جلست أم رعد،
على أحد الحجارة البيزنطية الكبيرة الملقاة حول بلاط كنيسة المهد، وتبعتها
زميلاتها المسنات.
استجابت أم
رعد، وزميلاتها، لنصيحة الدليل السياحي، وفضلن عدم إكمال الجولة إلى مغارة الحليب،
وانتظار المجموعة على بلاط ساحة المهد. أتت أم رعد ورفيقاتها إلى فلسطين، من كندا،
التي أصبحت مستقرا لهن، بعد مغادرتهن العراق، اثر العمليات الارهابية التي ضربت
منشآت عامة وكنائس.
تُذكر أم رعد،
بالدكتورة وردية اسكندر، بطلة رواية الروائية العراقية المقيمة في باريس إنعام كجه
جي "طشّاري"، التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية (2014)،
وتقتحم فيها حقب العراق الأخيرة، التي تصدرت أحداثها في السنوات المنصرمة نشرات
الأخبار العالمية، ولكن الروائية تقدم الصورة الأخرى، خلف برود العناوين، وتتغلغل
في معاناة الناس. ترصد همومهم، وأحلامهم، وعوالمهم التي تنهار ببطء، وبقسوة لا
مثيل لها، رغم محاولاتهم التشبث بالآمال والصبر والشجاعة للحفاظ عليها، قبل ان
يكتشفوا بان خيوطها كأنها أوهى من بيوت العنكبوت.
تضطر ورديّة،
الطبيبة العراقية المسيحية التي عملت أكثر من خمسين عاما في بلدها، إلى الهجرة.
هاجر أبناؤها إلى مختلف جهات العالم تحت وطأة الحروب، والظروف التي تسبقها
وتتبعها، ورحل زوجها إلى حيث لا يعود أحد، وتغير عالمها وضاق، واحتله لاعبون جدد،
من الطائفيين، والإرهابيين. تظل ورديّة تقاوم، ولكنها في النهاية تهاجر. مثل
الآخرين الذين "تطشّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات"،
وبالعربي الفصيح: تفرقوا أيدي سبأ.
قالت العجائز،
بانهن يعرفن بيت كجة جي، وبان مأساة الدكتورة وردية، وان كن لم يقرأن الرواية، هي
مأساتهن جميعا.
"هذه اشياء لا نراها في كندا، ما اجملها من
بلاد"-قالت أم رعد التي تأثرت بما شاهدته من معالم وكنائس في القدس وبيت لحم.
وروت كيف
اضطرت إلى مغادرة الموصل، إلى المهجر، وعدم التفكير بالعودة إلى مسقط الرأس: بعنا
المنزل وكل ما نملك، لم يعد لدينا مكان هناك.
وتتدخل إحدى
رفيقاتها: "نشعر بالاستقرار في مونتريال، لم نهاجر إلّا مضطرين، ولا نفكر في
المستقبل المنظور بالعودة".
بدت العجائز
العراقيات يبحن بما يعتمل في صدورهن بلهجة موصلية محببة، ولا يخلو الحديث من
مصطلحات صعبة الفهم، في حين بدأ أحمد، ثقيل الظل، الذي لا يعرف أحد ماذا يعمل
بالضبط أمام كنيسة المهد، سوى انه يلتقط رزقه من هنا وهناك، خطته في كسب ود
العجائز، وأخذ يحدثهن عن مأساته الشخصية، وعدم تمكنه من الحصول على تصريح للعمل في
الداخل، وبانه منذ الصباح لم يكسب الا دولارين فقط.
قالت إحدى
العجائز، بانها جاءت إلى فلسطين، عام 1965، بالسيارة مع زوجها وأطفالها، وزاروا
بيت لحم، والقدس، ورام الله، وأمضوا أيّاما جميلة ما زالت تعيش في ذاكرتها.
"يبدو الأمر وكأنه حلم، ان تأتي بسيارتك من
العراق، وتزور فلسطين، ولبنان، والأردن، كل شيء يتغير في بلادنا"-أضافت بأسى.
عجوز أخرى
قالت بأنها زارت فلسطين في عام 1966م، وتلاحظ التغير الذي طرأ على القدس وبيت لحم،
ليس فقط من حيث التمدد الاستيطاني والحواجز والاسوار، ولكن أيضا: "أذكر القدس
مدينة صغيرة، وكذلك بيت لحم".
وجود العجائز،
التي تشي ملامحهم بطيبة لا متناهية، شجع عددا من الباعة التقدم لهن وعرض بعض
المنتجات، لشرائها، ذكرى من الأرض المقدسة، في الوقت الذي تمكن فيه أحمد من
الجلوس، بجانب إحدى العجائز، والدخول معها في حديث ثنائي، بعد أن أيقن من تجربته،
بان العجائز الاخريات لم يحفلن كثيرا بمأساته الشخصية.
وعندما غادرت
العجائز واحدة بعد الأخرى، فتحت التي يجالسها أحمد حقيبتها، وأخرجت منها ورقة
نقدية، واعطتها له.
تجمعت
العجائز، ليغادرن، وحرصن على القاء نظرة أخيرة على كنيسة المهد، بينما كان أحمد قد
انزوى، وهو يحمل شطيرة فلافل، وعلبة مشروبات غازية، ويرفض كشف أساليبه في الحصول
على نقود، لواحد مثله من متسكعي الساحة، الذي غبط أحمد، رغم شعوره بالغيظ اتجاهه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق