار ما يشاء الحدث،
لقد تأكدت الثيمة من خلال السجن وحياة المعتقلين والقضية المركزية لنضال الشعب
الفلسطيني.
عبر رحلة موغلة في القدم التاريخي يؤرشف لنا
أسامة العيسة بناية " المسكوبية "،
بدءا من حرب القرم، التي وقعت في القرن التاسع عشر وتعزيز انتصار روسيا فيها
بإقامة مبنى للمسيح الأرثودوكس في مدينة القدس، على مر التاريخ تم تحويلها إلى سجن، كما في أيام الانتداب
البريطاني ثم الدولة الأردنية وصولا إلى احتلالها بعد عام 1967، لتصبح معتقلا
رئيسيا للثوار ومقرا للتعذيب والإهانة والموت.
حياة المعتقلين في " المسكوبية "، التي
حرص المؤلف في معظم صفحات الرواية، على الدخول التفصيلي فيها، راسما لوحة وفصولا من سيرة العذاب، والتي تبدأ من لحظة دخول
السجين ومروره بأشكال مختلفة من التحقيق والزنازين المرعبة.
في هذا المضمار حرص المؤلف على سرد حوادث جمة
عن معتقلين ، من مختلف الطوائف والأجناس ، بالإضافة إلى نوعية التهم، فمثلا نجد
العرب مع اليهود في القضايا الجنائية والحشاشين مع المثقفين في المراحل الأولى
للتحقيق أو عند الخروج، راويا أصناف شتى من البشر، وهم كلهم سواء في التعذيب
والتخريب النفسي، لكنهم مجتمعون تحت عنوان رئيسي بأنهم مقامون للاحتلال.
تصبح ثيمة الرواية أكثر توكيدا من خلال الإيغال
في تاريخ المكان، المكان الذي يدور فيه الحدث الدرامي، أو المكان العام الذي تجري
فيه خلفية الأحداث، فنجد المؤلف قد وصف غرفة الاعتقال بشكل تفصيلي، وكأنه يفصل
مكوناتها وتأثيراتها على الشخصيات، بل إن الغرف وحالاتها تعكس البعد الزمني، ذاك
السراب الذي يهرب من يدي المسجون.
ينقلنا المؤلف تباعا من الغرفة /السجن إلى
المعتقل الأكبر، فيسوح في مدينة القدس، مستحضرا تاريخ أمكنتها وأزقتها وحاراتها
وبواباتها، وما مر عليها أو طرأ من تغيير وهدم وإزالة، وكأن الرواية استحضار لفضاء
مكاني قبل ما تكون دراما حكاية.
السرد المكاني والتاريخي ينضوي، أيضا، تحت
الفضاء الأكبر، عندما يتم ربط أحداث السجن بتاريخ القضية الفلسطينية، في أهم
مراحلها المفصلية، وما رافقها من قرارات إقليمية ودولية، فتبدو ساحة الأحداث ساخنة،
لاسيما إذا ما تذكرنا أن المرحلة التي
تدور فيها الرواية كانت في خضم المواجهات ما بين السكان والاحتلال في أثناء انتفاضة
الأقصى الأولى وتهيئة لدخول الجيش الإسرائيلي إلى لبنان وحصاره لبيروت.
من هذا يبدو لي أن الحدث الروائي تسرب بيسر
في وسط الحدث العام، فلم نجد في الرواية حدث متنامي، بشخوصه وتشابكه وتداخل
أزمنته، بل كل هذه الموتيفات السردية تتشرب الحدث العام، عندها تصبح الشخصيات
والحدث يتصارعان بمقدار الميلان في الواقع الفلسطيني، في هذا الاتجاه أو ذاك، من
مسيرته.
لقد حرص أسامة العيسة، إبداعيا ، على أن
يبتدئ السرد من منتصف الحدث، عندما أدخل (ربيع القرمطي) إلى سجن "المسكوبية "،
مما هيأ المقاطع السردية بأن تتحرك في دورة مركزة باتجاه الاسترجاع، مستذكرا
بدايات أزمة ربيع القرمطي ، وهي التي خصص لها فصلا تحت عنوان (ثلوج أذار)، أو
الحركة أفقيا في الزمن، ليجعل أحد الفصول بحثا في المكان العام ووضعه تحت أسم (دويلة
المسكوب) ، أيضا أتاح له التحرك باتجاه الخاتمة، عندما تحركت الشخصية الرئيسية
والحدث في الفصل الأخير.
هذه التقنية تطلبت من المؤلف إتباع النسق
التتابعي لحركة الشخصية وتسلسلها، من الحاضر باتجاه الماضي على شكل استرجاع أو من
الحاضر باتجاه القادم، لكن حين يتداخل الحدث الخاص مع العام يلجأ المؤلف إلى النسق
التداخلي، كي ما تتاح له فرصة الانتقاء واختيار
الأحداث المتشابهة، التي تقود إلى بعضها سببيا.
نتيجة لوفرة المعلومات، التي تتدفق من الحدث
العام، ومحدودية حركة الحدث الدرامي التجأ الكاتب، عبر الراوي، إلى صيغة التحقيق،
كأن يتحول الراوي إلى التحقيق الصحفي، يغطي أحداثا معينة، أو إلى محقق تاريخي، بانتقاء
المادة الخام من التاريخ.
هذه الطريقة أتاحت الفرصة لسرد كما هائلا
من المعلومات الجغرافية والسكانية والتراثية عن المدينة والحياة الاجتماعية،
وكلها مبوبة بإتقان في خانة التاريخ السابق، أو الذي يجري بزمن القص .
على هذا تعد الرواية وثيقة مهمة، تؤرخ لمرحلة
في حياة الناس والمكان، بما فيه من تداعيات نفسية واقتصادية.
أختار المؤلف أسما للشخصية الروائية (ربيع
القرمطي) بشكل قصدي بالتأكيد، ليمرر من تحت مدلول الاسم ما يشاء من رؤى فكرية
ومعرفية ، باتجاه ما يحدث من وقائع، لاسيما عندما يطل على الحراك الشعبي، بألوانه
وفصائله، مماهيا موقفا فكريا محددا، يبدو فيه الاعتراض على ما جرى وعلى ما آلت
إليه الأمور من خراب وضياع.
في بداية الرواية نوه لنا المؤلف بأن الحكاية
هذه قد وصلته على هيئة مخطوطة، من شخص لا يعرفه، ومن باب الأمانة أجرى عليها بعض التغييرات
كي ما تصاغ سرديا. هذا التنويه الأولي بالتأكيد سيجرنا إلى تقنية (ميتا سرد)
لاسيما إذا تخلص الراوي من وقع الأحداث واجترح لنفسه وقفات، يناقش بها سير
المخطوطة الأولى، لكني وجدت أن أسامة العيسة، بسبب ضغط الأحداث الواقعية، والواقعية
التسجيلية، جعلته يتخلى عن تقنية الميتا سرد.
يبقى أن نقول أن الرواية الفلسطينية، بشكل
عام، كما هي الرواية العراقية، نتيجة لتشابه الظروف، تمسك بخناقها دائما الثيمات،
وهذا ما يجعل كلا المدرستين تميلان إلى تمثيل الواقع وإعادة بنائه سرديا بشكل
ممتع.
http://www.alarab.co.uk/?id=23773
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق